بلدية بلا رئيس.. ورؤوس كثيرة لا تفكر!

خاص “المدارنت”
في بلدتي.. العاقل لا يترشح، والمجنون يفاوض على الرئاسة.. في بلدتنا الصغيرة ـــ حيث الشوارع ضيّقة مثل عقول كثر ـــ انتهت الانتخابات البلدية والاختيارية كما تنتهي معظم المآسي، بنصف كارثة ونصف نكتة، بعد أن ترشّح فيها كل من رأى في مرآته شخصًا يشبه الزعيم، وكل من نطق بحرفين في مقهى، وكل من له صورة بعباءة، وكل من قال: “أنا ابن هالعيلة”، فامتلأت اللوائح بالأسماء، وتزاحم الناس على الاقتراع كأنهم يختارون مصيرهم، بينما هم، في الواقع، كانوا يختارون شكل المصيبة المقبلة. انتهى الاقتراع، ونجح 18 عضوًا، 9 من كل لائحة. وصُوّر النجاح بأنه “فتح مكة”، بينما الحقيقة أن البلدة فتحت على جهنّم. فالبلدية إلى الآن بلا رئيس، لا لأن القانون غائب، بل لأن العقول غائبة. فأين المشكلة؟
ليست المشكلة في الغشّ واللصوصية، فهما أمران مألوفان في الحياة السياسية والعمل الاجتماعي، بل هي في معركة انتخاب الرئيس، حيث تحوّلت رئاسة البلدية إلى غنيمة حرب، لا مسؤولية عامة. هذه المشكلة فريدة، فبلدتنا الوحيدة التي أفرزت مجلسًا بلا رأس، ولكن بكثير من الرؤوس الصدئة.
اجتمع وجهاء البلدة – وليتهم لم يفعلوا – فانقسموا على قسمة الغنيمة. والمشايخ دخلوا الساحة، لا ليوفّقوا، بل ليفرّقوا.
كلٌّ يريد الرئيس من عائلته، كأن البلدة مزرعة أبقار ورثها عن جده، لا بلدة فيها بشر لهم حقوق ومطالب. والمشايخ الكرام الذين كنّا نرجو منهم رأب الصدع، صاروا أدوات حفرٍ تزيد الهوّة. كلٌّ منهم يعتمر عمامة ويخفي تحتها جمجمة عشائرية لا تعرف العقل. ومن كان يُفترض أن يكون كبيرًا للحل، صار كبيرًا في زرع الفتن. لم يجتمعوا على قلب رجل واحد.. فهم لو فعلوا لأُصيب ذلك القلب بجلطة.
أما العائلات فحدّث ولا حرج، هذا يهدد، وذاك يساوم، وثالث يعرض الرئاسة مقابل خروفين وثلاثة أضعاف من التبن له ولهما!
أكثر من هذا لقد تدخّل رئيس الحكومة (د. نواف سلام) شخصيًّا، لأن الفضائح فاحت ووصلت إلى شوارع العاصمة؛ فزار رئيس مجلس النواب (رئيس حركة “أمل” نبيه بري)، عسى أن ينقذ ما تبقّى من ماء البلدية!
وهكذا.. كلّ البلديات في بلدي انتخبت رئيسًا.. إلا بلديتنا.
ليتنا لم ننتخب، وليتنا بقينا على حالنا، بلا مجلس ولا مشايخ ولا “مبادرات عشائرية”! فلعلّ حفرة في الطريق خير من حفرة في القيم، ولعلّ غياب الإنارة أهون من ظلمة الضمائر!
نحن استثناء! نحن عجيبة قانونية! نحن نعيش في زمن يتيم القيادة وكثير القادة. ففي بلدتنا: الكرسي مطلوب أكثر من العدالة، والزعامة بالوراثة أقدس من أصوات الناس.
وهنا، لا يسعنا إلا أن نبارك لأنفسنا هذا “الفراغ البنّاء”! ونسأل: هل من رئيسٍ يأتي من خارج هذه المزرعة؟ أم نحتاج شيخًا جديدًا.. لكن هذه المرة من دون عمامة؟
وفي انتظار رئيسٍ ينبت من صخرة، أو يهبط من كوكبٍ لم تعرفه العائلات بعد، سنبقى نتفرّج على المشايخ وهم يطفئون النار ببراميل البنزين، ويقيمون الصلح بين الناس بعبارات التحريض، ويتباركون بالحكمة وهم يقودوننا إلى قاع السخافة.
في الختام، نقترح أن يكون الاجتماع المقبل لانتخاب رئيس في ساحة سيرك، بدل قاعة رسمية، في الأقل في السيرك، مهرّجون لا يدّعون الإصلاح، ولا يضعون عمائم فوق رؤوسهم.