بين الفرديّـة وحضارة الجماعـــة..!
كتب المفكر العربي الراحل د. عصمت سيف الدولة
“المدارنت”..
لم يحدث أبدا في تاريخ البشريّة أن قامت حضارة غير جمعيّة بمعنى أنّها نسيج من المعتقدات والتقاليد والعادات والآداب.. الخ، تصدر من مجتمع لتعود إلى المجتمع نفسه توحّد بينه وبين أفراده فيصبح ”الكلّ في الواحد والواحد في الكلّ”. لم يستطع علماء تاريخ الأجناس البشريّة ولا علماء الحضارات المقارنة أن يقعوا على حضارة لا تؤدّي وظيفتها في الحفاظ على وحدة المجتمع الذي هي حضارته. كما لم يقعوا على حضارة عاشت ـ بفعل أدائها هذه الوظيفة ـ أقلّ من آلاف السنين.. إلاّ حضارة واحدة سنذكرها بعد قليل.
وفي كلّ الحضارات تلعب قيم التحريم دوراً أساسيّا في تقوية الروابط الاجتماعيّة بما تؤدّي إليه من تجانس بين الأفراد. فلننظر كيف أدّت الحضارة العربيّة وتؤدّي هذه الوظيفة. الحضارة العربيّة القوميّة التي قامت على قاعدة الإسلام ونمت واكتملت في ظلّه. وسننظر إليها من زاوية لا تختلف فيها المذاهب الإسلاميّة ، أعني ما هو مجمع على أنّها أركان الإسلام، أو العبادات.
لقد درج الفقهاء على تقسيم الأحكام الإسلاميّة إلى عبادات ومعاملات. ولا تثير أحكام المعاملات أيّة صعوبة في التعرّف على طبيعتها التشريعيّة أي أنّها واردة على علاقات بين الأفراد . إنّما الذي قد يثير صعوبة في معرفة صلته بالعلاقات بين الأفراد هي أحكام العبادات. فعندما يقول واحد من أعظم الفقهاء المحدثين علما بالدين والدنيا وأحكمهم منطقا مثل الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ جامع الأزهر الأسبق، في كتابه: ”الإسلام عقيدة وشريعة ”إنّ العبادات “هي العمل الذي يتقرّب به المسلمون إلى ربّهم ويستحضرون به عظمته ويكون عنوانا على صدقهم في الإيمان به ومراقبته والتوجّه إليه”، وإنّ المقصود من العبادات هو” تطهير القلب وتزكية النفس وقوّة مراقبة الله التي تبعث على امتثال أوامره ”تبدو أحكام العبادات كما لو كانت واردة على علاقة كلّ مسلم بربّه ومقصورة على هذه العلاقة أمراً وأثراً، ويصعب علينا أن نذهب إلى غير ما ذهب إليه إمام جليل كان بمثابة أستاذ أضاءت أفكاره النيّرة لجيلنا مدارج الفهم الصحيح للإسلام.
ولكنّنا تعلّمنا من القرآن أنّ الله غنيّ حميد وأنّه سبحانه ﴿ربّ الناس ملك الناس إله الناس﴾ جملة وجمعا. ولم نهتد في القرآن إلى خطاب آمر أو ناه موجّه إلى فرد إلاّ ما كان خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام أو ما جاء في قصص القرآن. أمّا غير هذا فالخطاب الآمر أو الناهي موجّه إلى جمع بصيغ الجمع أو المفرد النكرة الذي يفيد الجمع. فهم المؤمنون والمؤمنات أو هم من آمن بالله واليوم الآخر. ففهمنا اجتهادا أنّ كلّ الأحكام التي جاء بها الإسلام واردة على علاقات جماعيّة بين الأفراد وليس على علاقة فرد بربّه بما فيها أحكام العبادات.
هذا من دون إنكار لما عدّده الإمام الأكبر من حكم العبادات حين قال عن المقصود بها تطهير القلوب وتزكية النفوس وقوّة مراقبة الله التي تبعث على امتثال أوامره. إذ عندما تكون أوامره سبحانه وتعالى ونواهيه غير المتعلقة بالعبادات، واردة على علاقات بين الأفراد، فإنّ أحكام العبادات ذاتها تكون ” إعداداً ” للفرد ليكون ”صالحاً” في علاقاته مع الآخرين امتثالاً لأوامر الله.
ثمّ نتأمّل العبادات وأحكامها. أمّا العبادات فهي ما يعرف بأركان الإسلام الخمسة: شهادة ألاّ إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، الصلاة ، الصوم، الزكاة، الحجّ، وهي جميعا فروض ملزمة لكلّ مسلم متى توفّرت في المسلم شروط التكليف بها. أمّا عن الشهادة فهي شهادة على النفس دون الغير. وأمّا الصلاة فهي صلاة بالنفس دون الغير. وأمّا الصوم فهو كفّ النفس عن المفطرات دون الغير. أمّا الحجّ فهو عند استطاعة النفس دون الغير. إنّها جميعاً عبادات لا يتوقّف أداؤها إلاّ على المكلّف بها فتبدو أعمالاً ”فرديّة” أو ”خاصّة” غير ذات علاقة بالمسلمين الآخرين.
وهنا نعتقد أنّ الأمر على غير هذا و أنّ تلك العبادات تنشئ وتدعم علاقات اجتماعيّة بين كلّ مسلم وباقي المسلمين تترتّب عليها آثار ملزمة في حياتهم.
فشهادة ألاّ إله إلاّ الله وأنّ محمدا عبده ورسوله مجرّد تعبير على الإيمان بالله ورسوله الذي يمكن أن يتحقّق بدون التعبير عنه. وإنّما هي إعلان من الشاهد بقبول انتمائه إلى الأمّة الإسلاميّة بكلّ ما يترتّب على هذا الانتماء من حقوق وواجبات والتزام بالشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام. ﴿قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين﴾.. (آل عمران: 81). أمّا الصلاة فلا تصحّ إلاّ إذا ولّى المسلم وجهه شطر القبلة التي يولّي باقي المسلمين وجوههم شطرها ﴿وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره﴾ (البقرة: 144).
يصلّي المسلمون فرادى وجماعات، وتختلف أركان الأرض توقيتا، ولكنّ صلاة كلّ منهم لا تصحّ إلاّ بالتقائها مع صلاة الآخرين في الاتّجاه إلى بقعة واحدة من الأرض. أمّا عن الصوم فلو كان فرضا فرديا أو “خاصّا” بعلاقة المسلم بربّه لجاز أن يختار كلّ مسلم شهر صومه دون أن ينتقص ذلك من آثار الصيام وتطهير القلب وتزكية النفس وصحّة البدن.
ولكنّ الإسلام، فرض على كلّ مسلم أن يصوم الشهر ذاته الذي يصومه باقي المسلمين، وعيّنه بأنّه شهر رمضان. فهو عبادة “جماعيّة”. أمّا الزكاة فليست مجرّد تطهير وتزكية للمسلم ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم﴾ (التوبة: 103) ليست مجرّد أخذ من مال المسلم. ولكنّها أخذ من المسلم لإعطاء الآخرين ﴿إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾ (التوبة: 60). والأمر من الحجّ أظهر. فهو ليس زيارة إلى بيت الله الحرام يقوم بها المسلم القادر ويتمّ مناسكها فتلك “العمرة” ولكنّه فرض على كلّ مسلم استطاع إليه سبيلا أن يجتمع مع باقي المسلمين في مكان واحد في وقت واحد ليشتركوا جميعا في أداء مناسك واحدة.
وهكذا يتّضح، كما نعتقد، أنّ كلّ العبادات في الإسلام “جماعيّة” لا بمعنى أنّها مفروضة على الجميع، ولكن بمعنى أنّ أداءها يتمّ جماعيّا: فهي لا تصحّ من المسلم إن فقدت ركن الجماعيّة فيها. أن يشهد بينه وبين نفسه، أن يصلّي في أيّ اتّجاه، أن يصوم في أيّ شهر، أن يخرج من أموال الزكاة ولا يعطيها لأحد (يهلكها مثلا)، أن يحجّ في غير الوقت المحدّد لاجتماع المسلمين (يعتمر مثلا). الفروض ملزمة لكلّ مسلم مكلّف سواء عرف الحكمة من فرضها أو لا .
والحكمة هي الأثر الذي أراد الله تعالى له أن يتحقّق بأداء الفرض. وحيث لا يأتي النصّ مبيّناً الحكمة يجتهد في بيانها المجتهدون ويختلفون في اجتهادهم ولكنّ كثيرا منهم يذهبون بشكل عامّ إلى التمييز بين الآثار الدينيّة والآثار الدنيويّة. فتكون الحكمة من كلّ فرض تحقيق مصلحة دينيّة أو مصلحة دنيويّة. والدارج أنّ الحكمة من العبادات هي تحقيق مصالح دينيّة ولهذا أصبحت عبادات. أمّا وقد رأينا كيف أنّها عبادات جماعيّة فإنّنا نعتقد أنّه من المصالح أو الحكم المقصود تحقيقها بأداء الفروض مصلحة أو مصالح دنيويّة والله غنيّ عن عباده وما يعملون.
إن تكن العبادات تطهيراً للقلوب وتزكية للنفوس فحكمتها مصالح الإنسان حتّى يبقى صالحاً للعمل الصالح في الدنيا كما قلنا من قبل. ثمّ يأتي الركن الجماعيّ للعبادات ليكشف عن حكمة نراها لازمة لصلاح كلّ مسلم وصلاح المسلمين معاً. أولئك المسلمون الذين يتوزّعون مكاناً في أركان الأرض ويفترقون مصالح و يختلفون عقولا وأهواء وشهوات وينتمون إلى جماعات من أسر أو عشائر أو قبائل أو شعوب أو أمم متفرّقة ومتمايزة، ولكنّهم حيث يكونون لا تصلح حياتهم إلاّ حيث يكونون قابلين قادرين على العمل الجماعيّ بحكم أنّ الناس جماعات، وكبح جماح النزوع الفرديّ بحكم أنّ الفرد من غير جماعة محال. فجاءت العبادات في الإسلام تهذيبا للنزوع الفرديّ “الغريزيّ” وتدريباً لكلّ مسلم على قبول العمل الجماعيّ وممارسته بأن يشهد ” للناس” بألاّ إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، بأن يصلّي مع “الناس” جماعة ما أمكن ذلك ولكن في الحالات كلّها أن يتّجه إلى القبلة التي يتّجه إليها “الناس”، بأن يصوم الشهر الذي يصومه “الناس” وأن يفطر معهم، بأن يخرج من أمواله زكاة لمن يستحقّها من “الناس”، بأن يحجّ في الوقت الذي يحجّ فيه “الناس”. بأن يشترك مع “الناس” في العبادات كلّها سواء كان يعرفهم أو لا يعرفهم ، له مع أحد منهم أو مع بعضهم مصلحة أو ليس له ، ينتمي إليهم أسريًّا أو عشائريًّا أو شعوبيًّا أو قوميًّا أو لا ينتمي . ذلك لأنّ الواقع من أمر هذه الحياة الدنيا أنّه يعيش مع الناس ولا يستطيع إلاّ أن يعيش معهم ، فله مصلحة دنيويّة متحقّقة يقيناً في أن يربّي نفسه على أسلوب الدنيا: أسلوب العمل الجماعي ”لا غير”.
والله أعلم
إنّها ليست طقوساً ولكنّها تدريب وتربية. الشهادة مدخل إلى الانتماء، ثمّ الصلاة خمس مرّات كلّ يوم، الصوم شهراً كلّ عام، الزكاة كلّ عام، الحجّ كلّما كان ممكناً، منذ ما قبل الدخول في مرحلة الشباب وعلى مدى هذه المرحلة، وعلى مدى العمر كلّه، لتقهر الفرديّة وتشكّل قيمة حضاريّة إسلاميّة عربيّة هي أن الفرديّة “حرام”.
قلنا من قبل إنّ ثـمّة حضارة غريـبة عن الحضارات كلّها التي عرفتها البشريّة ، إنّها الحضارة الغربيّة أوروبيّة المنشأ . إنّ لها كلّ خصائص الحضارات. لها عقائدها وتقاليدها وآدابها وقيمها … ومع ذلك فإنّها توشك أن تموت قبل أن تنقضي من عمرها ثلاثة قرون لأنّها لأسباب تاريخيّة خاصّة بظلمات القرون الوسطى في أوروبا، قد نشأت عاجزة عن أداء وظيفتها في التوحيد التلقائيّ بين الفرد والمجتمع إذ قامت على هيكل أساسيّ هو “الفرديّة”.. الفرد في مواجهة المجتمع وضدّه.
إنّ قانون التناقض الجدليّ كامن في الإنسان وراء كلّ حركة اجتماعيّة. فتثير كلّ حركة نقيضها . وحينما يتحوّل الدين إلى كهنوت ينزل بالله تجسيداً في بشر، أو يصطنع لله ممثّلين أو نوّاباً أو وكلاء من البشر يزعمون أنّه ـ جلّ جلاله ـ أقرب إليهم من غيرهم، يلهمهم الصواب ولا يلهم من سواهم، فهم وحدهم حفظة شريعته القائمون على تفسيرها وتطبيقها حلاًّ دون باقي المؤمنين، ثمّ يجتمعون متعاونين في منظّمات أو مؤسّسات يقال لها “دينيّة” ويكونون هم فيها “رجال دين” تفرض على المؤمنين مذاهبها، فتعطّل ملكاتهم العقليّة خوفاً من بطشهم.. لا بدّ، نقول لا بدّ، أن تولد من رحم الكهانة الشائهة حركة ردّة إلحاديّة شائهة. والعكس صحيح، حين تتضخّم أحشاء الإلحاد بالكفر البيّن تكون بياناً بقرب مولد حركة كهنوتيّة شائهة.
لا حيلة لأحد في هذا. وبناء عليه يمكن فهم كثير من الظواهر التي يقال لها دينيّة والظواهر الإلحاديّة في تاريخ كثير من المجتمعات.
ولقد ولدت الحضارة الغربيّة نقيضاً من رحم الكنيسة الكاثوليكيّة التي تحوّلت إلى مؤسّسة كهنوتيّة قاهرة باطشة مستبدّة بالعقول والنفوس والأموال فجاءت ردّة إلحاديّة. إنّ كل الجامعات في الوطن العربيّ تدرّس الشباب العربيّ تاريخ الفلسفة والنظم في أوروبّا … ولا بدّ أن يكون الجامعيّون قد عرفوا الهولنديّ هوغو حروتيوس (1583 ـ 1645) والإنقليزيّ توماس هوبز (1588 ـ 1679) وجون لوك (1632 ـ 1704) وديفيد هيوم (1711 ـ 1796) وجيرمي بنتام (1748 ـ 1832) وجون ستيورات ميل (1806 ـ 1873) وهربرت سبنسر (1820 ـ 1903)، والفرنسيّين جان جاك روسّو ومونتسكيو والطبيعيين (الفيزيوكرات) موريس دي ريفيير، وكيزني، ودوبون دي تيمور، كما عرفوا سبينوز.. الخ .
إنّ كلّ هؤلاء وغيرهم كثير، هم مهندسو الهيكل الأساسيّ للحضارة الغربيّة وهكذا يقدّمونهم إلى شبابنا العربيّ في الجامعات. ثمّ قد يخفون عنهم أنّهم في الوقت ذاته فلاسفة الإلحاد ومحرّكو تيّاره الجارف الذي اجتاح أوروبا منذ ثلاثة قرون. لقد كان عليهم أن يستبدلوا الإيمان بالله خالقاً وهادياً بما يخلق من دونه سبحانه ويهدي. فذهبوا، على خلاف طفيف فيما بينهم، إلى أنّ الطبيعة هي الخالقة، وأنّ “القانون الطبيعيّ” هو الهادي.. فلمّا بدؤوا في تفسير أو تبرير ظاهرة “المجتمع” وعلاقته بالفرد أو علاقة الفرد به، زعموا أوّلاً أنّ الإنسان الفرد كان موجوداً قبل أن يوجد المجتمع، وأنّه كان مطلق الحرّيّة يفعل ما يشاء، وأنّ عدوان الأفراد بعضهم على بعض كما قال هوبز ولوك أو رغبة الأفراد في التعاون كما قال روسّو قد دفعتهم إلى التوافق على إنشاء مجتمع بشروط تختلف عند هوبز عنها عند لوك عنها عند روسو، أهمّها أن يحفظ لهم المجتمع حرّيّاتهم الطبيعيّة ويحميها. فكانت الفلسفة الاجتماعيّة المصوغة فيما يقال له “العقد الاجتماعيّ” جوهرها أنّه ما دام المجتمع ثمرة إرادة الأفراد، فعليه أن يحتفظ، ويحافظ، وينمّي، “الحرّيّة الفرديّة”. وشعارها التطبيقيّ: دعه يعمل، دعه يمرّ. على هذا الهيكل قامت النظم السياسيّة التي يقال لها “ديمقراطيّة غربيّة”، والنظام الاقتصاديّ الذي يقال له الرأسماليّة، والنظام القانونيّ الذي يقال له حرّيّة الإرادة، والنظام الأخلاقيّ الذي يقول إنّ كلّ فرد حرّ في أن يفعل ما يشاء، والنظام الاجتماعيّ الذي يقول إنّ المنظّم لعلاقات الأفراد حين يسعى كلّ فرد إلى تحقيق ما يريد هو المنافسة الحرّة.
وهكذا انطلق الأوروبّيّون في سباق محموم فيما بينهم نشأت خلاله عناصر حضاريّة جديدة، منها ما تبهرنا ثمراته مثل الاكتشافات العلميّة والتقدّم المذهل في أساليب وأدوات قهر الطبيعة وتسخيرها، حيث قد رفعت تلك الحضارة عن كلّ فرد قيود “المجتمع” و همومه فانصّبت قواه كلّها في مجرى واحد هو السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لغاياته، والتقدّم المادّيّ أفراداً بصرف النظر عمّا يصيب المتخلّفين في المجتمع الواحد بل ولو تقدّماً على جثث أولئك المتخلّفين في هذا المجتمع الواحد أو في المجتمعات الأخرى… وقد كان العالم غير الأوروبيّ كلّه، بما فيه الوطن العربيّ، من بين الضحايا الذين تقدّم الأوربيّون على جثثهم. ولقد كانت الشعوب كلّها بما فيها الشعب العربيّ منبهراً بتقدّم الأوروبيّين حتّى وهم يتقدّمون على جثثه. ذلك لأنّ من خفايا النفس البشريّة أن المثل الأعلى للمستعبدين هم سادتهم. إنّ الصورة المبهرة للحرّيّة في تصوّر كلّ عبد متجسّدة في سيّده. ولله في خلقه شؤون.
ولكنّ هذا الانبهار كان إلى حين..
وقد جاء الحين.
تقول دراسة وضعتها “لجنة المجتمعات الأوروبيّة” في بلجيكا عن الشباب الأوروبّيّ بمناسبة العام الدوليّ للشباب أنّ علاقة الشابّ بأسرته تنتهي عند سنّ السادسة عشرة ، و أنّه يعتبر نشاطه الجنسيّ منذ بدايته مع سنّ المراهقة من شؤونه الخاصّة التي لا يجوز لأحد أن يتدخّل فيها ، و أنّه ابتداء من مرحلة الشباب لا يهمّه إلاّ الخوف من البطالة، و أنّ الشباب عديمو الاهتمام بما يدور في مجتمعاتهم.
ويقول جيرالد باكمان الأستاذ في معهد الدراسات الاجتماعيّة في جامعة ميتشغان بالولايات المتّحدة الأميركيّة في كتابه ”نظرة الشباب إلى المشكلات الوطنيّة: 1971”.. إنّ الشباب لا يعيرون المشكلات الوطنيّة أيّ اهتمام ، وحين يثار اهتمامهم لا يجدون ما يقولونه وإن كانوا مهتمّين إلى أقصى درجة بحرب فيتنام يريدون أن تنتهي حتى لا يتعرّضوا لمخاطر الموت فيها، ولكن ليس لديهم أيّة فكرة عن كيفيّة إنهائها.
وقد وصل عدم اهتمامهم بالشؤون الوطنية أنّ ثلث الطلاّب في الجامعات ميدان البحث لم يعرف أيّ منهم اسم عضو مجلس الشيوخ في ولايته. وتقول نشرات هيئة الأمم المتّحدة أن قد انعقد في مرسيليا (فرنسا) ما بين 24 و 27 أكتوبر 1983 مؤتمر دوليّ لدراسة ظاهرة “أبناء الشوارع”. وأبناء الشوارع هؤلاء ليسوا أبناء الريف في العالم الثالث الذين تسمح لهم التقاليد بأن يعيشوا أيّامهم جائلين شاردين خارج الدور والمنازل ثمّ يعودون. وليسوا يتامى أو ضالّين أو لقطاء ولو كانوا كذلك لهان الأمر. ولكنّهم دخلوا عالمهم من أبواب اليتم أو الضلال أو التخلّي أو الشرود ثمّ تكيّفوا مع البيئة التي تشكّلها الشوارع والأزقّة والأبنية المهجورة بما يسودها من قواعد التشرّد وتقاليده وآدابه أيضاً، وهي قريبة الشبه بما يذكره لنا التاريخ عن حياة الإنسان البدائيّ قبل أن تعرف البشريّة ضوابط السلوك الاجتماعيّة والدينيّة والخلقيّة والتشريعيّة. إنّه عالم اغتراب عدائيّ من مجتمع الآخرين. اتّخذ من الشوارع حدوداً عازلة بينه وبين مجتمع آخر يرفضه ويقاوم – بأساليب “شوارعيّة” حقًّا – العودة إلى الاندماج فيه.
لقد بلغ نموّ أبناء الشوارع في بعض مدن فرنسا حدًّا حمل السلطة الفرنسيّة على أن تعترف بوجوده وتتعامل معه وتسمح له بقدر من الاستقلال في تنظيم وإدارة شؤون رعاياه و أن يشكّلوا من أنفسهم جماعة قياديّة قريبة الشبه بالحكومة، مقرّها مدينة ”بيسين” قريباً من مرسيليا ، تباشر سلطاتها بالتشاور مع ممثّلي السلطة الرسميّة.
أمّا في الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث تقاس الظواهر الاجتماعيّة كلّها بمقاييس ماليّة فتقول مارغريت غوردون في كتابها عن “مشكلات الشباب: 1979” إنّ 16% من صغار البشر في نيويورك ينتمون إلى هذا العالم القائم خارج حدود المجتمع وقوانينه . وتنقل عن ستانلي فريد لاندر ما قاله، بعد دراسة ميدانيّة في ثلاثين مدينة أمريكيّة، ما قلب رأساً على عقب كلّ ما يعرفه عالمنا من علاقة بين البطالة والجريمة.
كان المستقرّ من المعرفة أنّ البطالة من أسباب الجنوح إلى الإجرام أمّا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة فقد أصبح الإجرام أحد أسباب البطالة. ففي عالم أبناء الشوارع وجدت “المنظّمات الإجراميّة” أو ” الجريمة المنظّمة” جيشاً متزايد العدد من الذين يعرضون قوّة عملهم في مقابل أجور أكثر ارتفاعاً من الأجور المتاحة في العمل المشروع بالإضافة إلى متعة الاعتداء على المجتمع الذي يرفضونه. وقد بلغت جملة ميزانيّات المنظّمات الإجراميّة في الولايات المتّحدة، كما تقول مارغريت غوردون، 25 مليار دولار.
ويقول فرديناند لوندبرغ، الأمريكيّ، في كتابه “الثراء والثراء الفاحش: 1968”.. إنّ قانون المنافسة الحرّة بين الأفراد في المجتمع الأمريكيّ قد أدّى إلى نشوء عقيدة مدمّرة – هي عبادة النجاح الفرديّ – خرّبت الحياة الأسريّة حتّى للناجحين.
وينقل عن كتاب كليفلاند أموري “من الذي قتل المجتمع ؟” قوله إنّه طبقا للدراسات التي قام بها علماء النفس والأطبّاء والباحثون والاجتماعيّون في شؤون “الأسرة” تستهلك الشركات الجانب الأكبر من وقت الشباب وجهدهم وحماسهم، فيتحوّلون إلى نفايات في منازلهم عاجزين عن أن يكونوا أزواجاً أو آباء . وحين لا يؤدّي هذا إلى الطلاق تبقى علاقة الزوجيّة قائمة اسميّاً بين زوجين متآكلين لا يهتمّ أحدهما بالآخر، يعانيان كلّ أنواع المشاعر المريضة بما فيها الشعور المزمن بالوحدة والإحباط الجنسيّ وإدمان المخدّرات والخمور.
فما هي القيم التي يتلقّاها الطفل حتّى يصبح شابًّا من مثل هذا المجتمع؟ ما هو الهيكل الأساسيّ للشخصيّة الغربيّة كما تقيّمه حضارة ماديّة فرديّة رأسماليّة في الشباب؟
يجيب الفيلسوف الفرنسيّ موريس ديفرجيه في كتابه “علم الاجتماع السياسيّ: 1968” بقوله إنّ صعود البرجوازيّة (الرأسماليّة) في القرن التاسع عشر قد خلق انطباعا بأنّ السلطة ستقوم فيما بعد هذا البروز على أساس المال وأنّ ذلك كان تقدّماً… ولقد كان هذا الانطباع نتيجة لكون محدثي الثراء البورجوازيّين التافهين المظهريّين اجتماعيا قد حلّوا محلّ الطبقة الغنيّة البائدة التي كان أفرادها متميّزين بالأصالة والرقيّ. كما كان راجعاً أيضا إلى حقيقة أنّ الأرستقراطيّة كانت تقيم سلطتها على الثروة وتقاليد الفروسيّة معاً. وقد غطّت الفروسيّة وقيمها البطوليّة إلى حدّ كبير على عنصر الثروة. و أخيرا فقد كان هذا الانطباع راجعاً إلى أنّ البرجوازيّة قد أقامت نظاماً من القيم على أساس الثروة أيضاً. ولكنّه في هذه المرّة صريح في أنّ المال هو مصدر القوّة وليس مميّزاً لها فقط. لقد كانت الأرستقراطيّة تعشق الثروة ولكنّها لم تكن تتفاخر بها علناً على الأقلّ. أمّا البرجوازيّة فتتباهى بوقاحة بأنّ المال هو كلّ شيء ولا تكفّ عن تمجيده.
ويقول شومبيتر في كتابه عن “الرأسماليّة والديموقراطيّة: 1943”.. إنّ الطبقة البرجوازيّة التجاريّة الصناعيّة قد ارتقت على أنقاض السادة الإقطاعيّين بفضل مهارتها في شؤون المال. وقد صيغ المجتمع البورجوازيّ في شكل اقتصاديّ محض. وأرسيت أسسه وقامت عمده وبني هيكله من موادّ اقتصاديّة. أمّا البناء بمجموعه فهو بناء حياة اقتصاديّة، الخطأ فيها خطأ ماليّ، والجزاء فيها جزاء ماليّ. يمتاز فيها من يكسب ماليًّا و يخطئ فيها من يخسر ماليًّا.
هذه هي الحضارة النقيضة للحضارة العربيّة على جميع المستويات. حضارتنا قوميّة وهي حضارة فرديّة. حضارتنا إسلاميّة (روحيّة) وحضارتهم ملحدة (مادّيّة)… حضارتنا إنسانيّة وهي حضارة اقتصاديّة. وهذه هي الحضارة التي يريدون ويحاولون فرضها على أمّتنا موجّهين ضربتهم إلى الشباب عامّة. وإلى بدايات مرحلة الشباب خاصّة، عن طريق إغراء الشباب المتطلّع إلى أن يلعب دوراً في حياة أمّته بأن يقلّد الشباب الغربيّ ويتّخذ منه مثلاً أعلى فيما حقّقه من تقدّم مادّيّ، بدون استفزازه بالكشف عمّا يستدرج إليه من عقائد وقيم وتقاليد وعادات صاحبت هذا التقدّم المادّيّ مستغلّين قلّة خبرته ولكنّهم ينقضون هيكل شخصيّته “خطوة خطوة”. كلّ من يعرف ألف باء علم الديانات المقارنة يعرف أنّ الكهانة الكنسيّة والمذهب العلمانيّ وجهان لعملة أوروبّيّة كاثوليكيّة واحدة. فحيث لا كهانة لا علمانيّة. وحيث الكهانة لا بدّ من العلمانيّة. ولـمّا كانت حضارتنا إسلاميّة، وليس في الإسلام كهانة فلا محلّ في مجتمعنا للعلمانيّة أو الانشغال بها.
ولكنّهم يصرّون على أن يعلّموا شبابنا العلمانيّة ويمجدّوها ويربطوا بينها وبين التقدّم المادّيّ الذي حقّقه الأوروبّيّون. وحين تندسّ مبادئ العلمانيّة في أذهان شبابنا العربيّ لن تجد “كنيسة” إسلاميّة لتنقضها، فإمّا أن تشجّع أو تنشئ مؤسّسة كهنوتيّة باسم الإسلام لتنقضها و إمّا أن تنقض الإسلام كلّه فتحوّله إلى “عبادات” تقول إنّها علاقة بين الفرد وربّه لا تمتدّ إلى نظم الحياة.
وتكفي الملاحظة المجرّدة من أيّ علم لتعرف أنّ الفرد الواحد الأحد لا وجود له الآن ولم يعثر عليه أحد من قبل ولو تصوّروا إلاّ تلك الفترة التي لا يعلمها إلاّ الله التي بقي فيها آدم وحيداً قبل أن تخلق حواء و أنّ كلّ فرد هو جزء من مجتمع ولو كان الولد الوحيد لوالديه. ولكنّهم يعلّمون شبابنا أنّ للإنسان الفرد حرّيّات وحقوقاً سابقة على وجود المجتمع، حتّى ولو كان هذا المجتمع والديه، وأن ليس للمجتمع ولو كان من والدين أن “يتدخّل” في ممارسة هذه الحقوق والحرّيّات. ويربطون بين التقدّم المادّيّ الذي حقّقه الأوروبّيّون وبين الحرّيّة الفرديّة ويمجّدونها. وحين تندسّ القيم الفرديّة في أذهان شبابنا العربيّ تنفرط العلاقة القوميّة أوّلا لتبرز العلاقة الإقليميّة ثمّ تنفرط هذه العلاقة لتبرز العلاقة الطائفيّة ثمّ تنفرط هذه لتبرز العلاقة الأسريّة ثمّ تنفرط الأسر ليبرز الفرد الذي يقدّسونه.
إنّهم يفكّكون أمّتنا قطعة قطعة وما يفكّكون إلاّ حضارتنا عنصراً عنصراً فلا يفعلون إلاّ تفكيك شخصيّتنا العربية هيكلاً هيكلاً، وحين يصبح الشابّ العربيّ فرداً فعليه أن يجري لاهثاً في سباق المنافسة الحرّة لعلّه يدرك النجاح المادّيّ. ويصبح الثراء هو غايته، والمال هو محور حياته، ويحتكم في سباقه الحرّ من أجل الثروة إلى القوانين البيولوجيّة التي تحتكم إليها الحيوانات في الغابات: البقاء للأقوى. ولـمّا كان الغزاة هم الأقوى فإنّهم يفترسونه ويهضمونه ويتمثّلونه.. ثمّ يفرزونه برازاً عفناً.
نهاية المطاف إذن أنّهم يريدون افتراس أمّتنا… فهل ينجحون؟!