مقالات

المارونية السياسية والقومية العربية في مؤتمر باريس 1913!

معقل زهور عدي/ سوريا

خاص موقعيّ “المدارنت” و”ملتقى العروبيّين”
في مؤتمر باريس ظهر الدور السياسي للمثقفين والسياسيين اللبنانيين , وقد شكلوا الجناح الأكثر راديكالية في دفع الحركات القومية العربية نحو التشدد في المطالب الاستقلالية , وكان على رأس ذلك التيار السياسي الأديب والصحافي اللبناني شكري  غانم، الذي احتل مركز النائب لرئيس المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913، في حين كان عبد الحميد الزهراوي رئيسا للمؤتمر.
في ذلك الوقت كان شكري غانم رئيسا للرابطة اللبنانية التي تأسست في باريس منذ العام 1912 وكانت تهدف إلى توسيع نطاق متصرفية جبل لبنان لتضم البقاع وعكار والجنوب واستعادة مرافىء طرابلس وصيدا وبيروت, لكن هدف الاستقلال التام لم  يكن واضحا,  وفيما بعد انخرط شكري غانم مع الحركات القومية في مؤتمر باريس، ليمثل الجناح المتشدد بينما مثل عبد الحميد الزهراوي الجناح المعتدل الذي ظل يعمل لبقاء العرب ضمن الدولة العثمانية مع تحقيق  مطالبهم الاصلاحية.
يعلق جورج سمنة على طبيعة المطالب التي تشبه مطالب المؤتمر والتي انفرد بتقديمها وفد من أعضاء المؤتمر على رأسه شكري غانم بالقول: “مما لا شك فيه أن الآمال الانفصالية لم تكن بعد قد صيغت بسبب استحالة التعبير عنها علنا ورسميا.. إذ كان يجب انتظار الحرب حتى يسمع صوت السوريين (طبعا يقصد اللبنانيين حيث لم تكن الهوية اللبنانية معتمدة في الأدبيات الرسمية)”.
وبالفعل ما إن نشبت الحرب حتى ارتفعت بعض الأصوات السورية في الخارج تطالب بالتحرر من الحكم التركي فيصدر عام 1916 في باريس كتاب ندرة مطران: ”سوريا الغد – فرنسا وسوريا”، وفيه يدعو الكاتب وهو عضو المؤتمر العربي عام 1913 والذي اشترك بنشاط في أعماله ومقرراته إلى تحرير سوريا بمساعدة فرنسا ويقترح نظاما سياسيا لسوريا تحت وصاية فرنسا ويستبعد أي إمكانية لقيام دولة عربية مستقلة.
(*) كتاب وجيه كوثراني: ”وثائق المؤتمر العربي الأول 1913“
بعد ذلك ومنذ العام 1915 ظل شكري غانم يدعو لوحدة سورية الطبيعية لكن تحت الانتداب الفرنسي وادارتها بطريقة فدرالية حتى شباط  من العام 1920 حين بدّل رأيه للمطالبة بلبنان الكبير المستقل استقلالا تاما عن سوريا، وفق ما كتب البطريرك عبد الله خوري رئيس الوفد اللبناني إلى مؤتمر الصلح  في باريس المنعقد اعتبارا من العام 1919 .
(**) ”دراسة عصام خليفة حول شكري غانم”.
أيضا برز دور جمعية الاصلاح اللبنانية البيروتية التي تكونت مطلع العام 1913 من اثنين وأربعين عضوا من الطائفة الاسلامية، مقابل ذات العدد من الطائفة المسيحية، واثنين من الطائفة اليهودية, وقد قامت بوضع برنامجها السياسي بصورة لائحة إصلاحية لولاية بيروت وسائر الولايات العربية، تتقاطع مع مطالب مؤتمر باريس الذي عقد لاحقا ومنها جعل اللغة العربية لغة رسمية في مجلس “المبعوثان” واعتماد اللامركزية في الولايات العربية ومنها ولاية بيروت. وقد شاركت الجمعية لاحقا بفعالية في مؤتمر باريس.
من خلال ماسبق يمكن ملاحظة أن النزعة الاستقلالية اللبنانية كانت حاضرة ضمن النخب السياسية اللبنانية بخاصة ضمن الموارنة, لكنها كانت مشبعة بالفكر القومي العربي بتأثير النهضة الثقافية القومية العربية والتي كان لبنان المساهم البارز في إحيائها. كما أنها كانت تجد في النخب السورية القومية سندا لها  في مسعى الاستقلال في تلك المرحلة التاريخية وحين لاحت بوادر انهيار الدولة العثمانية، وتردد الحديث في الغرب عن مصير المشرق العربي كجزء من ميراث تلك الدولة، وبصورة خاصة حين اشتعلت الحرب العالمية الأولى انحازت النخب المارونية بصورة شبه تامة إلى جانب الحلفاء، بينما كانت النخب السورية مترددة في اتخاذ مثل ذلك الموقف، وكان بعضها يفضل الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية (تيار شكيب ارسلان) بينما البعض الآخر كان يفضل الوقوف على الحياد ما أمكن لغاية انتهاء الحرب.
أسفر وقوف المارونية السياسية بصورة تامة مع الحلفاء عن إضعاف الفكر القومي العربي داخلها لصالح تفكير جديد يراهن على وطنية لبنانية مستقلة برعاية فرنسية.
برز ذلك جليا في خطاب شكري غانم في مؤتمر الصلح في باريس محاولا نفي تمثيل الأمير فيصل لسورية التي كانت تضم لبنان، حيث وُصف خطاب شكري غانم كالتالي:
”إنه يتكلم باسم أكثر من مليون شخص عانوا العذاب والاضطهاد “يقصد المسيحيين” وطالب لهؤلاء بالحرية، لكنه لا يقبل أن يكون تحرير سورية عن طريق الحجاز، كما أنه لا يرضى أن تكون له صلة بالحجاز، وعارض أن يتكلم فيصل باسم جميع الناطقين باللغة العربية وباسم سورية، واستنكر ضم سوريا إلى الجزيرة العربية، واصفًا ذلك بـ”افتئات صارخ”، على قدسية الأرض التي أنبتت هذا الشعب وعلى تاريخه”.
بخطاب شكري غانم، كانت النخب السياسية المارونية تودع مرحلة الفكر القومي العربي في ميدان السياسة، نحو فكر لبناني يحاول بناء سردية ثقافية تاريخية مغايرة، يعبر عنها سياسيا ليس فقط بنزعة استقلال عن العرب، ولكن حتى عن سوريا كما اتضح لاحقا.
لكن ما ينبغي الاشارة إليه أن الدولة العثمانية بأجهزتها السياسية والأمنية لابد وأنها كانت ترصد ما يقال في مؤتمر باريس وبعد المؤتمر بخاصة مع اشتعال الحرب العالمية الأولى واصطفافها مع دول المحور ضد الحلفاء وهكذا قدم أمثال شكري غانم وندرة مطران للاتحاديين الدليل الذي يشير لانخراط النخب العربية التي عقدت مؤتمر باريس في الحلف المعادي لتركيا, وكان لذلك بالتأكيد أثره في دفع الاتحاديين نحو تشديد القبضة الأمنية على بلاد الشام، وارسال جمال باشا لوضعها تحت الحكم العسكري، وتوجيه ضربة لنخبها الثقافية بإعدام عشرات منهم وسجن آخرين، رغم أن النخب العربية لم تكن وقتها قد اتخذت موقفها النهائي من الانفصال عن الدولة العثمانية.
لقد لعب المتطرفون من الجانبين الدور نفسه في فصم عرى العلاقة التاريخية بين العرب والأتراك، وتشجيع الدول الغربية الكولونيالية على ما سماه الساسة الفرنسيون: ”قطف الثمرة الناضجة”، أي وقوع المشرق العربي تحت الهيمنة الغربية لعقود طويلة لاحقة.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى