“ترحيل الغزّيين”.. إنقلاب في السياسة الأميركية وإنقاذ لـ”إسرائيل”!
“المدارنت”..
قد تشير مبادرة الرئيس (الأميركي دونالد) ترامب لإعادة توطين الفلسطينيّين من غزة إلى تحول في النهج المتبع في معالجة الدمار الواسع النطاق في المنطقة ونقص السكن للسكان النازحين بسبب الحرب.
تسعى خطة ترامب أيضاً إلى إشراك مصر والأردن في حل التحديات التي يفرضها هذا الوضع بشكل نشط. وإذا تم تنفيذ المبادرة بالفعل، فيجب تنفيذ العملية بموافقة جميع المشاركين، وتقديم حوافز ذات مغزى، وإنشاء إشراف دولي لحماية حقوق المهاجرين. وفي الوقت نفسه، يتعين على الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة الدولية ذات الصلة أن تنخرط في حوار مع الفلسطينيين، وأن تدمج احتياجاتهم في المبادرة وتضمن التوصل إلى حل عادل وشامل. وفي المقابل، يتعين على إسرائيل أن تتولى دوراً ثانوياً وأن تمتنع عن قيادة الجهود أو تنفيذها علناً في حين تسمح لسكان غزة بالمغادرة.
إن قطاع غزة هو أحد أكثر المناطق كثافة سكانية وتعقيدًا في العالم، حيث يقطنه أكثر من 2.1 مليون شخص. وحتى قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، واجهت غزة أزمة اقتصادية واجتماعية وإنسانية مطولة. وقد أدى الضغط الديموغرافي المرتفع، ومعدل البطالة الذي بلغ 80٪، والاعتماد على المساعدات الخارجية إلى جعل غزة مكانًا صعبًا للعيش. وقد أدت الحرب التي بدأت في 7 أكتوبر 2023 إلى تفاقم هذه القضايا، ما تسبب في تدمير واسع النطاق للبنية التحتية. وعلى هذه الخلفية، فإن اقتراح الرئيس ترامب بنقل السكان من غزة إلى دول أخرى – بما في ذلك مصر والأردن وألبانيا وإندونيسيا – يمثل تحولًا في النهج المتبع لحل الأزمة في المنطقة التي مزقتها الحـرب.
والفكرة هي إنشاء آليات تسمح للسكان بمغادرة غزة بطريقة منظمة مع ضمان حقوقهم وتسهيل إعادة إعمار غزة، وكل ذلك مع إزالة عبء توفير السكن والمساعدات الإنسانية لمئات الآلاف من النازحين من غزة. يثير هذا الاقتراح أسئلة مهمة فيما يتعلق بجدواه السياسية والاقتصادية والقانونية، فضلاً عن آثاره الإقليمية والدولية المحتملة.
الاقتراح
أثار اقتراح ترامب بإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين من قطاع غزة في الدول المجاورة ــ وتحديداً مصر والأردن (وحتى دول أبعد مثل ألبانيا وإندونيسيا) ــ جدلاً واسع النطاق في الساحتين الدولية والإقليمية. وذكر ترامب أنه تحدث مع الملك عبد الله الثاني ملك الأردن عن إمكانية قبول بلاده للاجئين الفلسطينيين، كما ناقش القضية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. ووفقاً لترامب، فإن الوضع في غزة “فوضوي” و”يجب أن يحدث شيء ما. لكنه في الواقع موقع هدم الآن. لقد هُدِم كل شيء تقريباً، ويموت الناس هناك. لذا أفضل أن أشارك مع بعض الدول العربية في بناء مساكن في مكان مختلف حيث يمكنهم ربما العيش في سلام للتغيير”.
وفضلاً عن ذلك، اقترح ترامب في اجتماعه مع نتنياهو في الرابع من فبراير/شباط 2025 مبادرة تقضي بإعادة توطين جميع سكان قطاع غزة في دول أخرى. وقد صرح نتنياهو بأن الولايات المتحدة ستتحمل مسؤولية إزالة القنابل والحطام من غزة وستعمل على تحقيق التنمية الاقتصادية التي ستوفير فرص العمل والإسكان. بل واقترح أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة طويلة الأمد على قطاع غزة لتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط. ووصف نتنياهو الفكرة بأنها “تفكير خارج الصندوق”.
يجب التأكيد على أن الدول العربية عارضت بشدة المبادرة ورفضت قبول اللاجئين من قطاع غزة. ورفضت مصر بشدة أي محاولة لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين داخل حدودها، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى المخاوف بشأن التغيرات الديموغرافية في شبه جزيرة سيناء وزعزعة الاستقرار المحتملة للأمن الداخلي في البلاد.
وأعلن السيسي أن مصر لن تقبل أي محاولة لنقل الفلسطينيين إلى أراضيها، مؤكداً أن حل القضية الفلسطينية يجب أن يكون داخل حدود فلسطين. كما رفض الأردن الاقتراح بشكل قاطع. وصرح المتحدث باسم الحكومة الأردنية محمد المومني، بأن “الأمن القومي الأردني مرتبط ببقاء الفلسطينيين على أراضهم ورفض الهجرة”.
رغم أن مبادرة الرئيس ترامب تشير إلى تحول في النهج الأميركي تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن شركاء الولايات المتحدة العرب ينظرون إليها باعتبارها زعزعة محتملة للوضع الراهن في بلدانهم وليس خطوة نحو تخفيف التوترات المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وفي بيان مشترك صدر في قمة وزراء خارجية جامعة الدول العربية في القاهرة في الأول من فبراير/شباط، أكد ممثلو الدول الأعضاء التزامهم بحل الدولتين وحماية الحقوق الفلسطينية مع رفض تهجير سكان غزة. وشددوا على الحاجة إلى دعم الجهود الرامية إلى إعادة تأهيل قطاع غزة وضمان بقاء الفلسطينيين في وطنهم.
ومع ذلك، وعلى الرغم من معارضتها الأولية، فإن الدول العربية ــ وخاصة مصر والأردن ــ قد تستفيد من الحوافز الاقتصادية الأساسية إذا أقنعت بالتعاون في تنفيذ المبادرة. فبالنسبة لمصر، على سبيل المثال، قد يسهم قبول اللاجئين في شمال سيناء في التنمية الإقليمية وتعزيز الاقتصاد المحلي. وفي الوقت نفسه، يواجه الأردن تحديات ديموغرافية وسياسية قد تزعزع التوازن الدقيق بين سكانه الفلسطينيين والأردنيين. ولكن مع التمويل الكافي والتخطيط الدقيق للمناطق السكنية المخصصة للمهاجرين من غزة في الجزء الجنوبي من المملكة، ربما تقدم المبادرة فرصة لتعزيز الاقتصاد الأردني.
وقد تكون دول أخرى على استعداد لاستقبال الفلسطينيين من غزة لإعادة توطينهم. على سبيل المثال، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، في بداية الحرب، أعرب حمزة يوسف، أول وزير في إسكتلندا آنذاك، عن استعداد بلاده لقبول اللاجئين الفلسطينيين من غزة، وحث الدول الأخرى على الانضمام إلى الجهود الإنسانية. في مايو/أيار 2024، أعلنت كندا عن نيتها زيادة عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين ستقبلهم من غزة إلى ما يقرب من 5000 فلسطيني لديهم أقارب في كندا.
بالإضافة إلى ذلك، أكد سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، داني دانون، على أهمية خلق خيارات للفلسطينيين الذين يسعون إلى الانتقال إلى دول أخرى، وذكر أن دولًا في أمريكا الجنوبية وأفريقيا أعربت عن استعدادها لقبول الفلسطينيين من غزة مقابل الدعم الاقتصادي.
تداعيات مبادرة ترامب
تتضمن الجوانب الرئيسية لتشجيع إعادة التوطين الحاجة إلى خلق حوافز اقتصادية كبيرة لكل من أولئك الذين يتم إعادة توطينهم والدول المضيفة. قد تقدم الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة الدولية حزم مساعدات اقتصادية واسعة النطاق (تقدر التكلفة بحوالي 14 مليار دولار لهجرة حوالي نصف مليون من سكان غزة). ومع ذلك، يظل السؤال المركزي هو ما إذا كانت هذه المساعدات ستكون مستدامة في الأمد البعيد أم أنها ستصبح مصدر معارضة من الدول المضيفة المعنية بالتداعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لاستيعاب عدد كبير من السكان الفلسطينيين.
إذا تقدمت المبادرة إلى التنفيذ العملي، فإن الولايات المتحدة ستعزز مكانتها كزعيمة عالمية في تعزيز الحلول العملية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني مع الحد من العبء الدبلوماسي والسياسي الذي تواجهه فيما يتعلق بهذه القضية.
بالنسبة للفلسطينيين، قد تقدم مبادرة ترامب فرصة حقيقية لتحسين ظروف معيشتهم. إن إعادة التوطين في بلدان أخرى مع حوافز اقتصادية مضمونة وبنية تحتية وخدمات، ستوفر حياة أفضل للعديد من الأسر. وتشير دراسة استقصائية أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، بقيادة الدكتور خليل الشقاقي، إلى أن نسبة كبيرة من سكان غزة أعربوا عن رغبتهم في الهجرة؛ حيث قال 44 % من سكان غزة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً، إنهم سيغادرون القطاع إذا أتيحت لهم الفرصة. وتتعدد الأسباب وراء ذلك، بما في ذلك الظروف الإنسانية المزرية، وارتفاع معدلات البطالة، وسيطرة حماس المحكمة، والشعور باليأس من تحسين أوضاعهم.
وبالنسبة للعديد من الناس، أصبحت إمكانية مغادرة غزة حلماً، وخاصة في ظل الأزمة الأمنية والاقتصادية الشديدة التي يواجهونها. ومع ذلك، قوبلت المبادرة بمعارضة شديدة من حماس والسلطة الفلسطينية، التي تخشى أن يُنظر إليها على أنها نكبة أخرى وتنازل عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وتثير المبادرة أيضاً أسئلة قانونية. إذ يجب أن تتم عملية تشجيع إعادة التوطين مع حماية حقوق الإنسان من دون إكراه. وينصب التركيز في مبادرة ترامب على الحوافز الإيجابية وليس الضغط أو القوة. ومن شأن مشاركة الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة ــ إذا اختارت التعاون في دفع مبادرة ترامب ــ أن تساعد في ضمان تلبية المبادرة للمعايير الدولية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المشاركة الواسعة من جانب بلدان متعددة في قيادة العملية ربما تقلل من المخاوف بشأن الانتقادات القانونية على الساحة العالمية.
ومع ذلك، فإن المعارضة القوية من جانب البلدان الإقليمية، إلى جانب المقاومة من جانب القيادة الفلسطينية والمنظمات الدولية، قد تمنع المبادرة من أن تتحقق أو تؤدي إلى عقبات كبيرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الافتقار إلى الرغبة من جانب البلدان المضيفة في التعاون قد يؤدي إلى فشل المبادرة، وتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة وتعزيز الانتقادات الدولية ضد إسرائيل والولايات المتحدة لزعمهما سعيهما إلى إزالة السكان الفلسطينيين بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للصراع. وفي هذا السيناريو، قد تصبح مبادرة ترامب قضية مثيرة للجدال إلى حد كبير على الساحة الدولية.
المنظور “الإسرائيلي”
لقد طفا على السطح حديث عن تشجيع الهجرة من قطاع غزة مرات عديدة في الساحات العامة والسياسية في إسرائيل. فقد أشارت استطلاعات الرأي التي أجرتها شركة دايركت بولز في عام 2024، أثناء الحرب، إلى أن نحو 80% من المستجيبين في إسرائيل يؤيدون تشجيع سكان غزة الراغبين في الهجرة إلى الخارج، بينما عارض ذلك 12%. وعلى نحو مماثل، وجد استطلاع أجرته مؤسسة مؤشر إسرائيل التابعة لمعهد سياسة الشعب اليهودي (JPPI)، في 3 فبراير/شباط 2025، أن 52% من اليهود الإسرائيليين يعتبرون مبادرة ترامب عملية ويعتقدون أنه ينبغي الترويج لها، بينما يرى 30% آخرون أنها فكرة إيجابية ولكنها غير قابلة للتطبيق في نهاية المطاف. بعبارة أخرى، يؤيد أكثر من 80% من المستجيبين فكرة نقل سكان غزة إلى دول أخرى.
إن حقوق الإنسان المتعلقة بحرية التنقل واختيار الأفراد في بلدهم وفي دول أخرى محمية بموجب القانون الدولي. إن المعاهدات الدولية، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تحد من قدرة الدولة على ممارسة الضغط المباشر أو غير المباشر لتشجيع الهجرة بالقوة. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من سكان غزة مسجلون كلاجئين في وكالة الأونروا، وهو الوضع الذي يمنحهم حقوقًا معينة، بما في ذلك المساعدات الاقتصادية. وقد يشكل هذا عقبة أمام تشجيع إعادة توطين سكان غزة، حيث قد يؤدي رحيلهم إلى فقدان المساعدة التي تقدمها المنظمة. في الوقت نفسه، يمكن اعتبار إعادة التوطين التي يتم تشجيعها من خلال الحوافز الاقتصادية وتحسين الفرص في بلدان أخرى – والتي تضمنها الدول المضيفة والنظام الدولي – مشروعة ما دامت حقوق الإنسان لأولئك الذين يتم إعادة توطينهم محمية ولا يخضعون للإكراه المباشر أو غير المباشر. وبالتالي، فإن تشجيع الهجرة من غزة يتطلب إطارًا قانونيًا قويًا لمنع المخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان.
ولأن المبادرة جاءت من الولايات المتحدة وليس إسرائيل، تقلل من التعقيدات القانونية وقد تسهل الحصول على الدعم الدولي. ومن منظور إسرائيل، تقدم هذه المبادرة ميزة استراتيجية كبيرة من خلال الحد من الضغوط الأمنية والديموغرافية على طول حدودها الجنوبية. بالإضافة إلى ذلك، قد تخفف من التهديدات الأمنية لإسرائيل، حيث إن إعادة توطين حتى بعض السكان قد يقلل من الدعم للمنظمات الإرهابية. ويبدو أن المبادرة، في سياق مصر والأردن، تهدف إلى إشراك هذين البلدين بشكل نشط في حل الأزمة الإنسانية في غزة، واستقرار المنطقة وإعادة بنائها، أو استيعاب سكان غزة لتخفيف الضغوط الإنسانية.
ومع ذلك، هناك خطر يتمثل في أن تشجيع إعادة التوطين قد يُنظر إليه على أنه إكراه أو سياسة تمييزية، ما قد يؤدي إلى إثارة انتقادات دولية واسعة النطاق. وفضلاً عن ذلك، قد يتم تفسير إعادة التوطين على أنها محاولة لإخلاء قطاع غزة من السكان بطريقة تضعف المطالبات الفلسطينية بالمنطقة أو تمهيدًا لضم إسرائيل لأجزاء من غزة. ولهذه الأسباب، وبدون استعداد البلدان الأخرى لقبول المهاجرين من غزة، فإن الخطة لن تكون قابلة للتطبيق.
الخلاصة
إن أحد الجوانب الرئيسية لمبادرة ترامب هو الاعتراف بأن حل مشكلة غزة ليس مسؤولية إسرائيل وحدها، بل يتطلب مشاركة إقليمية ودولية واسعة النطاق. إن تغيير التصور بأن قطاع غزة مشكلة إسرائيلية فقط أمر بالغ الأهمية، حيث تضع المبادرة أيضاً المسؤولية على الدول العربية لإيجاد حل. لذا، فإن العديد من الحلول تقع خارج سيطرة إسرائيل المباشرة. على سبيل المثال، لا تستطيع إسرائيل بمفردها تعزيز نزع التطرف بين الفلسطينيين، في حين ينبغي النظر في معالجة القضية الفلسطينية في سياق إقليمي أوسع.
إن تنفيذ اقتراح الرئيس ترامب يتطلب تنسيقًا دوليًا وموارد مالية واسعة النطاق وضمانات لحماية حقوق الإنسان لأولئك الذين أعيد توطينهم. في هذه المرحلة، تشير المبادرة بالفعل إلى تحول في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتتحدى النهج التقليدي مثل “حلّ الدولتين”.
ومع ذلك، فإنها لا تزال تفتقر إلى آليات واضحة للتنفيذ الفعال. والسؤال الرئيسي هو ما إذا كان العالم العربي والمجتمع الدولي على استعداد لدعم مثل هذا الحل. فهل سيرى سكان قطاع غزة أنها فرصة حقيقية لتحسين حياتهم، أم سينظرون إليها على أنها محاولة لإضعاف الهوية الوطنية الفلسطينية وحقه في تقرير المصير؟