تربية وثقافة

اللهجات اللبنانية الآيلة الى الإندثار..!

د. بلال رامز بكري/ البرازيل
خاص “المدارنت”..
 حين يرجع المرء إلى “معجم البلدان” الشهير، لمؤلفه ياقوت الحموي البغدادي، سيقرأ في مادة لبنان، أنه جبل في بلاد الشام، معروف بينابيعه وبأنه موطن اولياء الله الصالحين والنسّاك والرهبان، الذين اتّخذوا من ذلك الجبل ملاذًا، يعصمهم من الدنيا وأهوائها واغراءاتها. ومما يلفت نظر القارئ في مادة لبنان ايضا، أنه موطن “السبعين لسان”، أي أن الكثير من اللغات موجودة في ذلك الجبل العجيب.
 مرّت الأحقاب والأزمنة، وصار “معجم البلدان” مرجعًا جغرافيا تاريخيًا، له مكانه ومكانته الفريدة بين كتب التراث الإسلامي والعربي، الرائجة بين العامّة والخاصّة، وتحول لبنان من جبل في بلاد الشام إلى دولة ذات سيادة، وكيان مستقل لها حدودها المعترف بها دوليا في زمننا الحديث هذا.
ومع أن زمن الأولياء والنسّاك والرهبان المنقطعين عن الدنيا قد ولّى، إلا أن التنوع اللغوي في لبنان ظلّ على حاله. فعلى الرغم من صغر الرقعة الجغرافية التي يقوم عليها لبنان، فإن لهجات مناطقه كثيرة ومتعددة ومتشعبة، وهي تتغير من منطقة لأخرى، وتبلغ احيانًا ذروة التنوع باختلافها بين بلدتين متجاورتين.
فلهجة أهل البقاع، تختلف عن لهجة أهل بيروت. ولهجة البيارتة، تختلف عن لهجة أهل طرابلس. ولهجة العكّاريين، تختلف كليا عن لهجة ابناء جبل عامل. ولهجة أهل الشوف، مغايرة تماما للهجة اهل كسروان. وحتى لهجة أهل البقاع الشمالي، تختلف عن لهجة أبناء البقاع الجنوبي.
وهنا أحب ان أورد امثلة عن منطقة البقاع الغربي، حيث مسقط رأسي كامد اللوز. فبلدات السلطان يعقوب ولوسي والمنارة (حمّارة قديما)، المنتمية الى أهل السنة والجماعة، يتكلم أهاليها بلفظ “القاف”الصحيح، في حين أن بلدتي كامد اللوز وجارتها غزة، وهما بلدتان متاخمتان لبلدتيّ لوسي والسلطان يعقوب، يلفظ أهاليهما القاف “همزة”.
وحتى بين الجارتين غزة وكامد اللوز، هناك فروقات في اللهجة، يستطيع أبناء المنطقة التمييز من خلالها بين ابن كامد اللوز وابن غزة. منها مثلا الطريقة المميزة التي يلفظ بها أهل غزة حرف “الخاء”.
 ومن المعلوم بشكل واسع النطاق، في كل لبنان، أن معظم المنتمين الى طائفة الموحدين الدروز، سواء في الشوف او وادي التيم وراشيا في لبنان، أو في جبل العرب في الجارة الشقيقة سوريا، انهم جميعا ينطقون القاف كما ينبغي لها أن تُنطَق. وهذا بخلاف معظم أبناء الطوائف الأخرى، الذين يلفظون القاف وكأنها همزة.
اما حرف الضاد، فإنه ينقلب “ظاء” في معظم قرى البقاع الغربي، ولدى جزء من المنتمين إلى الطائفة الشيعية، المتأثرين باللهجة العراقية. اما التاء والثاء، فإن أهل البقاع الغربي يلفظونهما لفظا صحيحا، وذلك بخلاف أهل المدن الكبرى في لبنان، الذي يقلبون الذال “زايًا” ويحوّلون الثاء إلى “سين”. فالثقافة عندهم “سَقافة” والثورة “سَورة”.
 على أن هذا التنوع اللغوي واللهجوي الكبير، الثري بدلالاته، هو تنوع مهدد بالإنقراض، وكل المعطيات اليوم تشير إلى أنه آيل الى الإندثار.
فزمن ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، شهد تحولات وتغيرات جذرية في المشهد اللبناني، لم تسلم منه حتى اللغة واللهجات المتنوعة. ومن أراد دليلا على ما نقول، ما عليه إلا أن يصغي الى شباب اليوم في لبنان. فمعظمهم، ومن كافة المناطق اللبنانية، بات يتكلم بلهجة لبنانية مستحدثة، لا هي بيروتية قح ولا بقاعية ولا جنوبية ولا طرابلسية. إنها مزيج هجين من اللهجات، مع تطعيمات من لغات اخري كالإنكليزية والفرنسية، طغت على فئات الشباب، وأزالت الفوارق اللغوية بين المناطق. ولا ريب أن ثورة الاتصالات والمواصلات والمعلومات، كان لها الدور الأكبر في إذابة الفوارق اللهجوية.
 هكذا، فإن لبنان بأسره يتجه الى أن تسيطر عليه لهجة واحدة موحدة، وهي اللهجة التي توافق بشكل تلقائي على التحدث بها الشباب. فإنك، على الأرجح، لن تعرف اليوم المنطقة التي ينتمي إليها شابٌّ لبناني او شابّة لبنانية ما من خلال اللهجة، ذلك لأن ابن طرابلس بات يتحدث بشكل مشابه لإبن البقاع الغربي.
وستكون محظوظا جدا، لو سمعت الشباب يتكلمون العربية، حتى لو كانت هذه اللهجة الهجينة، فالإنبهار بالغرب، جعل الكثير من الشباب اللبنانين يتبنّون الإنكليزية كلغة للمحادثات بينهم، في استهزاء واضح  للانتماء الوطني والقومي.
 لبنان لم يعد بلد “السبعين لسان”، بل أضحى بلهجته الهجينة المستحدثة هذه، بلد “النصف لسان”. فيا حسرة على كل اللهجات الأصيلة للمناطق، كلها متّجهة نحو الزوال.
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى