بندقية الفلسطيني هويته.. حتى انتزاع حريته
“المدارنت”..
لم يتبقَ للفلسطينيين، غير البندقية للدفاع عن أنفسهم من جريمة الإبادة. هذه الجريمة واضحة ومعلنة، ليست تخمينا أو استنتاجا أو ضربا من ضروب الخيال. في شمال الضفة يتم اقتطاع جنين وأطراف نابلس في حرب صامتة، تتفجر فيها مظاهر همجية المستوطنين، ووحشية الجيش، وتواطؤ البوليس لقتل الفلسطينيين، أو تهجيرهم من أرضهم.
وزير الدفاع الإسرائيلي يتحدث بثقة عن أن تعزيز الأمن في الضفة يتطلب زيادة عدد المستوطنات وتكثيف الاستيطان. وفي غزة أعلنت إسرائيل حرب التجويع في فجر ثاني أيام شهر الصوم. الهدف هو تفريغ قطاع غزة، وتفريغ شمال الضفة الغربية من الفلسطينيين، والبدء في مشروع بناء ما يسمى “إسرائيل 2” أي إسرائيل الكبرى التي تتمدد في أرض رخوة سياسيا وعسكريا حولها، لا يوجد فيها أثر لسلطات السيادة، التي تمارسها الدولة الطبيعية في المناطق المحيطة بإسرائيل مثل جنوب سوريا وجنوب لبنان وغرب نهر الأردن، مع طموح جارف، لكنه مقيد، للتمدد في سيناء.
في غزة لم تحقق إسرائيل أهدافها بالحرب، ولا بالحصار، وهي الآن تعلن حرب التجويع غطاء مكشوفا لمواصلة جريمة الإبادة، وليس أمام الفلسطينيين في مواجهة ذلك إلا اقتسام كسرة الخبز، والاستعداد للدفاع عن بقائهم. الاستعداد لاحتمال استئناف الحرب يجب أن يتقدم على ما عداه، وهو واجب لمقابلة التهديد بالحرب من نتنياهو ووزرائه المقربين. نتنياهو يريد تحقيق ثلاثة أهداف من أجل إفساح المجال لخطة ما بعد الحرب. هو يريد أولا استعادة المحتجزين، وهو يريد ثانيا القضاء على حماس تماما واقتلاعها من ذاكرة الفلسطينيين، وهو يريد ثالثا توقيع اتفاقيات جديدة للتطبيع يكون على رأسها اتفاق مع السعودية.
“فلسطينية” قطاع غزة
سيناء هي الجائزة التي تبحث عنها إسرائيل، لتهجير الفلسطينيين إليها، وتصفية قضيتهم تماما. لكن سلاح المقاومة يحول دون ذلك، فالسلاح هو حصن بقاء الفلسطيني في أرضه لتحدي خطر الفناء. كذلك فإن موقف الدبلوماسية المصرية حتى الآن هو الحائل المعنوي، الذي يفصل بين القوات الإسرائيلية التي تحاصر قطاع غزة، وإطلاق الفلسطينيين إلى سيناء.
الديبلوماسية المصرية كانت وما تزال شريكا في جهود البحث عن حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، فلا يصلح ولا يصح غير ذلك. وهي شريك في صنع اتفاق وقف إطلاق النار مع كل من قطر والولايات المتحدة، إضافة إلى إسرائيل وحماس. ومن الضروري حماية هذا الاتفاق من السقوط، وعدم السماح لإسرائيل باغتياله.
وإذا كان الزعماء العرب جادون في استثمار الوضع الذي أنضجته المقاومة الفلسطينية، بدفع قضية شعبهم على جدول أعمال العالم بشكل عاجل، فإن عليهم أن يدركوا الآن أن إسرائيل، التي رفضت البدء في مفاوضات المرحلة الثانية المنصوص عليها في اتفاق الدوحة، تمضي قدما في خطتها التي تحتضنها الولايات المتحدة لتهجير الشعب الفلسطيني، واستئناف حرب الإبادة ضده. معطيات هذا الموقف تفرض نفسها بقوة على القمة العربية، وتوجب على الزعماء العرب التعامل مع إسرائيل بأعلى درجات الصلابة والحزم، وبما يضمن حماية الشعب الفلسطيني من جريمة الإبادة.
هذا الوقت لا يحتمل بيانات الإدانة ومطالبة العالم بالتحرك؛ فالعالم لن يتحرك إلا إذا تحرك أصحاب القضية. الوقت الذي تمر به الشعوب العربية ليس عاديا، واليوم يجب أن لا يكون مجرد امتداد تلقائي للأمس. وفي الغد من الضروري أن تشهد الأمة العربية فجرا جديدا. يجب أن لا يبقى الفلسطينيون وحدهم في التمسك بـ”فلسطينية غزة”، ويجب أن لا تكون مصر وحدها في الدفاع عن “مصرية سيناء”.
وقد اختارت إسرائيل أن توجه رسائلها واضحة إلى قمة الدول العربية، قبل انعقادها بوقت كاف، بقصد اختبار ردود الفعل المقابلة، حتى تقرر ما إذا كانت ستمضي في خطتها على خط مستقيم؟ أم تعيد النظر فيها؟ هي عطلت مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، وأعلنت إعادة تشكيل الوفد الإسرائيلي المفاوض، ثم أجرت مع واشنطن مباحثات مباشرة لإعادة صياغة موقفها التفاوضي، حيث التقى رون درمر رئيس وفدها مع ستيف ويتكوف رئيس الوفد الأمريكي، وجرى اتفاق على تأجيل زيارة ويتكوف للمنطقة، للسماح لإسرائيل بحرية المناورة.
وبعدها أعلنت موقفها الجديد في فجر اليوم الثاني من شهر الصوم المبارك، بذلك فإن الصفعة لا تكون للفلسطينيين فقط، وإنما للعرب ولكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بإعلان حرب التجويع، بل الدعوة إلى قصف كل مخازن الغذاء والمؤن الإنسانية في غزة في فجر اليوم الثاني من شهر الصوم المبارك.
وربما لاحظنا أيضا خلال الأيام الأخيرة السباق بين زعماء المعارضة الإسرائيليين (غانتس ولبيد وليبرمان)، في تأييد خطة تهجير الفلسطينيين من غزة، باعتبارها الحل الأفضل لهم، وأن حياتهم ومستقبلهم وأمنهم ليس في غزة، وإنما بعيدا عنها، مع طرح سيناء لكي تكون البديل. لذلك فإن القمة العربية يجب أن تؤكد صلابة موقف واحد لا اهتزاز فيه بأن “غزة فلسطينية”، وأنها ستظل كذلك، وأنها ستعمل ما يجب لمساعدة الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم ضد مخطط التهجير والإبادة.
ماذا يريد نتنياهو؟
في صناعة الحقائق على الأرض، تكون الخطوة الثانية بعد تحديد الهدف النهائي هي إزالة العوائق التي يمكن أن تعيق إقامة الحقائق المرجوة، وتكون الخطوة الثالثة هي صناعة الديناميكيات التي تساعد بالأفعال وردود أفعال، على إقامة وتثبيت الحقائق الجديدة. دعك من الشعارات الترويجية، ودعك من كيفية استخدام وسائل وأساليب التعبئة السياسية، فهي جميعا مجرد أدوات لتمرير سياسة صنع الحقائق الجديدة وتثبيتها على الأرض، ولذلك فإننا يجب أن لا نتوقف كثيرا عند دعوة نتنياهو إلى نزع سلاح المقاومة، ونفي عناصرها، وإنهاء وجودها في غزة، فهذه الدعوة ليست إلا مجرد وسيلة لتحقيق هدف، وليست هي الهدف نفسه.
وقد علم نتنياهو أن ما يمنع إبادة الفلسطينيين هو قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، والصمود في وجه حرب الإبادة الوحشية، وأن ما يعينهم على ذلك هو البندقية، التي من دونها يخسر الفلسطيني كل شيء، ولا يستطيع العيش في وطن آمن. ما يريده نتنياهو هو إزاحة العقبة التي تقف بينه وبين تهجير الفلسطينيين وإبادتهم، أي إزاحة البندقية.
إن وقف مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار كان انتهاكا مجانيا لم يتحمل نتنياهو في مقابله ثمنا. وهكذا تدور عجلة الأطماع الوحشية لدى طرف، وتدور عجلة التنازلات والرغبة في المساومات الاستسلامية لدى الطرف الآخر. ما يريده نتنياهو هو استمرار حكمه على رأس حكومة صهيونية دينية متطرفة، ولكي يحقق ذلك يجب أن يفوز في الانتخابات المقبلة، ولكي يحقق ذلك يجب أن يستعيد المحتجزين الإسرائيليين من أيدي حماس والمقاومة، ولكي يحقق ذلك فإنه يضغط ويضغط من أجل استعادتهم واحدا واحدا بأقل ثمن ممكن، ومن دون أي التزام بإنهاء الحرب والخروج من غزة والاتفاق على حصول الفلسطينيين على حقوقهم القومية.
وربما يتبلور الآن اتفاق جديد بتنازلات على الجانب العربي، يضمن له الحصول على عدد إضافي من المحتجزين. ومهما كان المقابل من إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، فإنه يطلقهم من السجون الصغيرة إلى السجن الكبير المحاصر، حيث يستطيع إعادة القبض عليهم، أو يلقي بهم إلى المنفى لحرمانهم من البقاء في الوعاء الحاضن لهويتهم.
نتنياهو يقاتل من أجل مستقبل سياسي ممتد لنفسه، يضمن له الوقت للعمل على إقامة إسرائيل الكبرى، كما يراها وكما يريدها اليمين الديني الصهيوني، فهو من الآن يريد مد نطاق السيادة الإسرائيلية إلى داخل حدود دول عربية مجاورة، والاستعداد لمدها إلى داخل دول تعتقد للأسف أنها أبعد ما تكون عن ذلك، أو أنها تستطيع حماية سيادتها بمظلة دفاعية أمريكية. البندقية هي هوية الفلسطيني، وألا يكون وحده في الميدان هو واجب عربي، ويجب عدم قبول أي اقتراح بنزع البندقية إلا بعد إقامة دولة فلسطينية تتمتع بضمانات أمنية دولية ذات مصداقية، وتمارس سيادتها من دون تدخل خارجي. إذا خسر الفلسطيني بندقيته فسوف يخسر في اليوم التالي أرضه، ويصبح مشردا بلا قيمة ولا وطن ولا هوية.
أما قرار إدارة غزة في المستقبل فإنه قرار الشعب الفلسطيني المقاتل الصامد. من يستطيع مساعدته فليمد له يد العون، أو ليصمت ويكف عن المتاجرة، فما يزال الفلسطيني قادرا على الدفاع عن شرفه، كما يبرهن على ذلك حتى الآن في أطول حروب الشعوب العربية وأشدها بأسا ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويجب أن يفهم حكام الدول العربية أن الدور سيكون عليهم إذا استمر تخاذلهم في نصرة المستضعفين، الذين أذن الله لهم بالقتال لأنهم ظُلِموا.