الولايات المتحدة.. ومستقبل الأمن الأوروبي!
“المدارنت”..
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى امتداد فترة الحرب الباردة وحتى بعد سقوط جدار برلين، ظلّت العلاقات الأمريكية – الأوروبية تعيش على إيقاع التطور، بفعل المصالح الاقتصادية المشتركة، والتوجهات الاستراتيجية في سياق تعزيز الأحادية القطبية بمظاهرها السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي حظيت بدعم كبير من قبل هذه البلدان.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل استطاعت الولايات المتحدة أن تجذب عدداً من الدول التي كانت محسوبة على المنظومة الشرقية في ما مضى، لتصبح أعضاء داخل حلف شمال الأطلسي، فيما انضمت دول من هذه المنظومة إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
ارتبط الأمن الأوروبي على امتداد عدة عقود بحلف شمال الأطلسي وبالمكانة الأمريكية التي تحتلها داخل هذا التكتل العسكري، الذي بقي قائماً ولم يتفكك رغم زوال الظروف الإيديولوجية والعسكرية التي تحكّمت في ولادته منذ عام 1949. وهكذا ظلّ أمن أوروبا مقترناً بالحضور العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية.
منذ بدايات التسعينات من القرن الماضي، استطاع حلف شمال الأطلسي أن يتكيف مع الواقع الدولي الجديد، ويطور مهامه الأمنية تبعاً للمتغيرات الإقليمية والعالمية، لتشمل مجموعة من القضايا والملفات ذات الطابع السياسي والاجتماعي. وهكذا أصبحت تدخلاته تتم خارج النطاق الجغرافي الأوروبي، وهو ما حدث في أفغانستان والعراق وليبيا.
كما اعتبرت دول الحلف في عام 2016 أن الحروب الإلكترونية هي امتداد للحروب التقليدية التي تستوجب تحريك المادة الخامسة من الوثيقة التأسيسية للحلف، التي تعتبر أن أي اعتداء يطال دولة عضوة، بمثابة اعتداء على كل الدول الأعضاء يستدعي الرد الجماعي.
وفي هذه الأثناء كانت روسيا غارقة في مشاكلها، وتحاول التخلص من الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي خلفها تفكك الاتحاد السوفييتي، قبل أن تتعافى وتعود للساحة الدولية بموقف رافض لتبنّي الحلف في عام 2008 «سياسة الباب المفتوح» أمام جورجيا وأوكرانيا. ومع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، أصبحت لغة التصعيد والتوتر هي سيدة الموقف، بين روسيا التي اجتاحت أقاليم داخل أوكرانيا من جهة، وحلف شمال الأطلسي الذي قدم دعماً كبيراً لكييف من جهة أخرى.
وفي هذه الأجواء، عاد النقاش السياسي والأكاديمي حول مستقبل الأمن الأوروبي، خاصة مع اقتناع مجموعة من الدول الأوروبية بأن روسيا أضحت عاملاً حقيقياً لتهديد الدول الأعضاء في حلف «الناتو»، ومع تزايد الاعتماد على الولايات المتحدة بإمكانياتها النووية والتي أصبحت تتخذ قرارات مزعجة للبلدان الأوروبية في ما يتعلق بمستقبل الحرب الروسية في أوكرانيا، ودعواتها المتكررة إلى تقاسم الأعباء بصورة متوازنة داخل حلف شمال الأطلسي.
وأمام هذه المعطيات، أبدت الكثير من الدول الأوروبية تخوفاتها من حدوث تحولات جذرية واستراتيجية ضمن التحالفات الدولية القائمة، وهو ما حدا بدول الاتحاد الأوروبي إلى بلورة خطط لتعزيز نفقاتها العسكرية في سياق إرساء أمن أوروبي مستقل عن الولايات المتحدة التي أصبحت تتحرك باتجاه آسيا لمواجهة التمدد الصيني في المحيط الهادي.
وفي هذا السياق، تم إحداث مبادرة الدفاع الأوروبية التي تضم 14 دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي، كسبيل لإرساء رؤية استراتيجية مشتركة في إطار التعاون العسكري على مستوى تبادل المعطيات الاستخباراتية وتخطيط السيناريوهات وعمليات الدعم، كما تم إطلاق مشروع التكامل الصناعي العسكري الذي يهدف إلى إحداث قاعدة صناعية دفاعية مشتركة.
لا تخلو التوجهات الأوروبية في هذا الصدد من صعوبات وتحديات، مرتبطة أساساً بوجود تباين داخل الفضاء الأوروبي إزاء الدور الأمريكي في هذا الصدد، وكذا الأولويات الأمنية التي ينبغي التركيز عليها، بين دول شرق أوروبا التي تعتبر روسيا على رأس قائمة مصادر التهديدات التي تستهدفها، ودول جنوب أوروبا التي تولي اهتماماً أكبر لمشكلتي الهجرة والإرهاب. وعلاوة على ذلك هناك اختلافات واضحة إزاء السبل الكفيلة بتعزيز استقلالية الأمن الأوروبي، بخاصة مع تصاعد مخاطر التهديدات الجديدة العابرة للحدود الناجمة عن توظيف التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي التي تتطلب تعاوناً وتنسيقاً أوسع، ثم وجود توجهات أمريكية جديدة إزاء عدد من القضايا الدولية والإقليمية، خاصة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب (الموقف من الحرب الروسية في أوكرانيا، والدعوة إلى اقتناء جزيرة غرينلاند، والتطلع إلى ضم كندا لتكون الولاية ال51 الأمريكية).
ثمة الكثير من المحددات التي سوف تتحكم في مستقبل الأمن الأوروبي، أولها متصل بالحضور الأمريكي، إما بدعم هذه الاستقلالية ولو تدريجياً، مع تنامي انشغالاتها بأولويات وقضايا جديدة، أو تكريس التبعية والانتظارية في هذا الصدد، وثاني هذه المحددات يرتبط بالتوجه الروسي، إما بتكريس حالة الشك والخوف مع استمرار حلف شمال الأطلسي في الاقتراب من حدوده، وقيام موسكو بردود فعل عسكرية إضافية قد تتجاوز أوكرانيا، أو بحدوث انفراج يدعم الثقة وتعزيز التعاون، بما يفضي إلى بناء استراتيجية أمنية أوروبية، مع الحد من الأدوار التي يستأثر بها حلف شمال الأطلسي في هذا الصدد. وأخيراً، يتوقف الأمر بشكل أساسي على موقف الدول الأوروبية نفسها من هذا الخيار (الاستقلالية)، وما إذا كانت ستتجه فعلاً إلى توفير الشروط الكفيلة بترجمته على أرض الواقع.