المدنيون والحرب..!
“المدارنت”.. لا يشكل المقاتلون في قطاع غزة، أكثر من واحد بالمئة من عدد السكان، وفقاً لتقديرات مراجع متابعة لملف الحرب على القطاع المنكوب، بينما يشترك في القتال الدائر في لبنان، أقل من هذه النسبة، وتطال الحرب المدمرة التي تشنها “إسرائيل” كافة سكان القطاع، وأغلبية المناطق اللبنانية.
ويقول أحدث بيان صدر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر (4-10-2024)، أن المدنيين هم الأكثر عُرضةً للخطر. والمتحدث باسم هيئة الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك قال «إن عدد الضحايا المدنيين في لبنان من جراء الحملة العسكرية “الإسرائيلية” غير مقبول إطلاقاً».
آخر الإحصاءات الرسمية عن نتائج العدوان على غزة ولبنان، تشير الى سقوط أكثر من 45 ألف ضحية (شهيدًا) و133 ألف جريحًا من الفلسطينيين، و2,100 ضحية و12 ألف جريحًا من اللبنانيين. ولا يمكن تخيُل حجم الأضرار المادية التي حصلت، بحيث طالت 90% من المباني السكنية في قطاع غزة، إضافة الى تدمير المنشآت العامة من مدارس وجامعات ومساجد وكنائس، وطال العدوان مجموعة كبيرة من المستشفيات ودور حضانة الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة.
ولم تسلم قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة والصيد البحري من الدمار، بحيث أصبح 99 بالمئة من سكان القطاع الأحياء يحتاجون لمساعدات للبقاء على قيد الحياة، بينما مأساة الجرحى ومُعوقي الحرب لا توصف.
وأنتجت الحرب “الإسرائيلية” على لبنان، التي تفاقمت منذ 17 أيلول/سبتمبر الماضي، مشاهد مروِعة حلَّت بالمدنيين، ومن بين هذه النتائج «محرقة» تقنية موصوفة حصلت عندما تمَّ تفجير أكثر من 5,000 جهاز (بيجر)، كان قسم كبير منها بأيدي مدنيين ومُسعفين صحيّين ومساعدين اجتماعيين، وبعضها كان مركوناً في منازل أهالي مقاتلين يقطنها أطفال ونساء وشيوخ، ليس لهم أي دور في القتال. وقد قتل عدد كبير من المستهدفين الأبرياء وأصيب بالعمى وبتر الأطراف عدد آخر منهم.
والتعديل الذي حصل في العام 1967 لاتفاقية باريس الدولية التي تحمي الصناعة، أشار الى منع كل أشكال استغلال الصناعات المدنية التجارية لأغراض حربية تُسبب الأذى للمدنيين.
وما يحصل من قصف وتدمير في مناطق لبنانية عدة، لا يتماشى مع أبسط الضوابط التي نصَّت عليها اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 (حماية المدنيين وممتلكاتهم إبان الحروب) بحيث تستخدم أسلحة دمار شامل لاستهداف بعض الأشخاص، وتسوّى المباني السكنية بالأرض، وهي تُسبب ضرراً للمباني المجاورة الى مسافة 500 متر، بحيث تصبح في حالة اهتزاز لا يمكن استخدامها – حتى ولو توقفت الحرب – بسبب الارتجاجات القوية للقنابل المدمرة الكبيرة الحجم.
أما الحديث عن مأساة النازحين من المدنيين، فيطول، ذلك أن الأغلبية منهم لا يملكون أي قدرة على توليف حياة خارج بلداتهم وبيوتهم التي وضعوا فيها ثمرة عمرهم، وهي تهدمت أو تضررت أو أنهم لا يستطيعون السكن فيها حالياً، كما في أغلبية قرى الجنوب اللبناني ومعظم منازل قطاع غزة في فلسطين.
ويفترش بعض من هؤلاء الناجين أرصفة الشوارع مع عائلاتهم في البرد والحرّ، ومنهم من يأوي الى مدارس أو الى منازل مؤجرة في مناطق لبنانية نصف آمنة، لأن الأمان المطلق غير موجود نهائياً في أية منطقة، لأن القصف الإسرائيلي يطال بلدات بعيدة عن أماكن القتال، وليس لها أية علاقة بما يجري.
من الواضح أن المساعدات التي تقدَّم لضحايا الحرب من المدنيين – خصوصاً في لبنان – تأخرت هذه المرة على عكس المرات السابقة التي حصل فيها عدوان إسرائيلي، لاسيما في صيف العام 2006. ولكن بعض هذه التقديمات الإنسانية وصلت – خصوصاً من الأردن والإمارات العربية المتحدة وغيرهما – ولكن كمية التقديمات لا تُقاس بحجم الخسائر الفادحة التي تكبَّدها المدنيون، فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.
خصوصية الحرب الضروس التي تُشَنّ على الفلسطينيين واللبنانيين منذ عام، تختلف عما سبقتها من حروب، لأن أخطاء كبيرة رافقتها، أو ساعدت في حصولها، ووقعت في زمنٍ تطورت فيه وسائل القتال بشكل واسع. وبينما كان الأمل في استخدام التكنولوجيا المتقدمة في الحرب سيخفف من منسوب الأذى للمدنيين ويراعي القطاعات الصحية والإنسانية، لأن أنظمة الرقابة الجوية وأجهزة تحديد الأهداف «بالليزر» دقيقة ولا تخطئ، فإذا بنا نرى العكس تماماً، فنسبة الضحايا من المدنيين ازدادت، كما أن حجم الأضرار المادية تضاعف عما كان في الحروب السابقة.
ما يجري يطرح أسئلة جدية حول نوايا القوى الدولية الكبرى التي أسهمت في إنتاج القوانين الدولية – لاسيما منها التي تتعلق بالقانون الدولي الإنساني الذي يحمي المدنيين إبان النزاعات المسلحة – فهذه القوى، خصوصاً الولايات المتحدة، تمنعت عن القيام بالحد من المجهودات التي تحمي هذه القوانين، وبات النظام الدولي برمته قاب قوسين أو أدنى من السقوط بالكامل، لأن التفلُّت من العقاب على الجرائم الدولية التي تُرتكب، ومنها جرائم إرهابية موصوفة، سيزيد من منسوب التطرُّف، وسيؤدي الى تراجع الاستقرار على المستوى الدولي… فلا بد لهذه الحرب المُتوحشة أن تتوقف، ولا بديل عن فرض النظام في العلاقات الدولية كضمان للسلام العالمي المنشود.