بائـع البقدونـس..
د. شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر
//خاص المدارنت//..
سَحْبٌ وجَرّ… مدٌّ وجزْر…!
ارتشف فنجان قهوته كالمعتاد؛ وهو ُيطلُّ من شرفة بيْته، المُتواجد بإحْدى العِمارات المُهترئة..! هي أطلالُ عمارة أنْهكتْها السِّنين، وأنْهكتْها أساليبُ التّرْقيع التي تقوم بها مصلحة دار البلدية بين الحين والآخر..! حكمة الاقتصاد في أزمنة الفساد…!
طال وُقوفُه… إتّكأ على حافة الشرفة الصّدئة، ونُتوءات مُتفرّقة تأبى إلاّ أن تُزعج مِرْفقه، فتنْدكُّ بين الجِلد والعظم… يسْتبدل مِرْفقه الأيْمن بالأيْسر، يرْتشف آخر ما تبقّى في الفنجان، يتركه بين يديْه، ينظر– تارة – إلى الرّاجِلين من أعلى الشرفة المتآكلة… وتارة؛ يتابع بعينيه الغائرتيْن تلك المركبات الكبيرة المحملة بالسلع والمتراصة أمام متجر أحد الخواص…
تململ في وقفته الطويلة تلك… عندما شعر بشيء يُدغدغ أصابع إحدى قدميْه، انحنى يُدقّق النظر؛ فإذا بها خُنْفساء سوْداء تتجولُ باطمئنان فوق أصابعه… أزاحها وهَمَّ بِرمْيِها من الشرفة؛ غير أنه عدل عن الفكرة مُقرِّراً ترْكها على الحافة…. جمدت الخُنْفساء لِبِضْعِ دقائق وكأنها تتحسّسُ الحيّز الجديد…! ثمّ انطلقتْ في رِحْلتها الغيْبِيَة غيْر مُكْترِثة بنظرات “رضوان”الموزّعَة بينها وبين ما يجري تحت الشرفة…. لفت انتباهه مشادات بين شخصيْن؛ تتحول المُشادات إلى مُلاكمَة تسْتقطبُ أنْظارَ المارّين والفضوليين فيتجمّعون للفرجة بالمجان…!تتزايد الجموع… يشتد الصراع… تتطاير اللكمات…. تتناثر الدماء و”رضوان” – المذهول – ينسى أمر الخنفساء، يأخذه العَجَب… كيف لا يتدخّل بعض المتفرجين لتوقيف المشادات…!يهتدي إلى حيلة… يغادر الشرفة ويدخل إلى المطبخ، يحمل دلواً كبيراً من الماء؛ ثمّ يعود إلى مكانه، يُطلّ…. يرفع الدلو إلى أعلى ويفرغه–دفعة واحدة- على المتصارِعيْن… تشرئب العيون إلى الأعلى… يسْتغلُّ المشهدَ بعْضُ المتفرِّجين؛ فيُسارِعون إلى سحْب أحد المُتصارِعيْن وهو يفرك عيْنيْه، بيْنما ينْشغلُ الآخر بنفض الماء مِنْ على رأسه ومسْح الدّم المتقاطر من أنفه… لحظات ويعود المتصارعان إلى الوعيد والتهديد والشتم وإن كانا لا يُفلِحانِ– هذه المرَّة – في الهُجومِ الجَسدي على بعْضهما البعْض… تعاون المتفرّجون على تفْرِيقهِما غير آبهين بضربات الغضب التي كانت تنزل عليهم بين الحين والآخر من طرف المُتصارِعيْن المُشْتَعِلَيْن حنقاَ…! سحْبٌ وجَرّ… مَدٌّ وجَزْر… “رضوان” يمْلأ دلواً بلاستيكياً آخر؛ يرْميه بِمَائِهِ على أحد الرؤوس دون تمييز..! يصرخ صاحب الرأس المُصابة، ويَكيلُ لِـ: “رضوان”ما اسْتطاعَ مِنَ الشّتائِم… يكتفي صاحبُ الدلو؛ برفع يده ووضعِها على صدْره؛ وكأنّه يسْتسْمِحُ المُصاب…! شيئاً فشيئاً يخلو المكان؛إلاّ من بعض المارّة السائرين في اتجاهاتٍ مُعاكسة….
يغادر”رضوان” الشرفة بعد أن وقعت عيْناهُ على عربة صديقه “عزّوز” بائع الفواكه المتجول في الأحياء الشعبية القريبة من هذا المكان. صداقة الرّجليْن قديمة، عِشْرَة طويلة، تمتدُّ إلى بداية سنوات الدّراسة… عِشْرة صقلتْها الأيام؛ وصهرتْها الخطوب. ثُنائي لم يُحب مقاعد الدرس والتحصيل… كانت نتائجهما دائماً غير مُشرّفة؛ ففضّلاَ الِانْسِحابَ إلى الشوارع؛ بحثاً عن مخرج؛ يُؤسّسُ لمُسْتقبَلٍ آخر؛ غير الذي رسمتْه عائلة كل واحد منهما.. عمِلا في كل شيء… لدى أصحاب المتاجر الصغيرة والكبيرة، مغاسل ومحطات السيارات، مطابخ المطاعم؛ حيث يشتغلان بالتنظيف الشامل: الأواني… الأرض…. الجدران… كل ما يستوجبُ التنظيف يقع على كاهليْهما… جرّبا حتى طلاء البيوت، فاكتسبا خبرة معقولة صقلها المِران… وهذّبتْها الفطرة…
اهتديا في الأخير؛ إلى تجريب سوق الفواكه والبقدونس… بيع وشراء، ودنانير زهيدة تؤثث لأحلامٍ؛ يخترق وهجُها دُجَى اليأس؛ فييوميات البحث عن الرزق الحلال؛ زمنَ مشاريع “النهب” الملفوف بأوراق الوجاهة… وسطوة الاِقتدار المنبوذ…! “عزوز”يهتم بالفواكه، بينما “رضوان” يتكلّف بالبقدونس ويتفنّنُ في تنضيد الحُزَم بعد تنقيتها من الشوائب العالقة… يتمعّنُ في هذا الاِخضِرار الجميل… اخضرار… يغسل العيْن من فحْم الواقع!يستنشق رائحة البقدونس وهو يحتضن الحُزم؛ قبل أن يبيعها لأصحاب عربات التجزئة المتراصة على جوانب السوق الكبير. الرائحة تسكن أنفاسه… الأرباح الضئيلة تُحرِّك تفكيرَه…!فلسفة المستقبل المجهول؛ تناوِشُ جانباً من قلبه… يضع في كفه ورقة بقدونس؛ يرنو إليها… هذه ورقة دون ساق… كيف يمكنها أن تثبت في زحمة الأوراق المُعَزّزة بالسيقان..؟!يمسح عليها بأصبعه؛وكأنه ينْقشُ وُعوداً على صفحة من خيال…!
مفترق الطرق….
أيام تسير.. وأعمار تتقدّم.. وأفكار تتغير.. يتمنى “عزوز”الرحيل إلى بلد آخر. لا شيء يثنيه عن أمنيته.. سمع عن مجموعة من الشباب؛ كيف غادروا ونجحوا في الوصول إلى الأراضي اليونانية واستقروا بها… يفضل الهجرة مثلهم؛ ولكن إلى إسبانيا.. “رضوان” لا يشاطره الرأي.. في مثل هذه الهجرات؛ النجاح لا يحالف الجميع.. والموت الأزرق يترصّدُ السواد الأعظم.. تعليقٌ لم يُعِرْه “عزوز” أي اهتمام.. يكتفي صديقُه بأن يدعو له بالتوفيق.. يواصل “رضوان” بيع البقدونس ويغرق في رائحته.. إلى أن يصحو ذات يوم على مشهد فريد؛ سيصنع منه بداية حياة جديدة، يتلقفها وجدان “رضوان” بِامْتنان كبير.. وهو مستلْقٍ على سريره المهترئ في غرفته الباردة والمقابلة للشرفة المتصدعة؛ تتعالى أصوات تخرق سمعه.. يستفسر بينه وبين نفسه عن هذا الذي يسمعه.. تتزايد الأصوات… تختلط.. ترتفع.. يحثه الفضول على الاطلاع.. يجري إلى الشرفة حافياً، تُسمِّرُهُ الدّهشة.. سيول بشرية تملأ الشارع الكبير.. تتدفق تدفق الحُجاج على الكعبة… يا إلهي..! يُدقق النظر في أصحاب الأصوات.. يجد اختلاطاً عجيباً في الأعمار.. في الهيئات.. في الأصناف.. ينظر إلى اللافتات المرفوعة فوق الرؤوس؛ يدقق في محتواها… كلها موحَّدة؛ تطالب بالتصدي لِتُجّار البشر، لتُجّارِ الموت الأزرق….!يطول به الوقوف.. مبهوراً.. تقع عينه على جاره الأبكم… ! إنه يحرك يديه في كل الاتجاهات… ومع كل حركة يضرب الأرض برجليْه؛ ثم يلتفتُ إلى مَنْ بِجانبه، ويُكثّفُ مِن حركاته وضرباته على الأرض في هستيريا مخيفةوكأنه ينقم على العِلّة التي تمنعه من التعبير عما يريد….! تقهره لغة الإشارات… يرتبك… تحمرُّ عيناه…. زبدٌ يعْلو جانِباً من شفتيْه… يرفع رأسه إلى أعلى؛ يقع بصره على رضوان، يرمقه بنظرة يصعب تفسيرها…! معرفتُهُ بـِ: “قويدَرْ” الأبكم؛ تعود لبضع سنوات…. إنه عامل من عمال النظافة الذين يسهرون على تنظيف الأحياء والطرقات المحاذية….قضى نصف عمره بين المِفْرَغات العمومية… يستنشق قذارات مَنْ يصنعون القذارات…! وكم تمنى لو مسّتِ العاهة أنفه وليس لسانه…! فبعْضُ العُطلِ أهْونُ من بعْض….!!
نزل “رضوان” إلى الشارع، وحاول – بصعوبة بادية – الوصول إلى حيث “قوِيدَرْ”الأبكم؛ عانقه؛ وكأنه يُسلّمُ عليه سلامَ مَنْ غاب عنْهُ لِمُدّة طوِيلة… هدأتْ ملامحُ “قويدر”، تأبّط ذراع “رضوان”وضغط عليه بأصابعه القوية وكأنه يأمرهبأن يظلّ مع هذا الجمْعِ الكبير…. فهِمَ “رضوان” الرّسالة وصدحتْ حُنْجُرته بِالّذي كانتِ الحناجِرُالأخْرى تُرَدّدُه… ارتفعت الأصوات… الناس في انتظامٍ بديعٍ؛ تسيرُ في ثبات… تبحث عن غدٍ جديد يتدلّى كما يتدلّى عنْقودُ عِنَبٍ يانِع… في بستانٍ ماتع….!
أيام الله…
أيام “رضوان” السابقة، كانت بطعْمِ يوْمِياتِ رَجُلٍ كادِح؛ لا يهُمُّهُ سِوى قُوت يوْمِه؛ وخِرْقة جسدهوترْميم أحْلامٍ؛ لطالما حاول بناءَها على صُخورِ وَاقعٍمَرير… حتّى إذا اقترب من مُحاذاتها؛ إذا بكلِّ شيء ينْهار…فيعودُ ثانية؛ للِاشْتِغال على أوْهامٍ قضمتْ عُنْفوانَ شبابه، وَاجْتثّتِ الفرَحَمِنْ فؤادِه… لقد فقدَ الإحْساس بِكلِّ جميل… ماعدا إحساسَهبورقة “البقْدونس”التي منَحتْه فرْصَة العيش، وفرصة رحيقِ الِاسْتِنشاق؛ في وقْتٍ يعُزُّ فيه حتّى الاِسْتنشاق…! ورقة البقدونس هذه؛ “هِبَة” مِنَ الطبيعَة الخالِدَة… هِبَة رَبّانية لا تقوَى عليْها قوَانينُ البشر، ولا تهُزُّها أهْوَاؤُهُمْ العاجزة حتّى عن فهْم ما َيفْهَمُهُ هو؛ حين يحْتضِنُ الحُزم الخضرَاءَ ويضَعُهَا ِبرِفْقٍ ظاهِر؛ على طاوِلاتِ تُجّارِ التّجْزِئة بالسّوقِ الكبير.. ثم يُغادر مُتمهِّلاً؛ بينما عيْناهُ تكْتحِلان بإثمد الطبيعة الفاتن…!
خروج “رضوان” مع الجموع الغفيرة؛ واستجابتُهُ لـِ : “قويدر الأبكم” يُشكّلانِ بداية مشوار جديد؛ يُخضِّبُ أيامه بنفحاتٍ عجيبة… تعلو به إلى درجة من الصفاء لا يفهمها… يسْعدُ بالأيام التي أصبح يُسمّيها: “أيام الله”… تغمره سكينة روحانية لافِتة وهو يتأمّلُ حياته الجديدة؛ ودفق السّلام يسْقي كرْبَ السّنين؛ فيُحوِّله إلى ابْتهاجٍ يغزو القلب… لم يعد يسعى وراء قوته فقط…. صحيح؛ هو يحافِظ على حِرْفته؛ بيْع البقدونس… غير أنه يُضيف اهتماماً آخر في سجلّ يومياته.. رغم فشله السابق في الدراسة؛ فقد وهبه الله خطّاً جميلاً، ولم يفكر في كيفية استغلال هذه النعمة؛ حتى لازَمَ الخروج مع “قويدر الأبكم”.. الذي أصبح مَنْبَعَ الفكر الحُرّ في منطقته وغيرها من المناطق المحيطة.
سقف القصب يتشرّبُ الخطيئة.
“قويدر الأبكم”؛ لم يولد بهذه العاهة… كان إنساناً سليماً مُعافى، ناجحاً في مراحل تعليمه الأولى؛ عاش في جحيم زوجة الأب؛ مفضّلاً الاِنزواءَ في غرفته المُسقّفة بالقصَب وجريد النخل حيث الغطاء البالي والفراش المُرَقّع وبعض أوانٍ بلاستيكية مركونة في الزاوية؛ يوظفها أيام المطر؛ فتتجمع فيها القطرات المتسللة من سقف القصب؛ حتى إذا امتلأتْ، سارعَ إلى اسْتبدالها بأخرى، وإفراغ الأولى خارج الغرفة… وهكذا طوال فصل الشتاء.. وشتاء بعد شتاء.. تتجدد وظيفة الأواني وتكبر أحلام التلميذ مع درجات الامتياز التي كان يُتوَّجُ بها عند نهاية المواسم الدراسية.
كان الفصل ربيعاً؛ عندما غادر بلدته مع مجموعة من التلاميذ؛ للقيام برحلة قصيرة؛ قرّرتها المدرسة في إطار النشاطات الموجّهة إلى التعريف بتواريخ المناطق المجاورة، غير أن الرحلة لم تكتمل…. فبعد ثلاثة أيام فقط؛ مرض أحد زملائه بحمى شديدة؛ لم تفلح الإسعافات البسيطة في تحسين حاله؛ فقرّر المسؤول عن الرحلة؛ نقل المريض إلى المستشفى وإعادة كل التلاميذ إلى َبلْدتِهِم ووعَدهُم برحلة أخرى في الصيْف القريب.
الوقت؛ وقت عصر… لا بد أن والده في المسجد؛ لذلك يذهب “قويدر” إلى غرفته أولا، وعندما يستريح ويشعر بعودة والده من بيت الله، سيذهب لرؤية الوالد… هكذا فكّر… دخل البيت من الباب الخلفي حتى يتحاشى النظر إلى زوجة أبيه… مشى قرابة متريْن؛ لمح باب غرفته نصف مفتوح، وهو الذي أغلقه بعناية قبل سفره؛ خوفاً على كراريسه وكتبه من أيّ تلف… مدّ يده صوب الباب بحذرٍ شديد، ثمّ أطلّ برأسه الصغير على الداخل… بُهِت…! تصبب عرقه… التلميذ الصغير؛ تحول إلى ثورهائج…! زوجة أبيه مع صديق أبيه يفترشان الرّذيلة… بحثتْ عيناه عن شيء ما؛ يضرب به أبطال هذا المشهد المخزي… غير أنه فوجئ بانقضاض الرجل عليه… بينما سارعت المرأة إلى ارتداء ثوبها وهي تشتُمُ وتتوعّد هذا المتطفّل؛ الذي لن يسلم من أذيتها إلى يوم يُبْعثون…! ركلات… ضربات على الرأس… ضربات على الوجه…. تهشيم أحدِ الفكّيْن…. رفسٌ بالأرجل على مستوى البطن والساقيْن… يختنق صوت الفتى شيئاً فشيئاً…وبوحشية غير متصوَّرة؛ ُيدْخِلُ الرَّجل يدَهُ في فم الفتى؛ ُيمْسك بلسانه؛ ويضغط عليه حتى تتطاير الدماء على وجهه!
ستة أشهر كاملة؛ يقضيها الفتى في المستشفى الكبير… يطلب منه المحقّقون أن يروي الحادثة، يكتشفُ أنّهُ لا يستطيع الكلام…! يُمْنَحُ ورقة وقلماً، فيسهل عليه الإدلاء بالذي ظل في طي الكتمان كل هذه الشهور…! غير أن هذا الكشف عن الحقائق؛ جاء متأخّرا… فالمرأة والرجل يُقرّران الهرب ذات ليلة ممطرة، ولم يُدركا أنها ستكون آخر ليلة لهما على يد “الحاج أحمد” الذي شكّ في تصرفات زوجته؛ فبدأ يراقبها لِأيامٍ عديدة؛ حتى لمس العلاقة بينها وبين صديق عمره -“خويا رشيد” – كما كان يُسَمّيه…! رآهما يدخلان سقف الخطيئة.. أمْهَلهُما حتى خرجا… طلْقة… طلقة أخرى… وخيّم الصّمت…. في الصباح وُجد “الحاج أحمد” مشنوقاً في غرفته… وثوبٌ من أثواب زوجته ملفوف على عنقه.
لم يكن بالإمكان إخبار الفتى بكل الحقيقة؛ وهو في المستشفى… فضّلَ أحد أعمامه تبليغه بوفاة الوالد وفاةً طبيعية لا غير…
شهيق الأحلام.
فقدُهُ القدْرة على الكلام… سماعُ القصّة الحقيقية التي تسبّبتْ في انْتحار والده… تقتل الأحلام على صدره… غادر مقاعد الدراسة؛ ودخل بعد ثلاث سنوات؛ عالمَ الشّغل… سيختلط فجْرُ شبابه بحُلْكة مُوحشة… تتيهُ به الدّروب… تفيض جِرارُ آلامِه كلما نظر إلى صورة والده المُعلّقة على جدار الغرفة… يتوسّطُ له عمّه؛ فيعملُ في مكتبةٍ خاصّة، صاحبُها من الأعيان الشُّرفاء.. يمسح الغبار، ينضّد الكتب، يخدم أصدقاء صاحب المكتبة؛ فيقدّم لهم المياه المعدنية، ريثما يُعِدّ الشاي وبعْض المكسرات؛ التي يحرص “خلدون” – صاحب المكتبة – على توفيرها لضيوفه… كانت جلسات “خلدون” مع أصدقائه في جانبٍمن المكتبة الواسعة؛ وحكاياهم المتنوعة، تثيرُ انتباهَ الفتى… فيتتبعُها بشغف كبير… يجد فيها مُتعة فكرية؛ يتعجب من مظهرهم البسيط؛ في مقابل أفكارهم العميقة… عقول كبيرة… ثقافة غير محدودة… رُؤى جديدة؛ يطبعُها التفهُّم والتأمل في ظواهر الحياة… أخلاق رفيعة؛ تسمو بهم إلى مراتب الإنسانية الحقّة؛ حين تنْفلتُ من سياج الأنانية، وتكسر شوكة الخِزْي… تلك الشوكة التي غرزها “خويا رشيد” في قلب المرحوم “الحاج أحمد”… البون شاسع بين ماضيه وحاضره… يجب أن ينسى… يجب أن يستفيد من أصحاب هذا الطرْح الوَاعي بالحياة وبالمُلابسات… شجعوه على القراءة… لم يُجْبروه على كتابٍ دون غيره… بكل عفوية؛ سألوا صديقهم عن قصة هذا الفتى الأبكم… لخصها “خلدون”في بضع كلمات، تقرّبوا منه أكثر… وعاملوه وكأنه واحد منهم… أكرموه في الأعياد، أسعفوه عند المرض، تناوبوا على توصيله إلى بيته بسياراتهم؛ في الأمسيات الماطرة… شعر بالدفء الذي فقده منذ سنوات.
ويقتصُّ… الظلام من… النّور!
ذات صباح غائم، توجه الفتى إلى المكتبة – كعادته – ومعه مُلخّصٌ من كتابٍ أنْهَى قراءته؛ كان ينوي عرض المُلخّص على جماعة المكتبة في المساء… يعرف أن ذلك سيُفرِحُهم وأن “خلدون”سيَعِدُهُ بهدية؛ كما فعل معه في المَرّة السابقة… حين قدّم له قلماً فضياً جميلاً مع راتبه الشهري البسيط… اشتغل الفتى طوال اليوم، استقبل شحنة الكتب الجديدة، ودلّ الأعوان على المخزن المحاذي للمكتبة، غادروا بعد أن أعلموا “خلدون” بالهاتف عن تسليم الشحنة..
حلّ المساء، اجتمع “خلدون” بأصدقائه.. دخل الفتى – مَزْهُواً – إلى الرّكن الذي يُعِدّ فيه الشّاي… يتراقص الأملُ على جبينه العريض… لا شكّ أنّ مُلخّصه الجديد؛ سيكون موضوع الأمْسِية… وهو يصُبّ الشّاي؛ طلب منه “خلدون”أن يأتي بكيس مكسرات من السيارة، اشتراه الرجل وهو في طريقه إلى المكتبة.. كانت السيارة مركونة في الجوار؛ وقبل أن يصل إليها؛ لمح شخصاً مُلثّماً، يحوم حول مخزن المكتبة. تراجع خطواتٍ إلى الوراء؛ ثم جرى؛ مُنادِياً العمّ خلدون… لم ينفع النداء…. اعترضه أحدُهُمْ وضرَبهُ على رأسه.. قفز العشرات من المُلثّمين إلى الداخل؛ وتوالتْ طلقات الرّصاص..!
مرة أخرى؛ يجد نفسه في المُستشفى..! مرّة أخْرىيفْقِدُ الدِّفء… تأكله الخيْبة… يحتضر فجرُه على إيقاع نايٍ حزين… يُؤثّثُ لِنَحِيب الأزْمِنَة المُتآكلة على رَصيف الدّم المهدور… تمرُّ الأيامُ ثقيلة… بطيئة… وكأنه لا يتمنى أن يُشفى… سئم الخيانة… سئم الغدر… سكنتْه الفجيعة، عاش الِانْطواء لشهورٍ عديدة، حتى أفلح عمّهُ – بعد جهود كبيرة – في استدراجه إلى شُغلٍ جديد… اعتبره العمُّ مُؤقّتا في بداية الأمر؛ غير أن الفتى تحمّس وعكف على شُغله؛ مُمْتناً لعمّه وللواسِطة التي جلبتْ له هذا النوع من الشغل..
كان يشعر بأن العالم؛ يجب أن يتطهّر…! يستحضر قراءاتِه ومُلخّصاتِه، تنساب دمعة ساخنة على خدّه… يمسحها بكفه… يتمثّلُ صورة “خلدون”وأصدقاء النور؛ فتعتريه حُرْقة، تعقبها زفرات… ويعود للتفكير.. تراهم لو عاشوا إلى اليوم.. هل كان بالإمكان أن يهتدوا إلى صناعةِ عالَمٍ طاهِر..؟!
يُضنيه التفكير… يتوسّدُ راحة يده… ينام… السادسة صباحاً؛ يدقُّ جرس المُنَبّه؛ يقفز إلى حيث ملابس الشغل… يرتدي بدلة المُنَظّف التي حرص على تطهيرها في المساء.! يرتشف قهوته… يخرج وفي اعتقاده أن تطهير الأرض؛ هو الطريق الأول لتطهير النفوس..!
أنوار السلام..
في الليل؛ يلتقي عامل النظافة ببائع البقدونس:”رضوان” الخطاط البارع.. وفي غياب الكلام؛ يتناقشان على الورق.. تفاهمٌ عجيب… وحماسٌ فريد.. أحدهما يكتب بحروف عادية؛ ولكنها حُبْلى بالدّلالات… بينما الثاني يُحوّل تلك الحروف العادية إلى سبائك من ذهب… سيشِعّ نورها في ثنايا ليْلٍ بَهِيم… حروف تنْزرِعُ معانيها في خاصرة القمر، فتزيده ضياءً؛ فإذا هو على صفحة ماء مترقرق؛ يُرْسلُ وَعْداً بتحقيق حلم.. كان “رضوان” قد نقشه على ورقة البقدونس في يومٍ ما.. وظنّهُ ضرْباً من الخيال..! وكان “قويدر الأبكم” قد تنسّمَهُ أثناء جلسات النّور مع أصحاب النّور.. فاعْتقدَهُ.. واستعدّ له.