مقالات

المفاوضات الأميركية – الإيرانية وورقة العراق!

ترامب وخامنئي

“المدارنت”..
ظل خطاب “الإسلاميين الإيرانيين” عدائيًا تجاه الولايات المتحدة الأميركية، خلال فترة حكم شاه إيران محمد رضا بهلوي، وربما كان دور الولايات المتحدة في الإطاحة بحكومة مصدق عام 1953 عاملا حاسما لتكريس خطاب الكراهية هذا. لكن هذا الخطاب تحول من سياسي إلى عقائدي مع الخميني، بدأ في منتصف الستينيات مع استخدامه لعبارة «الاستكبار الأمريكي» ثم ازدادت حدته بعد نجاح الثورة الإسلامية، وبداية توصيف أمريكا بـ«الشيطان الأكبر».

ومراجعة كتابات الخميني وخطاباته، تكشف تركيزه على ذكر هذا العداء للولايات المتحدة وتكريسه لخطاب الكراهية تجاهها؛ ففي كتابه «الحكومة الإسلامية» الذي صدر عام 1970 يقول الخميني إن الأمريكيين إذا استمكنوا «فانهم لن يبقوا على الإسلام ولا على أهل السنة ولا على الشيعة»! وكان يحذر دائما من «المتعاونين» الذين يضعون أيديهم في أيدي «شياطين العالم» حتى «يقضوا على صوت الإسلام المحمدي»!
لكن هذا العداء العقائدي كان يتوارى تماما عندما يتعلق الأمر بالعراق، لتحضر البراغماتية الإيرانية وتتجسد! فقد سمح الخميني للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (وقد كان الخميني شخصيا خلف تشكيله عام 1982 لجمع المعارضين العراقيين «الشيعة» في كيان واحد، وترأسه لحظة التأسيس آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي الذي كان أحد أعمدة النظام الإيراني) بأن يكونوا طرفا رئيسيا في الحوار مع الولايات المتحدة، بعد صدور قانون تحرير العراق في العام 1998، ولم يقف الأمر عند حدود الحوار السياسي، بل سمحت إيران للمجلس الأعلى وذراعه العسكري «فيلق بدر»، الذي يعمل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني، بتلقي أموال من «الشيطان الأكبر» ضمن برنامج خاص؛ فوفقا للوثائق الأمريكية، تحديدا الأمر التنفيذي (P. D. 99.13) الذي أصدره الرئيس بيل كلينتون عام 1999، كان المجلس الأعلى واحدا من ستة تنظيمات مُوِلت بموجب قانون تحرير العراق الذي أصدره كلنتون عام 1998!
ليتوج ذلك التعاون بزيارة للسيد عبد العزيز الحكيم (الشقيق الأصغر لمحمد باقر الحكيم الذي تولى رئاسة المجلس الأعلى بعد الشاهرودي) الولايات المتحدة عام 2002، واللقاء بنائب الرئيس ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، وكانا أبرز شخصيتين في اليمين المحافظ اللتين دفعتا في اتجاه الحرب على العراق وسُمح للمجلس الأعلى بأن يكون «متعاونا» رئيسيا مع الاحتلال الأمريكي فيما بعد!
كتبنا أكثر من مرة عما أسميناه «اللعبة المزدوجة» التي لعبتها الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في العراق بعد عام 2003؛ فقد اكتشف الأمريكيون أنه لا بديل عن السماح لإيران بأن يكون لها دور جوهري في العراق، من خلال هيمنتها المطلقة على قرار الفاعل السياسي الشيعي، لا يتعلق الأمر هنا بالجماعات الإسلامية المرتبطة بإيران وحسب، بل حتى بالجماعات الليبرالية «الشيعية» أيضا. كما اكتشف الإيرانيون أنه من مصلحتهم العمل مع الأمريكيين لإنتاج نظام حكم يسيطر عليه الفاعل السياسي الشيعي، لهذا دعموا تشكيل كتلة شيعية صلدة لضمان ذلك، وفي الوقت نفسه دعموا مجموعات شيعية هامشية مسلحة لمشاغلة الأمريكيين، واستخدامهم كورقة ضد أي محاولة أمريكية لإخراجهم من اللعبة. وكانت اللحظة الأكثر رمزية في هذا السياق هي اتفاقهما على دعم نوري المالكي لولاية ثانية عام 2010!
بعد سيطرة داعش على أكثر من ثلث العراق عام 2014 تطور التعاون الأمريكي الإيراني على الأرض، ليتحول إلى عمل مشترك صريح؛ فبعد إفشال الفاعلين السياسيين الشيعة للفكرة الأمريكية المتعلقة بالحرس الوطني والتي بنيت على أساس تجنيد مقاتلين محليين من السنة لهزيمة داعش، وإصرار إيران على فكرة الميليشيات العقائدية/ الحشد الشعبي المشكل من وكلائها في العراق، اضطر الأمريكيون للقبول بالفكرة الإيرانية، وغضوا الطرف ليس فقط عن استخدام هذه الميليشيات للأسلحة الأمريكية، بل سلحوها بشكل مباشر بصواريخ تاو لمواجهة مفخخات داعش الانتحارية، ووفروا لها غطاء جويا في الكثير من المعارك، وتغافلوا تماما عن الانتهاكات واسعة النطاق التي كانت تمارسها تلك الميليشيات، والتي وصفها تقرير لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بأنها جرائم ضد الانسانية ترقى لأن تكون جرائم حرب. وظلت المحاولات الأمريكية لمنع هذه الميليشيات من المشاركة في بعض المعارك (على سبيل المثال معركتي تكريت والفلوجة) ولم يكن ذلك موقفا حاسما ضد تلك الميليشيات، وإنما كان ذلك في سياق «تخفيف الحساسيات» بدليل أنها لم تعترض، لاحقا، على دخولها إلى تلك المناطق بعد استعادتها، كما لم تعترض على الانتهاكات التي قامت بها!
في ولاية الرئيس ترامب الأولى كان التركيز الأمريكي منصبا على البرنامج النووي الإيراني، ولم تتحول الإشارات حول «الخطر الذي تشكله إيران على المنطقة بأكملها» (هذه العبارة وردت في مكالمة هاتفية بين الرئيس ترامب ورئيس مجلس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي 2017) إلى سياسة حقيقية. لهذا كانت المواقف الأمريكية تجاه وكلاء إيران في العراق مرنة إلى حد بعيد، حتى بعد هجومهم بصواريخ الكاتيوشا على السفارة الأمريكية في بغداد بداية من أيار 2019 ولم يزد الرد الامريكي عن عقوبات لبعض الشخصيات الثانوية، ثم عقوبات على شخصيات محددة في ميليشيا عصائب الحق. وحتى بعد قرار ترامب باغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، تلقت الولايات المتحدة الرد الإيراني في قاعدة عين الأسد بكل هدوء!
اليوم نحن أمام علاقات أمريكية إيرانية متأزمة، وثمة تهديدات صريحة ومباشرة بينهما، لكن ثمة مسارا آخر يتعلق برسائل متبادلة ومفاوضات مباشرة بين البلدين، العراق حاضر فيها؛ فقد تضمنت شروط ترامب حل الميليشيات العراقية المرتبطة عقائديا بولاية الفقيه، ولوجستيا بالحرس الثوري الإيراني. والسؤال الجوهري هنا: هل هذا الشرط حقيقي أم أنه مجرد ورقة قابلة للتفاوض في مقابل الشروط الرئيسية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني وبالصواريخ الإيرانية وبالنفوذ الإيراني في المنطقة؟
ويرتبط هذا السؤال بسؤال جوهري آخر يتعلق بموقع العراق في السياسة الأمريكية عموما؛ فمنذ عام 2011 لم يعد العراق يحضر في استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية سوى بوصفه عنصر تهديد بسبب هشاشة نظامه السياسي، وليس بوصفه دولة حيوية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
كل هذا يؤشر إلى أن يكون العراق جزءا من أي صفقة أمريكية إيرانية، من خلال قبول ضمني أمريكي بالهيمنة الإيرانية على العراق، بما في ذلك القبول ببقاء الميليشيات نفسها فيه مع بعض الإصلاحات الشكلية مقابل ضمانة إيرانية بأن لا يتعدى نفوذها الداخل العراقي، وعدم اعتراضها على الوجود الأمريكي المحدود في العراق، في مقابل قبول إيران بالشروط الجوهرية الأخرى.

يحيى الكبيسي/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى