تربية وثقافة
فـــــي مـــواجـــهــــــة الـــوحـــــش..!
خاص “المدارنت”..
لم تكن شمس أيلول قد استفاقت بعد؛ فقد كانت على فراش رقادها متلفّعة بوشاح داكن هذا اليوم. ولم يكن “بو صبحي” لينتظر صحوتها، فقد نزع لحافه، ونهض يستقبل يومه كعادته متوقّد الحيويّة والنشاط. وبسرعة، ارتدى قمبازه واعتمر الكوفيّة البيضاء، وفوقها العقال الأسود، وخفّ الى بستانه يريد ريّ شجيراته العزيزات بعد اسبوع على السقاية السابقة.
كان قد ملأ البرْكة من مياه الضيعة لهذه الغاية يوم أمس، وها هو اليوم، والمجرفة على كتفه، ومقصّ التشذيب على جنبه ، يسرع لإطفاء عطشهنّ الذي يشعر به في حلقه وبين جنبيه .
قبل ان يفتح السُّكْر، كانت له جولة طويلة على تلك الشجرات الحبيبات.
ها هي شجرات التين، يتفقّدها واحدة بعد اخرى، يتلمّس جذوعها وبعض أغصانها الدانية ، وينظر اليها بحنوّ أبٍ عطوف. إنّها مثقلة بثمارها من “طيبان” التين الشهيّة. يقطف ثلاثة منها ليتحلّى بها بعد فطوره.
“ما شاء الله! هالسّني، حصّتنا من مربّى التين رح تكون كبيرِهْ”.
يجرّد بمجرفته طريق المياه الى هذه الشجرات من الأتربة والحصى.
ثمّ يمضي الى جلّ الزيتون. وهنا تطفح على وجهه ابتسامة عريضة، وينطلق لسانه بالغزل: “يا ألله، شو كريم هالزيتون! ما في سني بيحرمنا. سَجْرهْ، ألله مبارك فيها . ليكو هاي هالحلوي الزغيري شو حاملي”، ويتلمّس حبيباتها بتؤدة ورفق “السني الماضية كبسنا وعصرنا تنكة زيت، وهالسّني مو أَأَلْ من هيك”.
ويتابع تجريد الساقية الى أشجار المشمش والكرز. وهنا تتقلّص الابتسامة على شفتيه؛ فالموسم لم يكن على ما يرام مع أنّه لم يبخل على هذه الأشجار بالعناية الوافية من حرث وريّ وتسميد.
“ما عليّْ شِي ، السّني صار شويّة سأعهْ بالربيع . السّني الأادمي بيكونو احلى”.
ويشرع بمقصّه في تشذيب هذه الأشجار من الأغصان اليابسة.
ويتابع جولته، فتلاقيه أشجار الخوخ والسفرجل والدّراق، تمدّ اليه أذرعتها المحمّلة بالثمار الناضجة، فيصافحها مقتطفا” بعضا” من هذه الثمار ، وهو يقول: “حقّا”، السَجَر أكرم من بني آدم . نحنا شو عملنا غير إنّو سقيناها ونكوشنا هالشويّة تراب عند كعبها، حتى تعطينا كلّ هالخيرات ؟!”.
وينهي أبو صبحي جولته معرّجا” على جلّ الخضرة من البندورة والخيار والبقدونس والنعناع ، فيقطف منه حاجته لوجبة صباحيّة لذيذة، يتناولها بعد السقاية ؛ فالسَلَطة مع خبز التنّور الطازج والجبن البلديّ والزيتون ، ترويقة لا يحلم بها ملك.
ويجلس على حجر كبير بالقرب من البركة ليستريح قليلا” قبل المباشرة في السقاية. العوافي يا بو صبحي. هيئتك بدّك تسقي. لشو؟! مانك شايف هالسما موجّهة عالشتا؟!”.
يفاجئه صوت جاره أبو صالح. وكمن أفاق من غفلة طويلة. لقد كان منشغلاً بلقاء حبيباته والتحدّث اليهنّ. أغلق على هذه الهواجس ومضى الى منزل الأسرة لتناول إفطاره، مرجئاً السقاية ريثما تتّضح معالم الجوّ.
تحلّقت الاسرة حول المائدة. كانت الأرغفة الخارجة من التنّور ما تزال ساخنة. وما ألذّها طعما “ورائحة”، وهي تتوسّط المائدة وحولها قوالب الجبن والزيتون ومكدوس الباذنجان، وتلك الأقراص من البندورة البلديّة والنعناع!
وما كادت الأيدي تمتدّ لتناول الطعام، حتى قرع الآذان صوت الرصاص يلعلع من بعيد. كان الحسّ الباطنيّ لأبي صبحي، يحمل إليه نذر شرّ قادم؛ فما أن طرق أذنيه ذلك الصوت حتى هبّ واقفا، وطارت به خطاه نحو بستانه قرب السيل، وتبعته أسرته.
كانت أصوات الرصاص ما تزال تُسمع من بعيد، وقد غدت تقترب رويدا رويدا، حتى باتت تتخللها اصوات التحذير “سيل، سيل، سيل بْعِدُوا”.
لطم هذا التحذير مدارك أبي صبحي. ما كان يتخوّف منه قد وقع. وها هو السيل تبدو طلائعه طوفا” عرمرميا من مياه غبراء، يتقدّم جارفا معه الأتربة والصخور والاشجار والحيوانات النافقة، يرافقه هديره وصيحات الصبية والكبار المتردّدة هنا وهناك.
كان المشهد صادما لدى أبي صبحي. لقد كان نظره يتردّد بين الطوف الوحشيّ القادم وبستانه الذي يحتوي فلذات قلبه وحبّات عرقه وجهده.
وما أن بلغ ارجاء بستانه، وبدأت الأشجار تتهاوى تحت ضغط اندفاعه الكبير حتى طاش الرجل واضطرب توازنه وتفكّكت اواصر تماسكه العقليّ، فانبرى يطلق نشيجا متواصلا، وجرى من مقلتيه مدرار من دموع غزار ساخنة.
وشرع يتحرّك الى الامام والخلف. يتقدّم نحو السيل تارة، يريد خوض غماره، ويتراجع أخرى خوفا وهلعا. لكنّه وحيال سيل مشاعره الجارف يتقدّم هذه المرّة غير عابئ بتحذيرات الآخرين، فتغوص قدماه في مياهه الجارفة ليقع تحت وطأة الاندفاع المائيّ الكبير، فلا يجد نفسه إلا وهو على سرير مريح في مستشفى المدينة.
لقد جرفه السيل قليلا قبل أن يتداركه المسعفون، وينقل الى المشفى وهو على حال من غيبوبة تذهب بوعيه بضعة أيام.
لم يطل مكوثه في المشفى بعد ذلك؛ فقد عاد الى منزله. عاد حيّا بعد أن كاد يخطفه الموت؛ لكنّ حزنا عميقا بدا في عينيه، وتغضّنا كثيفا اجتاح وجهه، وارتعاشا خفيفا في اليدين المجعّدتين.
مضى الخريف والشتاء القارس، ولم تتساقط مداميك بنيته وتخمد حرارة أنفاسه. وجاء الربيع، وعاود الدفء الكائنات، وجرت الدماء في شرايين الإنسان والطبيعة.
وفوق كوم الركام الذي خلّفه السيل في بستان أبي صبحي، شوهد الرجل يحاول استصلاح أرضه وتهيئتها لغرس جديد وحبّ جديد.
لكنّ المشهد الذي أثار دهشته، وامتنع عليه تفسيره هو عندما كان عائدا الى منزل الأسرة بعد يوم حافل بالجهد والتعب، هو مشهد زهرة نرجس، كانت قد شقّت لها منفذا الى الحياة والنموّ بين شقوق الصخور.