مقالات

الهجرة والتاريخ!

د. معتز محمد زين/ سوريا

“المدارنت”..
على أعتاب العام الهجري الجديد، أغمضت عينيّ وعصرت ذاكرتي وسرحت بخيالي لعلّي أتقصّى أثر أقدام النبي وصاحبه من مكة إلى يثرب، حاولت أن أنظر إلى هذا الحدث العظيم ولكن ليس بعيوني وإنما بعيون التاريخ..
تصورت التاريخ رجلا ضخما يجلس على الحدود بين بلاد الشام والرافدين، عين ترقب ما يفعله قيصر في امبراطورية الروم، وأخرى ترصد ما يفعله كسرى في امبراطورية فارس، وبيده يسجل ما يراه هنا وهناك على صفحات كتاب التاريخ..
كان التاريخ غارقا حتى أذنيه بتفاصيل الاحداث في تلك الامبراطوريّتين، وقلما اتجه بنظره نحو الجزيرة العربية ( فضلا عن بلدة فيها صغيرة اسمها يثرب ) ، لم يفكر يوما أن يكتب ولو بضعة أسطر في كتابه عما يحصل في الجزيرة القاحلة وإن فعل فبضع كلمات على هامش صفحـات..
لمح التاريخ يوما عمودا من نور خرج من مكة يشق طريقه نحو السماء، كان قد ظهر هناك رجل بهي الوجه حسن الخلق، بدد ظلام الجهل بنور العلم وواجه موجة الظلم والتكبر بقيم العدل والمساواة وقابل جفوة الأعراب برقة الطبع ودماثة الأخلاق، يوما بعد يوم يكبر عمود النور ويلفت نظر التاريخ فيتحرك مترددا بضع خطوات نحو الجزيرة، لكنه سرعان ما يتراجع ويعود نحو الموقع الذي يصنع التاريخ ليكمل مهمته ..
ينثر النبي محمد صلوات ربّي وسلامه عليه بذور الحضارة والأخلاق والقيم في عمق الرمال الحارة، ويسقيها بجهده وعرقه وأخلاقه وصبره وإخلاصه متكبدا عناء الزراعة وجفاف التربة وقساوة الحر، فتتمرد تلك البذور على عوامل البيئة وتخرج كل واحدة منها في تلك البيداء المقفرة، ومن بين الرمال الحارة شتلة صغيرة ضعيفة يرعاها رسول الله، برموش عينيه ويقينه وإرادته المستندة إلى مدد السماء حتى تكبر ويشتد عودها، ويكبر معها عمود النور، ويحلق عاليا في السماء فتضيء له أرجاء الجزيرة العربية.
تنبه التاريخ لهذا النور العجيب، وبدأ يحدث نفسه بالتحرك نحو الجزيرة لرصد تفاصيل هذه الظاهرة المدهشة التي لم يعهدها من قبل ، وفي اللحظة التي تحرك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو يثرب كان التاريخ قد حسم أمره ولملم أوراقه وجمع أقلامه وقرر مغادرة الشام والرافدين والتحرك نحو الجزيرة..
مشى التاريخ بخطوات متسارعة، أحس أن هناك شيئا ما يشده بقوة، كان يفكر وهو يهرول نحو الجزيرة الحارة، ما الذي تغيّر هناك، ما القوة الغريبة التي تجذبني نحو يثرب؟! هل أخطأت بقرار المغادرة؟ هل يعقل أن أترك الروم وفارس وأتجه نحو بادية الأعراب القاحلة تلك؟
على كل حال لا مجال للتراجع.. تابع التاريخ طريقه، وفي اللحظة التي وصل فيها النبي يثرب من جهة مكة، كان التاريخ قد وصل من جهة الشام، وقلبه يخفق وجبينه يتصبب عرقا ويداه ترتجفان، وهي تقلب صفحات التاريخ القديمة وتمسك أقلاما زاهية لتكتب في تاريخ البشرية صفحات جديدة لا تشبه سواها، صفحات تطفح بالنور والأخلاق والحضارة، تعيد للقيم اعتبارها في حقول السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة..
بعد فترة وجيزة في عمر التاريخ، نظر إلى وجهه في المرآة فشعر أن ملامحه كلها تغيرت.. خطر للتاريخ أن يعقد مقارنة، فتح صفحات له قديمة وقارنها مع تلك التي يكتبها كل يوم، لم يكد يصدق.. ماذا فعل هذا الرجل في الأرض والتاريخ.. عشرات من السنين فقط كانت كفيلة أن تغير سيرة التاريخ واتجاهه وألوانه وملامحه.. من بضع عشرات من الناس إلى مئات الملايين من الاتباع.. من بضع كيلومترات من الأرض إلى نصف مساحة الكرة الأرضية.. من مجتمع تحكمه القوة والسلطة والمال إلى مجتمع تحكمه العدالة والكفاءة والأخلاق.. من عالم كئيب يغرق في ظلمات الاستبداد والاستغلال والطبقية والجهل والخرافات إلى عالم مشرق تغمره أنوار العقل والرحمة والمساواة والعلم والوضوح..
لقد أدرك التاريخ أن الهجرة النبوية من مكة إلى يثرب، لم تكن مجرد رحلة لرجلين عظيمين فرا بدينهما وسافرا في عمق الصحراء بين الصخور السوداء والرمال الذهبية، وإنما كانت رحلة للمجتمع البشري، قطعت فيها الإنسانية مسافات واسعة نحو استعادة ذاتها، والرجوع إلى فطرتها ورسم ملامحها التي تميزها عن غيرها من المخلوقات من جديد.. كانت هجرا للظلم والاستعباد والاستبداد والطبقية والعنصرية وهجرة حقيقية نحو الإنسانية..
عندما وصل التاريخ يثرب لمحه من بعيد فاروق الإسلام عمر بن الخطاب، فأضمرها في نفسه حتى زمن خلافته، حينها قرر أن يفتح للتاريخ صفحة جديدة وكأنه ولد من جديد، فجعل نقطة البداية تلك اللحظة الفارقة الحاسمة التي تزامن فيها وصول النبي الأكرم مع التاريخ ليثرب.. يثرب التي تبدل اسمها منذ تلك اللحظة إلى المدينة المنورة، ذلك أن عمود النور الذي فاض من أرضها نحو السماء بدأ يتمدد رويدا رويدا ليشمل مساحات واسعة من الجزيرة العربية وما حولها، حتى أصبح النور علامة واسمة لتلك المدينة فدون التاريخ اسمها الجديد في صفحاته: “المدينة المنورة”..
منذ مئات السنين، هجر التاريخ مضطرا تلك المنطقة نحو الشرق والغرب، تغيرت ملامحه مرة أخرى، عندما نظر إلى نفسه في المرآة كاد ينكر ذاته من شدة الحلكة التي غطت وجهه.. يدون التاريخ اليوم على صفحاته بمداد من دم مجازر وحروب وصور من التوحش والبهيمية والتفاهة والتكلف والاستبداد والطغيان، ومخالفة الفطرة وخنق القيم، يخجل التاريخ مما يكتب، لكنه موظف عصامي مخلص لمهنته، وجندي يسمع ويطيع الطرف الأقوى الذي يعتبر القائد المباشر للتاريخ والذي يقف فوق رأسه على الدوام ليراقب ما يكتبه في صفحاته.
يكتب التاريخ بأنامله ما يرى، من دون أن يقاوم شعوره المستمر بالقرف والغثيان من المشاهد والصور التي يرسمها على صفحات كتابه والتي تتنافى مع فطرة البشر وإنسانية الانسان، يتذكر تلك الأيام ويتحسر على الفارق الكبير بين مدوناته اليوم ومدوناته بالأمس، يمارس عمله هناك وما يزال قلبه معلق هنا في أرض النور، وما تزال عينه على تلك المنطقة يترقب عودة عمود النور إليها بشغف، وقد قرر هذه المرة في داخله أنه سيترك كل ما بيديه، من دون تردد، بمجرد أن يلمح عمود النور من جديد ويتجه نحوه كي يعيد للتاريخ بريقه ولكتابه متعته وجماله وجاذبيته.. كي يدوّن تاريخ القيم.. تاريخ الأخلاق.. تاريخ الانسان.. فهل يشكل طوفان الأقصى الخيط الرفيع الذي سيتحول قريبا عمودا من نور، يفعل ما عجزت الجيوش العربية والمفكرين والسياسيين في المنطقة على فعله خلال مئات السنين؟!هل ينجح أهل غزة وأبطالها بإقناع التاريخ بالعودة مرة ثانية إلى المكان الذي يليق به ويهفو إليه.. ربّما..

المصدر: “غلوبال جستس”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى