بشار الأسد والنأي عن إيران.. بين الإرادة والقدرة..!
“المدارنت”..
على مدار أكثر من عام، كُتب الكثير عن “نأي” رأس النظام السوري، بنفسه، عن الصراع المتفاقم مع إسرائيل. وفي الأسابيع الأخيرة، تكثفت التحليلات والأخبار التي تدلل على ذلك. لكن يندر أن يتم التفريق بين “الإرادة” و”القدرة” في خضم هذا النقـاش.
وفيما لا يبدو الخلاف كبيراً حول هل “يريد” بشار الأسد “النأي” بنفسه، أم لا، يؤدي تجاهل مدى “قدرته” على فعل ذلك، إلى تحليل مغلوط للتعقيدات الصعبة في المشهد السوري.
وإذا بدأنا بالمسألة الأسهل: هل “يريد” بشار الأسد “النأي” بنفسه عن الصراع مع إسرائيل؟ نجد مؤشرات يصعب حصرها، تدلل على ذلك. ومنذ سنوات. وقد ازدادت هذه المؤشرات حدّة منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة.
لكن إن غيّرنا السؤال السابق، ليصبح: هل “يريد” بشار الأسد فك تحالفه مع إيران؟ تصبح الإجابة معقّدة. تحديداً، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ذلك أن احتفاظ بشار الأسد بمكاسب التحالف مع إيران، من دون دفع أثمانه، أصبح أكثر صعوبة.
يصعب الجزم، هل الاختراقات الأمنية “الإسرائيلية”
دخلت من قنوات “أسدية”
أم من قنوات إيرانية وأخرى تتبع لـ”حزب الله”؟
وباتت أثمان هذا التحالف، أفدح من السابق بمراحل. وأصبح كون بشار الأسد حليفاً لإيران، وفي نفس الوقت، ليس عدواً لإسرائيل، معادلة عصية على التنفيذ اليوم. بعد أن كان بشار الأسد قد نجح في موازنة تلك المعادلة لسنوات. وخسارة الحليف الإيراني اليوم، تعني الوقوع تحت سطوة الحليف الروسي، بصورة مضرّة للهامش المحدود المتبقي من الاستقلالية لبشار الأسد. وتعني خسارة الدعم النفطي الإيراني الذي يُبقي الاقتصاد السوري في غرفة الإنعاش. والأهم، تعني خسارة هامش المرونة المتبقي لدى بشار الأسد لخلق موازنة بين الأطراف الإقليمية التي يتعامل معها. بحيث يصبح مضطراً للانصياع لأطراف محددة، بصورة أكبر. دون أن ننسى مخاطر خسارة صناعة وتجارة الكبتاغون التي تشكّل مصدر الدخل الرئيس للنظام، والتي ينخرط فيها هذا الأخير بشراكة معقّدة مع حزب الله وإيران.
لكن إن انتقلنا إلى مسألة “قدرة” بشار الأسد على “النأي” بـ“النظام” عن إيران. يصبح التحليل أكثر تعقيداً بصورة كبيرة. هناك إشارات تعود إلى العام 2018، متمثلة في تصريحات ومواقف مسؤولين عرب وإسرائيليين وغربيين، توحي بأن لديهم القناعة بـ “قدرة” بشار الأسد على تنفيذ جانبٍ من هذا “النأي” المطلوب. وكامل مسعى “التطبيع” العربي، قائم على هذه الفرضية. وهنا يُطرح تساؤل: ماذا يمكن أن يفعل بشار الأسد كي نستطيع القول إنه “نأى” بالنظام السوري عن إيران، جزئياً أو كلياً؟ إحدى الأجوبة تكمن في الاستهدافات الإسرائيلية الدقيقة التي طالت مستودعات ذخيرة وبنية تحتية عسكرية وكوادر وقيادات فاعلة، من حزب الله وإيران، على الأراضي السورية، منذ مطلع العام الجاري. وهي الاستهدافات التي تكثفت وتواترت حتى خلقت فرضية مفادها، انخراط أجهزة مخابرات تابعة للنظام السوري، في تسريب معلومات أمنية مفيدة لإسرائيل بهذا الصدد. لكن عملية تفجير “البيجر”، واستهداف قيادات الصف الأول والثاني في حزب الله على الأراضي اللبنانية، وقبل ذلك، استهداف إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، في طهران، تجعل فرضية التورط الأمني لمخابرات الأسد، ذات أثر جزئي. إذ يصعب الجزم، هل الاختراقات الأمنية الإسرائيلية، دخلت من قنوات “أسدية” أم من قنوات إيرانية وأخرى تتبع لحزب الله؟ وبخصوص القنوات “الأسدية” لهذا الاختراق، لا يوجد ما يدلل على “إرادة” بشار الأسد شخصياً، في تحقّق ذلك. ومن الجلّي أن القيادة الإيرانية ذاتها، لا تستطيع الجزم، بهذا الصدد.
يجب النظر إلى النظام السوري بوصفه “شركة” يملك بشار الأسد بعض أسهمها، وليس جميعها، وتملك إيران أسهماً فيها، وبصورة مباشرة. كما ويملك ماهر الأسد أسهماً أيضاً. ولروسيا أسهمٌ أيضاً. هؤلاء الشركاء الأربعة، يملكون علاقات معقّدة مع بعضهم. يتحالفون حيناً، ويتنافسون أحياناً.
وفي سياق متصل، لحظنا على مدار العام 2023، كيف فشل بشار الأسد في “النأي” بنظامه اقتصادياً عن إيران، التي استطاعت إجباره على توقيع صكوك إقرار رسمية بنفوذها الاقتصادي لقاء ديونها عليه، رغم كل محاولاته للتملص.
مؤشرات أخرى على عدم “القدرة”، يمكن لحظها بالسنة الأخيرة. إذ أُطلقت قذائف مدفعية على هضبة الجولان المحتل، أكثر من مرة، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ورغم أن هذه القذائف كانت محدودة العدد والفاعلية، إلا أنها تؤكد عجز بشار الأسد عن منع تحويل الأراضي الخاضعة لسيطرته، اسمياً، إلى منصة لتنفيذ مصالح إيران. والأبرز، كان استهداف إسرائيل مقرّاً تابعاً للفرقة الرابعة، كانت تتردد إليه قيادات بحزب الله والحرس الثوري الإيراني، مؤخراً. وهي رسالة مباشرة لشقيق رأس النظام، ماهر الأسد، بضرورة فك ارتباطه بإيران. وهو ما يحيلنا إلى حيثية مهمة للغاية، تتمثّل في أن أقوى فرق “الجيش” السوري، تمثّل حليفاً مقرّباً من إيران وحزب الله. وهو حليف منخرط بصورة كبيرة في تجارة الكبتاغون المشتركة. وفي هذا السياق، يمكن الإحالة إلى تقرير موقع “إنتليجنس أونلاين” الفرنسي الذي تحدث عن توتر في العلاقة بين الشقيقين، بشار وماهر، من جراء الاستهدافات الإسرائيلية لقيادات إيرانية في سوريا.
ورغم الحديث عن ضغوط أمنية مارسها النظام على حزب الله، لمنعه من تجنيد سوريين في قتاله مع إسرائيل، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى أن مناطق بأكملها في سوريا، تحولت إلى كانتونات خاضعة للسيطرة المباشرة لإيران أو حزب الله. ويكفي التذكير بحملة الترويع التي شنها مقاتلون وأنصار لحزب الله، بحق أهالي مدينة حمص، بعيد الإعلان رسمياً عن مقتل حسن نصر الله. حملة الترويع تلك تمت على مرأى من قوات النظام السوري وأجهزة أمنه، التي انسحبت من بعض مواقعها، أثناء ذلك.
ما سبق من مؤشرات، إلى جانب أخرى كثيرة -لا يتسنى تفصيلها في المساحة المتاحة هنا-، تدفعنا لإعادة تصوّر “قدرة” بشار الأسد على “النأي” عن إيران، بصورة مختلفة.
فـبشار الأسد يستطيع “النأي” بحصته من النظام، عن إيران. لكنه غير قادر على “النأي” بالنظام السوري بمجمله، عن الحليف الإيراني. ولفهم هذا التعقيد، يفيد الاستعانة بتشبيه مجازي. إذ يجب النظر إلى النظام السوري بوصفه “شركة”، يملك بشار الأسد بعض أسهمها، وليس جميعها. وتملك إيران أسهماً فيها، وبصورة مباشرة. كما ويملك ماهر الأسد أسهماً أيضاً. ولروسيا أسهمٌ أيضاً.
هؤلاء الشركاء الأربعة، يملكون علاقات معقّدة مع بعضهم. يتحالفون حيناً، ويتنافسون أحياناً. لكن لا أحد منهم يملك القدرة على قيادة النظام السوري برمته، في اتجاه ما. بل يجب عليهم الوصول إلى حلول وسط بينهم. أو المراوحة في المكان. ورغم ما في هذ التشبيه من تبسيط، إلا أنه يساعدنا على فهم محدودية “قدرة” بشار الأسد، رغم أنه، نظرياً، “الرئيس”. لكنه عملياً، هو شريك، لا أكثر. يسعى قدر استطاعته لخلق هامش من الاستقلالية له، عن شركائه الآخرين. لكن سعيه هذا يصطدم دوماً بتعقيدات هذه الشراكة، التي قد يعني فصم عراها، انهيار النظام برمته، في الحدود القصوى. أو اتفاق شريكين أو أكثر على إزاحة الشريك الرابع، من الصورة تماماً، في الحدود الدنيا.