تربية وثقافة

بـيـــن الـحـقـيـقــــة وحـقـيـقـتـنــــا..!

نايلة الحلاني/ لبنان

خاص “المدارنت”..

صار باستطاعة أي حدث أن بقسم الناس عاموديّاً، البعض يتّهم الدين، والبعض يحمّل المسؤوليّة للإلحاد، والغالبية تصدر أحكاماً مبرمة لا نقاش فيها، والجميع يحسب نفسه قاضٍ “لا حكم عليه”…

حقيقة الأمر أن المشكلة ليست في الدين، ولا بالإلحاد، ولا بالإيمان أو عدمه، ولا بالكتب السماويّة، ولا بالآخر، ولا بالمختلف عنّا.

المشكلة الحقيقية، تكمن داخل كل فرد منّا، لأننا نشأنا، وللأسف الشديد، بطريقة مرتكزة بالدرجة الأولى على العنف.

العنف الذي أذكره هنا، ليس بالضرورة عنفاً جسديّاً أو لفظيّاً أو معنويّاً، فلست بصدد التطرّق إلى العنف التقليدي الذي تعوّدنا سماع أخباره على شاشات التلفزة، وعلى منصّات الاتصال الإجتماعي. إنما أقصد العنف الذي يدمّر الإنسان من داخله شيئاً فشيئاً خلال نشأته، فيصل في نهاية المطاف إلى أن يفقد ذاته الحقيقية، ويصبح “شيئاً” غير واضح المعالم، تقتصر مهمّته على التشبّه بما يحيط به لكي لا يختلف عن الصورة التي رُسِمَت له وفُرِضَت عليه.

نشأنا، وكل واحد منّا مقتنع إنّه على صواب، وغيره مخطئ، ليس هذا فقط، بل وتخطّاه إلى أن يظنّ كل فرد أنّه وحده يملك الحقيقة المطلقة والجميع ضالّون!

لماذا وصلنا إلى هذا الحدّ من التردّي القيَمي؟

لأننا  تربّينا على  عدم “تحمّل مسؤولية أعمالنا”، وهذا موضوع يطول الكلام حوله.

لم  ننشأ على مفهوم “الحريّة المقدّسة” التي تولد معنا من دون منّة من أحد، ولم ينمّ أحد لدينا “تقدير الذات” و”احترام الآخر”، فـ”البهدلة” و”الكفّ” كانا من “مقدّسات” المجتمع، ونتيجتهما الأهم هي انعدام تقدير الذات.

لم نتدرّب على “اتخاذ القرار المناسب”، لأن أحداً لم يترك لنا المساحة للقرار، فكانت تأتي القرارات معلّبة من الأب أو من المسؤول، ولا مجال للنقاش، فهذه “قلّة مربى”.

ترعرعرنا على الخوف من كل ما يحيطنا: الله، الأب، الأم، الآخر، المجتمع، المجهول، الخطأ (مع تحفّظي الشديد على مفهوم “الخطأ”، لأن من حق المرء أن يخطئ فيتعلّم)، المختلف دينيّاً أو مناطقيّاً أو مذهبيّاً…

فصار الخوف يكبّلنا ويسجن تفكيرنا داخل قوقعة قاسية، من الصعوبة كسرها لتراكم الطبقات المتتالية عليها، فولّد لدينا حالة من العدائية المتواصلة وغير المبرّرة.

لكن الثابت الأوحد، أننا “دائماً على حقّ”! وثقتنا هذه تنبع من الموروثات التي لم نتجرّأ يوماً على مناقشتها ولو سرّاً، لأن الخوف كبّل حرّيّة تفكيرنا. فإعادة النظر بالموروثات من المكفّرات! هذا عدا خوفنا من العقاب الذي سوف يطالنا، او القصاص الذي قد يلسعنا، أو المجتمع الذي من المؤكّد سيركلنا خارج دائرته الضيّقة، أو الأسوأ، وهي “نار الآخرة” التي تستعر على مزاجنا ونرمي بها من يخالفنا بالرأي أو بالانتماء… وقد نخاف أشياء أخرى أيضاً لا مكان لتعدادها جميعاً.

فلنتذكّر، أن كل فرد وُلد ونشأ في بيئة، أعطته أفكارها وطبعته بعاداتها وتقاليدها، فدرس تاريخها وحفظه، وتشرّب معتقداتها وأفكارها النمطيّة وتبنّاها.

البعض لم يتخلّ عن هذه النمطيّة، والبعض الآخر كانت لديه الشجاعة الكافية ليعرف أنّه حرّ ويقرّر أنّ لا أحد، لا هو ولا سواه، يملك الحقيقة المطلقة. فهم أن كل فرد يرى الحقيقة من زاويته الضيّقة، ولكي نتمكّن من رؤية الحقيقة الكاملة، علينا أن نجمع هذه الزوايا ونتّحد لبناء غد جميل ومشرق ننعم فيه بالأمان والمحبّة.

من السهل جدّاً أن نفعل دائماً ما اعتدنا على فعله، كالحكم على الآخر، واعتبار أننا دائماً على حق، فالتفكير بعمق يتطلّب شجاعة وحرّية وتقدير للذات، والقليل فقط يتحلّى بهذه القوّة.

“لا تدينوا، كي لا تدانوا”.. “إرحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء”.. “من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها ببحجر”.

فلنتذكّر جميعنا، أننا قد نخطئ وقد نصيب، ولنرَ دائماً الأصابع الثلاثة التي تشير إلينا بينما نشير بأصبع واحدة إلى الآخر، فليعمل كل منّا عمله بإتقان، وليدَع محاكمة الناس لمن خلقهم، فهو أولى بهم..

ولنعمل على بناء ذواتنا، فبناء الفرد من الداخل وتقوية أساساته القيَميّة والإنسانيّة أولويّة قصوى، وهي أهم من الاعتناء بببناء المنازل والقصور والأبراج والبنايات الشامخة، وترتيب أولويّاته أهم من ترتيب أوراقه، وتربيته على تحمّل مسؤوليّة اعماله، أهم من تربيته على انتقاد الآخرين بسبب إهمالهم لمسؤوليّاتهم…

وبذلك، عمليّة بناء الإنسان لا تتطلّب مجهوداً جبّاراً، بل محبّة واهتماماً حقيقيّين لكي نكون على الدرب السليم الذي علينا سلوكه، بدل تضييع وقتنا وطاقتنا على أمور قرارها بيد غيرنا، ولا ينالنا منها سوى القلق والخوف وفقدان السلام الداخلي وضياع ذواتنا.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى