الموساد في خيمة الروس.. لماذا دمّر الأسد مخيّم اليرموك في دمشق؟
“المدارنت”
عندما وصلنا، متهالكين من الحر ومشاهد البنايات المتقوّضة، إلى ضريح خليل الوزير (أبو جهاد) في المقبرة آخر مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق، كان الدمار الهائل للمنطقة قد أثقل أرواحنا. قرأنا الفاتحة على روح «أمير الشهداء» كما وصفته الشاهدة، التي أرخت حدث اغتيال قوات خاصة إسرائيلية للقائد الفتحاوي الشهير في تونس في 16 نيسان/ أبريل 1988.
بدا المشهد مقتطعا مما نراه يوميا على شاشات التلفزيون عن الدمار الحاصل في غزة. من مشفى فلسطين الذي دكّ دكا، إلى البنايات التي تعرّضت للقصف على موجات متعددة، حتى بعد أن رحلت عنها كل القوى العسكرية، إلى حصار الجوع الذي قضى فيه قرابة 480 شخصا، إلى القنص الذي استهدف كل ما يمشي، وانتهاء بدخول جحافل «الفرقة الرابعة» لـ”تعفيش” كل شيء.
رافقنا في تلك الزيارة أحمد شحادة ود. خلدون الملاح ومروان دراج، ولكل منهم تجربته المريرة، التي تروي قصة المخيم الشهيد، فأضاءوا، عبر مصائرهم الشخصية المعقدة، على أسرار غامضة في المحنة الفلسطينية لا يمكن، من دون معرفتها، فهم المحنة السورية العامة على حقيقتها، وكان معنا أيضا الكتاب، سمير سعيفان وماجد كيالي وبشير البكر.
كان أحمد عضوا ناشطا في التنسيقيات التي بدأت النشاط الثوري في مخيمي اليرموك وفلسطين مع بدء الثورة على النظام السوري عام 2011، وكان الملاح، الطبيب الجراح الوحيد الذي بقي في المخيم والذي اضطر لمعالجة أشكال الأمراض والجراحة كافة خارج تخصصه، بما فيها معالجة القصور الكلوي الناتج عن أكل أعشاب سامة نتيجة التجويع، الذي فرضه النظام السوري على سكان المخيم، وقيّضت له النجاة عندما خرج في الباصات التي أخرجت المقاتلين إلى إدلب، حيث مارس هناك أيضا اختصاصه قبل أن يعود، بعد سقوط نظام الأسد إلى المخيم.
بعد قرابة شهرين من انطلاق الثورة السورية عام 2011 قام أحمد وناشطون آخرون في المخيم بتشكيل تنسيقية ركزت على الدعم الإعلامي والإغاثي والطبي. تحرّك النظام السوري بسرعة لقطع الطريق على هذا، عبر دعوة «الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة»، الفصيل المساند للنظام، لما سمّي «مسيرات العودة» إلى فلسطين. كان واضحا أن الخطوة تقصدت توجيه رسالة لإسرائيل تقول، إن أي تدهور في وضع النظام سيعني السماح للفلسطينيين بمهاجمته. اعتبر كثيرون من أهالي المخيم أن «جماعة أحمد جبريل»، ضحّت بعشرات من أبناء المخيم في إطار لعبة رخيصة لصالح النظام، وحين انطلق احتجاج على ذلك، أطلق العناصر النار الحيّ على المتظاهرين يوم السادس من حزيران/يونيو من ذاك العام.
الميغ تقصف عبد القادر الحسيني
كانت تلك نقطة تغيير فاصلة في تاريخ المخيم ستتحرّك بعدها الأحداث بعنف. اغتيل قادة كبار للنظام ضمن ما سمي بتفجير «خلية الأزمة»، وتصاعدت المعارضة في ريف دمشق الجنوبي، وبدأ النظام يقصف أحياء التضامن والحجر الأسود مسببا موجة هروب نحو المخيم الذي جهد ناشطوه في إغاثة وإعالة النازحين. احتج أهالي المخيم على القصف في تموز/ يوليو 2012 بمظاهرة قال الناشطون، إنها كانت الأكبر في دمشق وريفها. أصبح قصف المخيم بعدها عشوائيا ويقتل العشرات، فيما استمرت المعارك على أطراف المخيم حتى نهاية عام 2012.
ذكر مستقبلونا حادثة أخرى فاصلة وقّت النظام فيها قصفه لمسجد عبد القادر الحسيني مع خروج الناس منه بعد صلاة الظهر، بطائرات الميغ في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2012، كما قصف مدرسة الفالوجة. حصول ذلك دون سابق إنذار، ووقوع عدد كبير من القتلى خلال قصف متواصل لثلاثة أيام، دفع فصائل «الجيش الحر» لدخول المخيم من مناطق يلدا والتضامن والحجر الأسود. بدأ رد النظام في يوليو 2013، وأدّت أفعاله لنزوح مئات الآلاف من سكان المخيم. من أصل مليون ومئتي ألف نسمة كانت تسكن المخيم بقي قرابة 25 ألفا.
بدا المشهد الفوضويّ، لفصائل معارضة تعدد داعموها، وأخذت تتلاشى أو تتصالح مع النظام، تمهيدا لصعود ودخول تنظيم «الدولة الإسلامية» للمخيم، الذي اكتشف سكانه، بسرعة، أن بعض قادته كانوا عملاء للنظام، أو يعملون بتنسيق معه، حيث حصلوا، خلال المعارك مع فصائل المعارضة، ثم مع «جبهة النصرة»، على تمويل وتسليح كبيرين من مناطق النظام، وكان جرحاهم ينقلون بسيارات إسعاف النظام ويتعالجون، حسبما قيل، في مشفى المهايني.
اجتاح التنظيم الجهادي العنيف المخيم في نهاية شهر آذار/مارس 2015، فقام أغلب عناصر تنظيم فصيل “أكناف بيت المقدس” بالاستسلام للنظام، فيما انضم بعض قليل منهم إلى «جبهة النصرة». بدأت «داعش» الحرب على «النصرة» فأصبحت محاصرة بين «الدولة الإسلامية» من الخلف والنظام من الأمام، وكان الموت ذبحا، على يد الأولى، أو تعذيبا، على يد الثاني لمن يحاولون نقل الغذاء أو الإمدادات لسكان المخيم. بقيت «النصرة» تقاتل وحدها حتى عام 2018 حين اجتاح النظام المخيم، فشنّت الجبهة المحاصرة بين «داعش» والنظام من الأمام معركة في إدلب على قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين ونجحت في إخراج عناصرها الباقين عبر مبادلتهم بأسرى إدلب.
النسخة السورية لقضية الوجود الفلسطيني
بعد فراغ المخيم من الفصائل المسلحة بدأ الطيران الروسي يقصف المخيم ليلا نهارا حتى تم تدميره بشكل كامل، دافنا مئات من المدنيين ما زالوا تحت الأنقاض. حسب رواية ناشطي المخيم فإن القصف استثنى مناطق «داعش» وأن عناصرها أخرجوا إلى السويداء والبادية، وفي هذه الفترة «عفّش» النظام المخيم وسرق بيوت الناس ثم أحرقها وفي جزء كبير من الأبنية تم تفجيرها. كان شائعا أن جثث ثلاثة جنود إسرائيليين قتلوا في معركة السلطان يعقوب عام 1982 مدفونين في مقبرة المخيم، وقيل إن حافظ الأسد وياسر عرفات وربما جبريل كانوا يعرفون أين تلك القبور. سيطر الروس على المنطقة ودمروا المقبرة واستمروا ما يقرب من السنة بنبش القبور وأخذوا عشرين جثة وحللوا الجينات، ثم أعلنوا اكتشاف جثمان أحد الجنود وتم تسليمه للإسرائيليين في حفل رسمي في موسكو في أبريل 2019.
استمر الروس في السيطرة على المقبرة تقريبا حتى ما قبل سقوط نظام بشار الأسد، وكانوا خلال فترة نبش المقبرة، يقنصون أي شخص يقترب من دائرة قطرها 500 متر. خلال وجودهم تم تدمير أرشيف المقبرة والمتحف ومعالم القبور وخريطة المقبرة واختفوا قبل أيام من سقوط النظام.
حسب الراوي، فإن قائد القوات الخاصة الروسية، تحدّث عن وجود عناصر من المخابرات الإسرائيلية أحيانا، وأن ذلك تم بمعرفة نظام الأسد، كما تحدّث عن وجود أحيانا لعناصر من «فرع فلسطين» ومن «حزب الله».
حكاية المخيم تؤشر إلى هدف واضح: تدمير الوجود الفلسطيني كان مطلبا ساهم في تحقيقه كثيرون ويمثّل نظام الأسد تقاطعا لإحداثياته. يذهب التفكير إلى أن تلك النسخة السورية لتصفية الكيان الفلسطيني، غير أن تفاصيل الحكاية التي تشير إلى «تحالف الأضداد» على هذه النتيجة تحتاج قراءة واسعة.
يمثّل المخيم خلاصة كبرى ليس لما حدث في سوريا فحسب، بل في منطقة المشرق بمجملها. تحتوي هذه الخلاصة عناصر معقدة تلعب فيها أجهزة أمن محلية وإقليمية وأجنبية أدوارا خطيرة. يبدو نظام الأسد، ضمن هذا المشهد، عنصر تأسيس مخطط ومنفذا للهندسة الاجتماعية للوجودين الفلسطيني والسوري، و»رائدا» في الإبادة، منذ تأسيسه «قاعدة حماة» عام 1982. يمكن أيضا، للراغبين بفرضية المؤامرة، أن يعتبروا ما حصل تنفيذا لإرادة إسرائيلية، ولو أن هذه الرغبة تنفي الطبيعة الإبادية الفظيعة لذلك النظام، وتجرّده من أسبقيته!