المشترك بين سياسات “إسرائيل” وإيران وتركيا في الشرق الأوسط!
“المدارنت”..
يجد الشرق الأوسط نفسه عند مفترق طرق، ويواجه سؤالاً أساسياً: كيف يمكن للمنطقة أن تضع حداً للحروب وتؤسس لإطار أمني شامل يخفف التوترات ويمنع الصراعات المستقبلية ويضع الأساس للسلام الدائم؟
إن بعض النخب الحاكمة ومنظمات المجتمع المدني تضع ثقتها في القوى العالمية ــ مثل الولايات المتحدة، أو الصين، أو روسيا، أو الاتحاد الأوروبي ــ للتدخل وتحقيق الاستقرار في المنطقة. ولكن الواقع بعيد كل البعد عن مثل هذه الأوهام. ففي حين أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي للشرق الأوسط، وموارد الطاقة، والثروات التي يمتلكها تجعله لا غنى عنه للسياسة العالمية، فإن الولايات المتحدة والصين تبدوان مهتمتين في المقام الأول بحماية مصالحهما المباشرة، في حين يبدو أن روسيا والاتحاد الأوروبي، في صراعهما مع تضاؤل نفوذهما الإقليمي، يركزان على إنقاذ مصالحهما المتبقية. وعلى نحو جماعي، تفتقر هذه القوى إلى رؤية متماسكة أو إطار سياسي قادر على التخفيف من التحديات البنيوية التي تديم دورات الصراع فـي الشـرق الأوسـط.
ويشير ذلك إلى حقيقة لا يمكن إنكارها، ألا وهي إن المسؤولية عن إنهاء الحروب وشق طريق نحو الاستقرار تقع الآن على عاتق الدول الإقليمية المؤثرة. والشاهد أن استعداد هذه القوى الإقليمية للتعاون سوف يحدد ما إذا كان الشرق الأوسط قادراً على تجاوز دورات العنف والخروج ككيان أكثر استقراراً وتعاوناً في مشهد عالمي متزايد الديناميكية وغير قابل للتنبؤ. والشاهد أيضا أن القوى الإقليمية غير العربية، إسرائيل وإيران وتركيا، هي الأكثر تهديدا للأمن في الشرق الأوسط والأكثر نزوعا لاستخدام الأداة العسكرية في سياساتها.
وعلى الرغم من ظهور إسرائيل كفائز استراتيجي في الصراع الحالي في الشرق الأوسط، فإنها تجد نفسها في موقف محفوف بالمخاطر. إن ضرورة استمرار الضربات العسكرية لمنع «محور المقاومة» من استئناف الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار من شأنها أن تديم حالة عدم الاستقرار.
وفي الوقت نفسه، فإن جنون طرح تهجير أهل غزة، وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، والحفاظ على الوجود في الأراضي اللبنانية، والاستمرار في شن الاعتداءات على سوريا، تفشل في خلق الأمن الدائم. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الإجراءات تعيق جهود التطبيع مع جيرانها الإقليميين.
إن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، في حين تواصل الترويج للخطاب التفرقة والاستراتيجيات العقابية ضد إيران وحلفائها، تدرك على الأرجح أن القوى الإقليمية الأخرى، مثل تركيا، ليست مهتمة بالإطاحة بالجمهورية الإسلامية أو تفكيك إيران كدولة. ولكي تتمكن إسرائيل من تجاوز هذه الدائرة الدموية، يتعين عليها التخلي عن سياسات العنف والإكراه والهيمنة أحادية الجانب وإنكار حق تقرير المصير للفلسطينيين.
وبدلاً من ذلك، يتعين عليها أن تسعى إلى تحقيق توافق إقليمي يهدف إلى التوصل إلى تسويات سلمية وترتيبات أمنية جماعية وترسيم حدود ومجالات نفوذ متبادلة. وبدون هذا التعديل الاستراتيجي، تخاطر إسرائيل بالبقاء متورطة في صراع لا نهاية له يقوض السلام الإقليمي.
أما إيران فهي اليوم تواجه انهيارا في نفوذها يبدو أنه لا رجعة فيه. ولن تمكنها الاستراتيجيات التقليدية لاستعادة النفوذ من العودة إلى ما كانت عليه في غزة ولبنان وسوريا. إن قيادة الجمهورية الإسلامية، كما تنعكس في التصريحات العامة التي أدلى بها المرشد الأعلى خامنئي وغيره من كبار المسؤولين، تدرك ذلك جيدا. فقد انهارت رواية «محور المقاومة» تحت الضغوط المستمرة من الصراع والدمار والتفوق العسكري الإسرائيلي الساحق، الأمر الذي جعل طهران أكثر عُرضة للخطر ومعزولة في المنطقة. ولكي تضمن إيران حضورها الإقليمي، فإن التحول الأساسي في نهجها الخارجي أمر ضروري بحيث تبني المزيد من الجسور مع الدول العربية وتركيا.
أما تركيا، وهي تأرجحت طويلا بين التطلعات العثمانية وسياسات دعم الإسلام السياسي قبل أن تتحول إلى موقف تصالحي، فقد أصبحت الآن على أهبة الاستعداد لتعزيز سلسلة من المكاسب الاستراتيجية. وتشمل هذه المكاسب إنجازات كبيرة في سوريا حيث استفادت من تضاؤل نفوذ إيران، فضلاً عن التنسيق الديبلوماسي الناجح مع لاعبين رئيسيين آخرين كما هو الحال مع السعودية ومصر والإمارات.
علاوة على ذلك. وعلى الرغم من هذه النجاحات، يدرك الرئيس أردوغان وحكومته التحديات المتمثلة في ترجمة الانتصارات القصيرة الأجل إلى أهداف مستدامة. ولتحقيق اندماج الميليشيات المدعومة من تركيا في هياكل الحكم في دمشق، وممارسة الضغط الفعال على الفصائل الكردية التي تعتبرها أنقرة إرهابية، وتسهيل عودة ملايين اللاجئين السوريين من الأراضي التركية، وقيادة جهود إعادة الإعمار في المناطق التي مزقتها الحرب، يتعين على تركيا أن تنسق جهودها مع الدول العربية المؤثرة في الشرق الأوسط.
والمسار الوحيد الممكن هنا هو التوافق على إرساء نظام للأمن الجماعي في الشرق الأوسط والتغلب على العقبات الكبرى. ومن أبرز هذه العقبات الاعتماد المستمر على الأدوات العسكرية من قبل إسرائيل وإيران وتركيا وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مما يجعل من الصعب بناء رؤية مشتركة لإنهاء الحروب. ويزيد من الصعوبة تآكل المبادئ الأساسية لدبلوماسية إنهاء الحروب والصراعات في المنطقة مثل «الأرض مقابل السلام» و«تقرير المصير» والحق قبل القوة» وغيرها.
وأحسب أن مصر والسعودية والإمارات، وقطر أيضا، تستطيع قيادة الدبلوماسية الإقليمية والسعي إلى إطلاق مجموعة أمنية إقليمية على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وتدعو إسرائيل وإيران وتركيا نظير الالتزام الكامل بالمبادئ التالية:
1/ عدم التدخل: احترام سيادة الدول والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
2/ حل النزاعات سلميا: اعتماد الحوار والتفاوض وبناء الإجماع لحل التوترات والصراعات.
3/ إنهاء العسكرة: الالتزام بوقف التدخلات العسكرية المباشرة والوكالة، ووقف دعم الميليشيات المسلحة، والامتناع عن استخدام القوة كأداة سياسية.
4/ دعم تقرير المصير: الجهود الرامية إلى إنهاء الاحتلال، وتفكيك المستوطنات، ورفع الحصار لتمكين الشعوب التي تسعى إلى تقرير المصير من تحقيق ذلك في أطر واقعية.
5/ استعادة عافية وتماسك الدول القومية: مبادرات لإعادة بناء واستقرار الدول المجزأة أو المنهارة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإنهاء وجود الجهات الفاعلة غير الحكومية المسلحة والميليشيات الإرهابية.
من خلال إعطاء الأولوية للأمن الجماعي، فإن هذا الإطار من شأنه أن يوفر مسارا لحل الصراعات المتجذرة وتعزيز التنمية المستدامة في الشرق الأوسط.