“المؤتمر الدّولي” و”قوّة الحماية الأمميّة”!
“المدارنت”..
لم يخرج عن القمة العربية في البحرين سوى عنوانين: مؤتمر دولي للسلام، وقوات أممية لحفظ السلام “إلى حين تنفيذ حلّ الدولتين”. وكان الطبيعي أن تفضي التحليلات من كل صوب إلى أن المطلبين، أو القرارين، غير قابلين للتحقيق، ليس فقط لأن الولايات المتحدة و”إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) ترفضانهما، بل خصوصاً لأن الانقسامات الدولية لا تسهّل اعتمادهما. فالولايات المتحدة لن تقبل بوجود روسيا في مؤتمر كهذا، إذا رعت تنظيمه وانعقاده (كما فعلت في مؤتمر مدريد عام 1991)، كما أنها غير جاهزة بعد لقبول انضمام الصين إلى رعاة الشرق الأوسط، ثم إنها و”إسرائيل” ودولاً أخرى عربية وغير عربية لا تحبذ جلوس إيران إلى الطاولة لما يشكّل من اعتراف بها “شريكة” في رسم مستقبل المنطقة.
كانت السلطة الفلسطينية قد دأبت في الأعوام الأخيرة على المطالبة بـ”مؤتمر دولي”، بعدما فقدت الثقة في مواقف واشنطن وسياساتها، وحاولت حثّ الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي على اعتماده، أما الجديد فهو أنه أصبح الآن مطلباً عربياً.
أما الدعوة إلى انتداب قوة أممية لحماية الشعب الفلسطيني فهي مطروحة منذ عقود، وكان مبررها الملحّ والمباشر أن هذا الشعب واقع تحت احتلال “إسرائيلي” (إرهابي صهيوني) لم يُعترف له يوماً بأي “شرعية” ويستخدم على الدوام ترسانته العسكرية في القمع والإخضاع والفصل العنصري وسلب الأراضي وتدمير المقدّرات ومقوّمات الحياة… وصولاً إلى ممارسة “الإبادة الجماعية”، سواء بالقتل العمد للمدنيين أم باتّباع سلطة الاحتلال سياسة التدمير المنهجي لكل المرافق والخدمات، بالإضافة إلى استهداف منظمات الإغاثة الدولية التي اعتبرها أداة معطّلة لـ”سياسة التجويع” ينفّذها بقرار حكومي.
ولأن “إسرائيل” تتذرّع يومياً بمتطلبات “أمنها”، لم توافق أي إدارة أميركية على إرسال “قوة أممية” إلى الأراضي الفلسطينية، أي أنها رفضت مبدأ “حماية الفلسطينيين”، واندرج تحت هذا الرفض توسّع الاحتلال و”حماية الاستيطان” وتحصين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلى حدّ المشاركة الأميركية أخيراً في ما يشهده قطاع غزّة من جرائم إبادة وخطط للتهجير القسري.
ليس متوقّعاً أن تتعامل واشنطن و”إسرائيل” مع اقتراح قوة الحماية الأممية على رغم أنه فرض نفسه كإجراء واقعي لا بدّ منه. أما لماذا أصبح واقعياً فلأن واشنطن نفسها بادرت باكراً جداً إلى البحث عن إسهامات خارجية، عربية أو أطلسية أو مختلطة في مستقبل قطاع غزّة، ولم تتوصّل بعد إلى صيغة سليمة وعملية وفاعلة. فالدول التي استُمزجت كانت تعتقد أن واشنطن قادرة على تحديد نهاية لحرب ترعاها وتسلّحها منذ يومها الأول، لكن “الإسرائيليين” (الإرهابيين الصهاينة) غرقوا وأغرقوها في حرب يقرّ خبراؤهم بأنها باتت “بلا هدف”، أو ذات أهداف لا يمكن تحقيقها، بل إن غرائز الانتقام زيّنت لأصحابها أن ثمة “جدوى” من مذابح الإبادة، ومن مواصلتها لتحقيق المصالح الاستيطانية في القطاع، ولذا يستبعدون البحث في “اليوم التالي” لأنهم هم أنفسهم لا يرون أي نهاية للحرب. فبعد غزّة ربما هناك الضفة الغربية، وربما جنوب لبنان، وربما سوريا، وربما، وربما..
عدا البحث عن مساهمات عربية وغير عربية مفترضة في “اليوم التالي”، رمت واشنطن فكرة “دولة فلسطينية” وطرحت مقايضتها بـ”التطبيع” العربي مع “إسرائيل”، متجاهلة أن هذه الـ”إسرائيل” باتت مع حرب غزّة دولة مارقة، ولم تعد مؤهلة دولياً، ولا عربياً بالتأكيد، فأقلّ ما تشعر به الدول التي طبّعت علاقاتها معها، سابقاً أو حديثاً، هو النفور من متطرّفيها ومن وحشيتها، وخيبة أمل كبرى من إصرارها على إدامة الاحتلال واستبعاد أي سلام. لكن مجرد التلويح الأميركي بإمكان الاعتراف بدولة فلسطينية، والتجاوب الأوروبي، خصوصاً البريطاني معه، أوحى الى الجانب العربي، بأن هناك “جديداً” يمكن البناء عليه، وإنْ كان يحتاج إلى ضوابط ما دامت الحكومة والكنيست “الإسرائيليّتين” قد صادقتا على قرارات ترفض مسبقاً أي بحث في “دولة فلسطينية” وتتمسّك بسياسات طُبّقت في الحرب بموافقة المتطرّفين و”الوسطيّين” واتضح أنها ترمي إلى إخلاء فلسطين من أهلها.
هذا ما أتاح لقمة البحرين أن تؤكّد ما تردّد في الكواليس عن مطالبة عربية بأن يكون هناك مسار واضح لـ”الدولة” المنشودة وبسقف زمني محدّد. وبما أن إدارة جو بايدن تريد إنجازاً يميّز إرثه السياسي وتلحّ على “التطبيع العربي” الكامل مع “إسرائيل”، فإن اللحظة مناسبة لإبلاغها أن “التطبيع المجاني” غير مجدٍ لأي طرف، وأيضاً لانتزاع التزام أميركي جدّي منها بتحقيق “حلّ الدولتين”.
وهكذا جاءت فكرة “قوة الحماية الأممية” في وقتها، إذ لا يمكن تصوّر وضع تولد فيه “دولة فلسطينية” ترفضها “إسرائيل” فيما هي تفرض احتلالاً عسكرياً كاملاً لقطاع غزّة ويمارس جيشها ومستوطنوها أسوأ أنواع الانتهاكات في الضفة. وبما أن “إسرائيل” تريد حرباً مستمرة لتحقيق أهدافها فلا بدّ، إذاً، من “حماية” للفلسطينيين ليبقوا في أرضهم وينتظروا دولتهم.
يدرك العرب أن هذه “الحماية” التي يطالبون بها للفلسطينيين ليست سهلة المنال لكنها ليست مستحيلة، فالقانون الدولي يجيزها وحرب الإبادة “الإسرائيلية” تبرّرها. ثم إن القوة الأممية تشكّل البديل الأفضل لأي قوّة تسعى الولايات المتحدة (وإسرائيل) إلى توريط دول عربية فيها. ومع أن واشنطن اعتبرت غداة قمة البحرين أن طرح “القوّة الأممية” يمكن أن يسيء إلى مساعي وقف إطلاق النار في غزّة، إلا أنها رفضته في مختلف مراحل الصراع بذرائع شتّى. ومنذ “اتفاق أوسلو” والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، أصبح مطلب “الحماية” ممكناً، لكن واشنطن حرصت على إخراجه من التداول طوال العقود الثلاثة الماضية، وكانت حجّتها أن هناك “عملية سلام”، وأن “السلام وحده كفيل بضمان الأمن للجميع”.
الواقع أن وجود قوّة أممية لحفظ السلام يستوجب حكماً تجميد الأنشطة “الإسرائيلية” التي صمّمت لتعطيل “حلّ الدولتين”، من الاستيطان الذي يعبث بالحدود، إلى فرض الأمر الواقع الاحتلالي على الأماكن المقدّسة، إلى انتهاك الحقوق الفلسطينية في كل المجالات… كان يُقال إن هذه مسائل متروكة للمفاوضات لكن إسرائيل راحت تحسمها بالقوّة بعدما أوقفت حكوماتها كلّ تفاوض منذ 2014. يبقى الأهم وهو أن انتداباً لقوّة أممية من شأنه أن يحجّم “وظيفة” إسرائيل في المنطقة العربية، وهو أمر لن تكون الولايات المتحدة والدول الغربية جاهزةً لبتّه في أي يوم.
إذ يطالب العرب بـ”مؤتمر دولي”، فإنهم يرمون إلى استرجاع “عملية السلام” برعاية دولية تضع حداً للعبث الأميركي، وإلى منع الصراع “الإسرائيلي” – الإيراني من التمدّد في عموم المنطقة العربية. أما وقف إطلاق النار الذي تدّعي واشنطن السعي إليه فلا يمكن تحقيقه واستدامته إلا بـ”قوة أممية” تنهي الانتهاك الإسرائيلي المستمر للقوانين الدولية، أو هكذا يُفترض.