بحر الظلمات..
أيها الأطلسي الذي سماك العرب الأُول
بحر الظلمات
ها أنا على العُدْوَة القصوى
المُقْفِرَة منذ بضعة قرون
والمكتظّة بالحواضر اليوم
والمقابلة للعُدْوَة الدنيا
التي كانت في الماضي السحيق
شمسا تشرق منها الأنوار
حتى على المشرق
فأفلت هناك على سفح قاسيون
بجوار قبر ذلك الذي سمي
الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر
وحمل العروبة في اسمه وجسمه وروحه
وكان طائيا نسبا وفعلا وشعرا ونثرا وعلما
وأنجبته أرض أهدت الدنيا العلم والنور
قبل أن يحوّلها ملوك الطوائف
إلى منعق للغربان ومنعب للبوم
أيا قاسيون لماذا لا تصبح دَكًّا
وتبتلع كل الحثالات التي تربعت على العروش
وتحكّمت برقاب البلاد والعباد
ودنّست الثرى الذي آوى رأس يحيى
وجسد صلاح الدين
ونجست التراب الذي نبع منه التاريخ
ونبت منه الياسمين
أنشودة طهر وعشق لكل الحالمين
وَعُوْدًا يحترق ويملأ عبقه كل العالمين
***
نِعْمَ الجار أنت يا بحر الظلمات
فقد أيقظتني من غفلة لازمتني لسنين
ونبهتني من مغالطة وقع فيها كثير من الإنسيين
حين خاطبتني مياهك
بصوت يشبه الهمس وبكثير من الحنين
لقد أخبرتكم كتب التاريخ
أن كولومبوس قد جوزي جزاء سنمّار
فقاسى السجن والفقر والذل في نهاياته
بدل أن يكرمه الكرسي الملكي
على جميل صنيعه وعظيم مأثرته
بفتحه كنوز العالم الجديد
ولكن كتبة التاريخ ومدونيه
لديهم هوايات وغوايات شتى
من بينها بلا ريب التصحيف والتحريف والتزييف
وهم قد أخبروكم بجزء من الحقائق
وأخفوا عنكم الجزء الأعظم والأهم
ونحن نأتيكم بالنبأ اليقين
والخبر الحق والمقال الفصل
لقد مسّ كولومبوس الإجحاف من المليك والملكة
لكنه قد نال الجزاء الأوفى من التاريخ
والتاريخ حَكَمٌ عادل لا يعرف الظلم ولا المحاباة
فمكتشف القارة الأمريكية
قد جافى الحقيقة وجانب الصواب
بتسمية السفن الثلاث تسمية الأنثى
وكان ينبغي له إحقاقا للحق
ووفاء لأهل الفضل والسبق
أن يسمي السفن الثلاث
بأسماء الأبناء الثلاثة
الذين أصبحوا فيما بعد
الآباء الثلاثة لذلك العالم الجديد
إبن عربي
وإبن رشد
وإبن حزم
ولكن العقوق قد أغوى بني الأصفر
والجحود قد استحوذ عليهم
فبدّلوا الأسماء
وغيّروا الأنباء
وذهبوا بعيدا في التصحيف والتحريف والتزييف
ولكن مهما أنكر الجاحدون
وكذب المفترون
فإن كل قطرة من هذه المياه
تشهد أن أميركا ما خرجت إلا
من رحم الأندلس العربية
وأنها كانت هناك
في مُجَسّم الشريف الإدريسي
الذي أبدعه وقدمه هدية للملك الصقلي
***
لقد طَوَتِ الأجداثُ أجسادَ ملوك الطوائف
وسجّل التاريخ أسماء الخزي والعار
التي أدخلتهم إلى سطوره
وهم يرسفون في أغلال الذل
ويطأطئون رؤوس المهانة
فهم الذين باعوا أميركا
لبني الأصفر
عندما كانت جنينا في أحشاء الأندلس
وهم الذين حرموا ساو باولو
والمكسيك وواشنطن
من المآذن والقباب
وأدخلوا إليها النواقيس والمذابح والصلبان
لقد مات ملوك الطوائف وشبعوا موتا
لكن أشباحهم لا تزال ماثلة
تتناسل منجبة عبيدا للكراسي
وولاّدين للمآسي
ومهدّدين كل قُطْرٍ ينطق الضاد
بأن يصبح أندلس أخرى
***
من سواحل الذهب والعاج
سيق إنسيون في مراكب
صنعت صواريها من عظامهم
وحيكت أشرعتها من جلودهم
وبنيت هياكلها من لحومهم
وأودعوا في الأقبية المظلمة والمنتنة
مقيدين بالسلاسل
كالدواب والبهائم
أو حتى أقل شأنا
يتوسّدون نتاج الأمعاء
ويتّكئون على سائل الكِلَى
ويفترشون ما تلفظه المعدات
وإن تجرأ أحدهم على تذكير الربان والضباط بآدميته
لاجئا إلى العالم الآخر فوق ثبج البحر
فإنّه فورا يصبح طعاما للأسماك
في لجة المحيط
على أكتافهم قامت هذه الحضارة
وبأشلائهم شيدت مجدها المزعوم
وبدمائهم وعرقهم كتبت أسطورة عزها المُدَّعى
ومهما تناسى الناس هؤلاء المسحوقين
فإن منهم من رفض الذل
وقام بثورات تنشد الحرية
وتطلب الكرامة
خصوصا أولئك الذين كانوا
من أهل الشهادة والبسملة والتكبير
فكانت أندلسهم في العالم الجديد
مقموعين ومسحوقين
لكن موفوري الكرامة
في الأرماس
وفي سطور التاريخ المنسية
***
إلى الذهب والفضة والنحاس
إلى الياقوت واليشب والزمرد والماس
إلى المناجم التي لا تنصب
إلى الأدغال التي تخفي الكنوز
في مُشْتَجَرِ أَجَمَاتها الكثيفة
فقامت المدائن
وعُمِّرَت الحواضر
وازدهرت الأسواق
ونشأت الحضارة القوية الجبّارة
وبُنِيَت صروح العلم والأدب
ووجد بنو الروم ما كانوا يرومون
ولكن كل هذا ما كان ليقوم
إلا على أُسُسٍ ودعامات
لم تكن إلا قبور ومدافن
الشعوب والأمم المنكوبة في العالم الجديد
ومعهم الرقيق الذين سيقوا من كل أسواق النخاسة
في أميركا
وجد الإنسان كل الكنوز
وجاوز كل الذُّرى
لكنه فقد
البقية الباقية من إنسانيته
وسفح السُّلافة الأخيرة من آدميته
في جماجم كل المسحوقين والمدعوسين
منذ فجر التاريخ
***
من أميركا الذُّرَة والبطاطا والبندورة والتبغ
ومنها حروب تحرير المستعمرات من الإمبراطوريات الأم
ومنها العبيد في حقول قصب السكّر والقطن والبنّ
فهي أم العبودية وأم الحرية
وهي المستعمرات التي صنعت استقلالها
لتصبح واحدة منها
أم الإمبريالية في العالم وأباها
من أميركا القنابل الذرية والنووية
والوحشية والهمجية
في إلقاء اثنتين منها على أرض الشمس
وفي حروب عصابات رعاة البقر وقراصنة البحار
التي أبادت الأمم والشعوب
التي كانت تستمدّ حياتها من طبيعتها
التي كانت يوما ما
بِكْرًا خلّابة
***
لم تحترف يابسة صناعة الأحلام
كتلك التي تمتد وحيدة ويتيمة وعظيمة
بين المحيطين الجبارين
إليها وفد الوافدون وأبق الآبقون
في كل فلك مشحون
شراعي أو بخاري أو عابر للمحيطات
فرارا من أهوال العالم القديم
الذي ضاق بمطامع وجشع جلاديه وجباريه
الكل وطأ أراضيها على الرحب والسعة
ونشأت من هذا النزوح العظيم هويات جديدة
قدست الحرية والكرامة والعدل
لكنها ما لبثت أن ارتدت على أعقابها
ونكصت النكوص الكبير
حين أخذت العالم القديم على حين غرة
أفسحها وفرضها الإصطراع على المغانم
وتقاسم الثروات والنفوذ
بين القوى المهيمنة
فصارت أرض الأحلام
أرضا للكوابيس
وتعلمت فادية الرقيق
وداعية الحرية الأولى
حرفة الإضطهاد والإستعباد والإستبداد
وتفوقت في هذه الصنعة
على كل من سبقها من أربابها
وصارت الرمز الأول للإمبريالية بلا منازع
وإن أخفت ذلك تحت البراقع
ففيض القوة والجبروت
سمح لها بأن تفعل ما تشاء
دون وازع ولا رادع
لكن بريق الأحلام
لا يزال يلمع
في كل أرجاء هذه القارة العملاقة
ولا يزال الحالمون والواهمون والآبقون
يفرون إليها ويعتصمون بها
كلما ألمت بهم نازلة
أو حركتهم نزوة
وأغرتهم ثروة.