النكبة وحق العودة.. سيرة فلسطين المتداولة من جيل إلى جيل!
“المدارنت”..
في بعض الأعراف يقولون: إن القضية التي تمر عليها أكثر من 20 سنة تصبح مغيبة ومنسية، لكن هذا العرف لا ينطبق على القضية الفلسطينية وفي لبها أحداث النكبة وقضية حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم التي هجروا منها عام 1948، القضية التي يثبت أهلها من اللاجئين الفلسطينيين والذين بقوا على أرض فلسطين ازدياد رسوخها في وجدانهم كلما مرت عليها السنون، ويثبتون أيضاً أنها قضية لا تنتهي برحيل جيل ومجيء آخر، بل تتوارثها الأجيال جيلاً بعد آخر.
كل جيل يرث من الذي قبله الحكاية الحقيقية بحذافيرها، رواية النكبة التي حلّت عام 1948 والتهجير الذي صار بسببها واللجوء، كل جيل يودع لدى من يأتي بعده أمانة استرجاع البيوت والأراضي المسروقة والعودة إلى الوطن الذي سلب وعدم التنازل عن ذلك ولو بأغلى الأثمان، وليس هذا فقط بل إن التراث أيضاً تتوارثه الأجيال من عادات ومأكولات وملبس.
وما يثير الدهشة بعد 76 عاماً على النكبة الفلسطينية وجريمة التهجير، أن المرء ما إن يدخل أحد المخيمات الفلسطينية في دول الشتات، يسمع من صغير اللاجئين الفلسطينيين قبل شيخهم كلاماً مؤثراً عن فلسطين ونبرة واثقة في حديث اليقين بالعودة إليها، ما يعني أن فلسطين حاضرة في قلوب من لم يروها حتى، بل وهناك دافع للمشاركة في النضال من أجل تحريرها وما ارتقاء شبان في مقتبل العمر من المخيمات الفلسطينية سواء في سوريا ولبنان على الحدود مع فلسطين سوى شاهد واحد على ذلك.
في زيارة إلى مخيمي برج البراجنة وشاتيلا جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، تجول فريق بوابة اللاجئين الفلسطينيين وانتقى شريحة عشوائية من كبار السن والجيل الأوسط ثم الجيل الفتي ليسألهم عن فلسطين وكيف يتوارثون رواية النكبة والتشبث بالأرض واليقين بعودتها يوماً.
تشير إلى مقولتها الدائمة لأحفادها
بأنهم هم من سيكملون المشوار وسيعودون إلى فلسطين
في زواريب المخيمات الضيقة، مسنات يجلسن أمام عتبات الدور يتحدثن عما يشهده قطاع غزة من مجازر إبادة، يبدو الحزن واضحاً على وجوههن، ويقارنّ بين نكبتين تلك التي شهدنها أنفسهن أو آبائهن عام 48 وهذه التي يتابعنها اليوم عبر شاشات التلفاز في قطاع غزة، ذات المجازر وربما أقسى وذات الخذلان االعربي والدولي وربما أوضح، هكذا يروين لبعضهن.
استقبلتنا الحاجة أم زاهر السقا، وهي من مواليد فلسطين من قرية الكابري خرجت من فلسطين وكانت ما تزال في الأشهر الأولى من العمر تقول: “أنا أمي نسيتني تحت شجرة الزيتون عندما هجمت علينا العصابات الصهيونية، ولكنها عادت لتأخذني معها إلى لبنان”.
أنجبت أم زاهر 8 أبناء وعدداً من الأحفاد تؤكد أنها حين بدؤوا يكبرون بدأت تعلمهم كل شيء عن فلسطين كما فعل والداها وجدها معها، وتؤكد أنها تدفعهم وتدفع أحفادها إلى المشاركة في المظاهرات التي كان تخرج في المخيم، لتقوي من إحساسهم بالمسؤولية تجاه قضيتهم الوطنية.
تضيف: أن أولادها تعلموا وكبروا وتزوجوا وأنجبوا أولاداً وبالتالي سوف يعلمونهم حب فلسطين مثلما هي علمتهم “فهذه القضية تتوراثها الأجيال حتى التحرير والعودة”، وتشير إلى مقولتها الدائمة لأحفادها بأنهم هم من سيكملون المشوار وسيعودون إلى فلسطين إذا ما أدرك جيلها الموت.
تلفت الحاجة أم زاهر إلى أن حماس الأطفال في المخيم يذكرها بفلسطين وتقول: “فلسطين لن تنسى مهما توالت الأجيال”.
في أحد المحلات يجلس الحج ابو حسن بكري وهو يرتب الاشياء من صور وتذاكر وأكسسوارات كلها تدل على تعلقه الدائم بفلسطين، فهو ما زال يعلق المفتاح الذي أعطاه له ابوه قبل أن يتوفى على حائط المحل، مشيراً إليه بيده عند سؤاله عن العودة.
يقول بكري: إن جده وأباه حملاه رضيعاً من بيتهم في فلسطين عام 1948، وهربا به إلى إحدى القرى المجاورة مع اشتداد الهجوم الصهيوني على قريته، ولكن نيران الحرب امتدت في كل مكان فاضطر والده وجده إلى اللجوء للبنان، وأن هذا المفتاح كان بحوزة جده الذي لم يكن يظن أن الغياب سيطول، ولكنه طال وورثه إلى ابنه والابن ورثه لابنه بدوره.
يحتفظ بكري في ذاكرته بكل تفاصيل الأراضي التي كان يملكها جده في قرية قضاء صفد المحتلة القريبة من الحدود مع لبنان والبيوت التي كانوا يملكونها، وهي ذات المعلومات التي أخذها من والده وأعطاها لأبنائه.
لدى الحاج الفلسطيني اللاجئ إيمان بحتمية العودة إلى فلسطين، وإن لم يشهدها جيله ولديه إيمان أيضاً بكل جيل يأتي بأنه سيحافظ على الرواية والحق.
لدى الأجيال الجديدة في المخيم وعي حول القضية الفلسطينية
تعزز مع بدء حرب الإبادة على غزة
ناصر خزعل، لاجئ فلسطيني من مواليد 1971 يعمل مصوراً فوتوغرافياً في مخيم برج البراجنة، يعتبر من الجيل الثالث أو الأوسط للنكبة يقول لموقعنا: إن “حب فلسطين يخلق مع الفلسطيني بالفطرة”، مشيراً إلى ان الحياة اليومية التي يعيشها اللاجئ داخل المخيمات هي حياة نكبة.
يتابع: “76 سنة مرّت ولم ننس فلسطين يوماً، والدي ولد هنا في لبنان ونعرف فلسطين على لسان والدي الذي عرفها من والده وأنا في نفس الوقت أحدث أطفالي كما حدثني أبي وجدي عن العودة والتمسك بفلسطين”.
يشير خزعل إلى أن “الإسرائيليين” يراهنون على قضية الأجيال، وأنه إذا ما رحل جيل فالجيل الآخر سينسى ولكنه يرى أن الواقع أفشل هذا الرهان، “فكيف لا وأحاديث معظم الأطفال بين بعضهم داخل المخيم تتمحور حول فلسطين”.
حسين رعد لاجئ فلسطيني من الجيل الأوسط للنكبة أيضاَ، يقيم في مخيم شاتيلا ولديه خمسة أبناء، هو لا يخشى على أبنائه أو جيلهم من ضياع فلسطين في قلوبهم، ويرى أن لدى الأجيال الجديدة وعياً حول القضية الفلسطينية يبرز من أسئلتهم المتكررة عن فلسطين، وتعزز هذا مع بدء حرب الإبادة “الإسرائيلية” على قطاع غزة.
يقول رعد: “هذا الجيل واع ويعرف ما يريد جيل متعلق بالقضية حتى من دون أن نتحدث فهو يعرف عبر مواقع التواصل الاجتماعي أن هناك قضية يقاتل من أجلها وخاصة بعد عملية طوفان الاقصى التي فتحت الأبواب على مصرعيها”.
يضيف: أولادي عندما يشاهدونني أشارك في المظاهرات من أجل فلسطين مثلاً، فوراً يقومون بالمشاركة من دون أن أدعوهم ويبدؤون في الهتاف، وكل هذا يعزز من انتمائهم، خاصة وأن أسئلة كثيرة تتوارد إليهم أجيب عليها ليعرفوا أكثر.
معظم الشباب الصغار في المخيمات الفلسطينية في لبنان
يتوقون إلى الانخراط في العمليات النضالية
تحدثنا مع شريحة من الجيل الجديد، وما أكثرهم في مخيم شاتيلا وما أكبر حماسهم وتمسكهم بقضيتهم وفق ما أبدوه لنا.
الشاب أحمد الخطيب الذي لم يتجاوز 18 عاماً يرى بأن جيله من سيصنع التحرير، مستمداً هذا الإيمان من عمليات المقاومة التي يشارك فيها شبان صغار في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويقول: معظم الشباب الصغار هنا في المخيمات الفلسطينية في لبنان مستعدون بل يتوقون إلى الانخراط في العمليات النضالية ضد جيش الاحتلال “الإسرائيلي”.
الأمر ذاته أكده فادي العلي وهو شاب في العشرين من العمر، قال لموقعنا: “إن المخيمات في لبنان تغلي على صفيح ساخن، وإن الجيل الصاعد فيها ينتظر الفرصة لبذل الدماء من أجل فلسطين”.
يضيف: إنه من صفد المحتلة وأن لديه إيماناً راسخاً بأنه من الجيل الذي سيشهد التحرير.
ومن اللافت، أن المرء حين يجول بين هؤلاء الشباب لا يتوقع أن يجد منهم كل هذا الاندفاع، خاصة مع الأحوال الاقتصادية المتردية والواقع المر الذي يعيشونه بين أزقة المخيمات، لم يتحدثوا مباشرة عن أحلام خاصة بهم وبتحسين وضعهم، وهي نبرة شهدتها المخيمات من الشباب في السنوات الماضية، ما يشير إلى أن الحرب على غزة وتصاعد الاعتداءات في الضفة قد أثر بشكل واضح على تفكير هذا الجيل الذي يصر على تسمية نفسه “جيل التحرير”.