بشــائـــــر الـــمـــطــــــر..
خاص “المدارنت”..
… الزجاجة في يسراها، وفي اليمنى خرقة تمسح بها بلّورتها؛ حتى إذا غدت شفافة لامعة، وضعتها موضعها من القنديل الذي ملأته لتوّها زيتاً، ونظّفت فتيله، ثم مضت تحمله إلى “الوجاق”، ليكون جاهزاً للإنارة.
وتتحول أم محمود، لإعداد مائدة العشاء. وهل غيره البرغل بالعدس يشدّ عصب الرجال؟! والرجل الذي انهكه الجري خلف المحراث طوال يومه، سيجد ما يسند به قلبه من البرغل واللبن واللفت المخلل، وارغفة التنّور الطازجة.
ويُسمع وقع حوافر الدواب، تطأ عتبة الدار، فتسرع أم محمود، معافية زوجها الذي يترجّل متوجّهاً إلى عشائه؛ فيما تمضي تلك المرأة بالدواب إلى حظيرتها حيث المعالف الملأى بالتبن والشعير.
وتجتمع الأسرة حول مائدتها قعوداً، فتمتد الأيدي إلى الطبق المشترك تلتهم أطايبه بشهية؛ حتى إذا فرغ أو كاد، كانت القِدر المركوزة على الموقدة سريعة التلبية، إلى أن تشبع البطون، ويصمت نداء الجوع والتعب.
– “شفتِ يا فاطمة؟ دعسنا بكوانين وما شفنا نقطة شتا بعد. انا خايف عهالحبات اللي زرعناها من شهر”.
– “إنتَ أكرم من ربّك يا زلمي؟ الله كريم. ما تقول إلا ونزلت المزاريب”.
– “مانك عحشيشتك” اليوم. الظاهر كنت على التنور. انتبهي لحالك. الحرارة تسبب لك وجع راس.
وبابتسامة تشي بما في القلب من ألم دفين:
“تعوّدنا.. وإنتو شو بتاكلوا اذا ما خبزنا؟ نشتري الخبز من الفرن كما في المدن؟! وجع الراس ما بيهم. الحمد لله المونة كاملة ببيتنا: الخلايا تفيض بالبرغل والعدس والحمص… والمراطبين مليانة بالدبس ومربيات المشمش والتين والتفاح، وبالمكدوس من الباذنجان والفليفلة واللوبياء…
لم يكن أبو محمود، ليطيق سماع قصة “المونة” كاملة؛ فقد كان همّ انقطاع المطر وحاجة البذور المزروعة للإرتواء يشغل منه البال؛ في الوقت الذي كانت مقلتاه تغالبان النعاس بعد نهار طويل من الجهد والتعب.
لاحظت أم محمود، ثقل الجفنين في عيني زوجها، فأسرعت تبسط فراش الصوف وسط الغرفة؛ فيما كان الرجل يغالب تعبه وثقل اجفانه، ليحمل نفسه إلى الحظيرة، يتفقد دوابه في طعامها وشرابها قبل النوم، ويعود ليطرح نعاسه وهموم حقله على ذلك الفراش الوثير.
مع اغماضة العينين المتعبتين، كان الرجل يدفع المحراث خلف دابتيه النشيطتين، وفي الجو تتلبد سحب سوداء، لا تلبث طويلاً حتى يتدفق مطرها فيضاً من الخير يصل الأرض بالسماء؛ فيسرع الرجل ليفك “الصمد”، ويعتلي ظهر إحدى دابتيه ليعود إلى المنزل والمطر يتدفق غزيراً يضخّ خيره السماوي في عروق الأرض الجافة، فيبتلّ قلب التراب ويتضوّع عبيره، وتضحك في أعماقه البذور والجذور.
أما أبو محمود، الذي دهمه المطر، فكان على ظهر دابته يتلقى زخّاته مردّداً: “الله يبعت الخير! الله يبعت الخير!”.
صحا الرجل. هذا هو موعد صحوه الصباحي. لم تكن الشمس قد أشرقت بعد. نهض. أخرج الدابتين من الحظيرة. اعتلى ظهر إحداهما. حملت المرأة “صرّة” الزاد إليه، ومضى لاستكمال أعمال أمسه.
لكنّه، وهو يغرّب باتجاه حقوله، كان يلمح في الأجواء علائم أمطار قادمة؛ فالرياح تهبّ، والغيوم الرمادية تتلبّد في الأفق، والحرارة في انخفاض، وما يدري أتصدق أضغاث الاحلام؟
======================