تربية وثقافة

المحطة رقم “6”

       أبو عبيدة/ إيطاليا

//خاص المدارنت//... كأنك تعيش أبعاداً زمنيةً أخرى، يتملّكك التردد في كل خطواتك، تريد أن تعيش كما الناس ولكن، كأنك ستعود هناك غدا، وتعيش رغباتك كأنها الحقيقة، فلا تشتري بيتاً! فأنت تجمع لتبني بيتاً هناك، ولا تختار سيارة تليق! لأنك تدخر لمشروع هناك، ولا تقتني ما تحب! لأنك تريد أن تنعم بما تحب مع من تحب هناك، فالمهاجر جسدك المقيم وروحك التي لا تعرف الإستقرار، فهي تتركك وايامك واحلامك لتسافر مع كل فجرٍ… مع كل غروبٍ… مع صوتِ اغنيةٍ… في مواعيد الصلاة… مع هطول المطر… هكذا تصبح انت، روح تعشق السفر، وجسد يكبلّه جواز سفر.

تتنعم من الأيام نصفها، وتأخذ من السعادة بعضها، وحدهما الحزن والحنين تعيشهما بأدق التفاصيل. لغة الآخر كالجدار تقف، امام اندفاعك، ورغبتك في الوصف والدفاع عن الإنسان المهاجر فيك في سنين الغربة الأولى.

تدرك بأنك تدرس وتتعلم لغة الآخر، وتنهل من ادبها وشعرها وقصصها، ولكنك لن تمتلكها ابداً. مهما كانت جميلة مخارج حروفها، وبلاغة عباراتها، لن تكون يوماً أدقّ تعبيراً وأصدق من لغتك الأم.

يزداد عشقك للغتك وانت بعيد، وتتقد غيرتك عليها، تبحث وتبحث في معاجمها عن أجمل اسم لإبنتك، تحاول أن ترفع صوتك حين تؤذن في أذن مولودك، راغباً بإسقاط سحرها على من حضر الحدث، آملاً ان يصل  الىقلب مولودك بعضاً من عشقك لها، ولكن الغربة بواقعيتها المريرة لها رأي آخر، فاولادك منك نعم! ولكنهم أيتام اللغة.

هنا أمضى الكاتب ليلة من أيلول 1989 بصحبة رفيقيّ رحلته الى المجهول

كيف لإبنك، ايها المغترب ان يعشق الشعر؟ وهو لم يمضغ حروف لغتك بعد فطام؟ قد يحب فيروز، ولكنه لن يعيش صبحها، قد يغني الوطن ومارسيل وقعبور، ويسافر مع كلمات درويش والنواب، ولا تغادره دمعة واحدة… هي الغربة، تعطيك الكثير، ولكنها تخادعك لتسرق منك أكثر.

تعطيك السعادة مُنتقصة، تهبك الجمال المجبول بمرارة المقارنة وفيض الحنين، وتباغتك حين تخطف رفيق سفرك، لتوقظك من أوهام المسافر، بأن الموت لم يأخذ مكاناً له في حقيبة سفرك.

… كان يدفع بدراجته في عتمة الليل، بعد يوم عمل وأحلام، دانية تنتظره، محمد ابن الشهرين في حضن زوجته ينتظره، وكانت ثمار بداية مشوار غربته في أول ربيعها، توعد بحصادٍ جميل، ولكن ذاك الصيف كان قاسياً، كان حاراً جداً على غير عادته، سقط رفيق السفر… وكان موعدنا مع الموت… الموت في الغربة.

لا مأذنة تنادي منها لإعلان موعد الوداع، ولا مقابر تحرث فيها قبراً، ولا ضيعة بأهلها تحيط بك لشدّ أزرك في وقفتك مدهوشاً أمام رهبة الموت.

تكتشف كم انت غريب، كم انت وحيد، كم انت بعيد، بعد أن أطلق الموت سهمه واختار رفيق درب السفر، وتسرع لتعود به، وكأنك لا تريد أن ينال صقيع غرفة الاموات، من لهيب شوق جسده الى الوطن.

الوقت ثقيل، وترى في كل المعاملات إهانة لمسافرٍ حالم، كان قد احتال على كل أنواع الموت، مغادراً وطن الحروب، ليلقى موته ينتظره على حافة طريق في بلاد الأحلام.

البارحة فقط او قبلها بيوم، كان يحمل حقيبته وجواز سفره، وصدى ضحكات المغامرين، ما يزال في الأفق، وها أنت اليوم تعود به، وفي يدك جواز سفره الخاص، وأختامه القاسية، وصلاحيته لرحلة واحدة… هي الأخيرة.

تنظر إلى المقعد المحاذي في الطائرة، فلا تراه، وحدها الذكريات بقيت، تلك التي حضَنْتها قبل إحكام رباط الكفن.

 

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى