تشكيل الحكومة الفرنسية والاعتراف بالدولة الفلسطينية!
“المدارنت”..
بعد مرور أكثر من أربعين يوماً على الانتخابات التشريعية في بلدهم، لا يزال الفرنسيون ينتظرون من الرئيس ماكرون تعيين رئيس حكومة من كتلة القوى السياسية المتحالفة الفائزة تحت اسم الجبهة الشعبية الجديدة، إذ تعدّ هذه الفترة الطويلة سابقةً في تاريخ فرنسا السياسي منذ عام 1953. وقد تعلّل الرئيس إيمانويل ماكرون بداية بدورة الألعاب الأولمبية في باريس في يوليو/ تمّوز الماضي، لكنّ قرار حلّه للجمعية الوطنية الذي لم يحظَ بتأييد حتّى القريبين منه لم يأخذ بالاعتبار تنظيمَ دورة الألعاب الأولمبية في هذا التاريخ، ومثله قرار إجراء الانتخابات التشريعية في هذه الفترة القصيرة جدّاً، وعند قرب نهاية الألعاب الأولمبية.
ادّعى ماكرون أنّ سبب تأخّر تعيينه رئيس حكومة أنّه ليس هناك من فائز في هذه الانتخابات، لأنّ الجبهة الشعبية الجديدة ليست أغلبية في الجمعية الوطنية، علما أنّه يحكم أيضاً بأقلية، وقد اتُّخذت أكثر قراراته من دون أغلبية في الجمعية الوطنية. تلت ذلك حُجّة أخرى هي عدم استعداد الجبهة الشعبية الجديدة للحكم، وعدم اتّفاق أعضائها على اسم لرئيس وزراء، بسبب الخلافات بينهم، في محاولةٍ لشقّ وحدة اليسار وإضعافه ودفعه إلى التنازل عن برنامجه، الذي وعد به الفرنسيون، وانتُخِب من أجل تحقيقه، بالأخصّ منه فقرة “الاعتراف حالاً بالدولة الفلسطينية”، وحينما قدّمت الكتلة الفائزة بضعة أسماء، أخذ الإعلام يشيطن الأسماء المقترحة، وكأنّه مدفوع بأوامر لإسقاطها، ليُرسَل بعد ذلك اسمٌ آخر للإليزيه من حزب البيئة، ومع ذلك فقد ردّ الرئيس ماكرون، في مقابلة تلفزيونية قبل افتتاح الألعاب الأولمبية، على سؤال صحافي عن تشكيل الحكومة، وتقديم اليسار لاسم لوسي كاستيه لرئاسة الوزراء، فقال ماكرون إنّ المشكلة ليست بتقديم اسم، بل بالأغلبية التي ستتشكل، واعترف لأوّل مرّة علناً، قائلاً: “هُزمْتُ لكن أحداً لم يفزْ؟ وأقول للأحزاب أن تتفاهم فيما بينها لتشكّل تحالفاً، وهو ما يريده الفرنسيون”. يتّضح من كلام الرئيس أنّه يتهرّب من تعيين رئيس وزراء من كتلة الفائز بالانتخابات، ويتلاعب بالكلمات مناقضاً أقواله نفسها بأنه إذا كان هناك خاسر، فهناك حتماً فائز، لكنّه ببساطة يرفض فوز اليسار، الذي لم يكن في حساباته عند حلّ الجمعية الوطنية.
واضح أنّ ماكرون يتهرّب من تعيين رئيس وزراء من كتلة الفائز بالانتخابات، ويرفض فوز اليسار، الذي لم يكن في حساباته عند حلّ الجمعية الوطنية
المتعارف عليه في مثل هذه السياقات أن يتّصل الرئيس بالحزب الفائز، ويطلب اسماً لتعيينه رئيساً للحكومة التي سيشكلها فقط، لكنّ الرئيس يماطل بشكل غريب منذ نهاية الانتخابات التشريعية. وبدل أن يُعيّن رئيسَ حكومةٍ من اليسار، احتفظ بحكومته المستقيلة لـ”تسيّر الأعمال”، من دون أيّ صلاحيات كبيرة وفقاً للدستور، ورغم ذلك فإنّ هذه الحكومة استمرّت في العمل حكومة دائمة تصدر قرارات ليست من صلاحيتها، بل من صلاحيات الحكومة التي يشكّلها رئيس الوزراء الجديد الفائز في آخر انتخابات. لقد أثارت هذه المناورات غير الدستورية عدة سياسيين وقانونيين متخصّصين، وفي مقدّمتهم رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق في عهد الرئيس الراحل، جاك شيراك، دومينيك دوفيلبان، الذي قال بحدّة غير معهودة: “يمكن للرئيس في هذه الحالة أن يأخذ بعض الوقت، لكن لا أن يأخذ وقته كلّه، وينشغل بكتابة رسائل للصحافيين بدل تعيين رئيس حكومة”. وللمرّة الأولى، عبّر أكثر من أستاذ قانون ومتخصّص ومحامٍ عن دهشتهم لتعامل ماكرون مع انتخابات تشريعية ومع نتائجها، بطريقةٍ لا تخدم استقرار الدولة، وتسيء إلى سمعة فرنسا، وإلى مصداقية أحزابها وديمقراطيتها بنظر الفرنسيين والعالم.
يبدو واضحاً أنّ تأخّر الرئيس ماكرون عن الاتصال بالكتلة الفائزة لم يكن بسبب الألعاب الأولمبية، وهذا ما أشار إليه أكثرُ من سياسي وقانوني، ولا علاقة له بقضية الأغلبية، فالحُجَّةُ مردودةٌ على صاحب الأغلبية النسبية في الجمعية الوطنية نفسه، بل لها علاقة وثيقة ببرنامج الحزب، وبالأخص بقرار زعيمه جان لوك ميلانشون “الاعتراف في أوّل أسبوعين من الوصول إلى السلطة بالدولة الفلسطينية”، وهو الأمر الذي يرفضه ماكرون بشكل كامل، لأنّه يرى “أنّ الوقت لم يحن لمثل هذا الاعتراف”، ولأنّه من المؤيدين والداعمين بقوّة لحكومة الاحتلال، ولحربها ضدّ الشعب الفلسطيني، وهذا هو أيضاً سبب استبعاد زعيم الحزب ميلانشون من تولّي منصب رئاسة الوزراء، الذي ردّ بالقول إنّه لا يهتمّ بالحصول على منصب رئيس الوزراء، بل إنّ هدفه هو الانتخابات الرئاسية لعام 2027. ليس ذلك فحسب، بل شمل الاستبعاد من منصب رئيس الوزراء نوّاباً في حزب فرنسا الأبية، ممّن يتميّزون عن غيرهم من النواب في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، وإدانة الحرب الهمجية عليه، سواء في الجمعية الوطنية أو في المناسبات، التي حشّدوا لها لدعم الشعب الفلسطيني، مثل رئيسة كتلة حزب فرنسا الأبية في البرلمان النائبة ماتيلد بانو، والسياسي البارع ومنسّق الحزب، إيمانويل بومبار. ورغم تقديم الجبهة الشعبية الجديدة اسماً من خارج حزب فرنسا الأبية، مثل لوسي كاستيه من حزب البيئة، لرئاسة الوزراء، فإنّ الرئيس ماكرون رفض تعيينها لتمسّكها في لقائه معها ومع ممثلي اليسار بتنفيذ برنامج الجبهة، ونيّتها تعيين وزراء من حزب فرنسا الأبية في تشكيلة حكومتها.
ليس هناك أيّ أغلبية لأيّ حزب في الجمعية الوطنية من دون حزب فرنسا الأبية، أو التجمع الوطني، الأمر الذي سيحبط مناورات ماكرون كلّها
إنّ إعلان الدولة الفلسطينية من كتلة اليسار سيكون ضربةً كبيرةً، وضياع عمل ماكرون واللوبي الصهيوني، عقدين، لتغييب القضية الفلسطينية عن الفضاء الفرنسي، وهو ما لا يمكن قبوله من الرئيس، ولا من اللوبي، ولا حتّى من بعض الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة العنصرية، التي تساند اليوم حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، لأنّ ذلك سيعيد القضية الفلسطينية بقوّة إلى الساحة الفرنسية، ويقضي على القوانين والإجراءات التي اتّخذت لتشويه وتجريم المدافعين عن الحقّ الفلسطيني، وخصوصاً الفرنسيين من أصول عربية.
إزاء هذا التعنّت ورفض الاعتراف بنتائج الاقتراع الديمقراطي للشعب الفرنسي، ورغبة الرئيس ماكرون في تشكيل الحكومة بنفسه، واختيار رئيس وزراء على هواه في خرق للدستور، قرّرت الجبهة الشعبية الجديدة استخدام المادة الـ 68 من الدستور، التي تتيح إقالة الرئيس من منصبه، وهو إجراء يتّخذ في حال عدم التزام الرئيس مهامه التي يُحدّدها الدستور، كذلك قرّرت عدم الموافقة على أيّ حكومة لا ترأسها لوسي كاستيه، علماً أنّه ليس هناك أيّ أغلبية لأيّ حزب في الجمعية الوطنية من دون حزب فرنسا الأبية، أو التجمع الوطني، الأمر الذي سيحبط مناورات ماكرون كلّها. كذلك دعت الجبهة إلى تظاهرات شعبية لمطالبة الرئيس باحترام الديمقراطية، واحترام تصويت الشعب على التغيير، ورفضاً لسياسته من غالبية الشعب الفرنسي.
بضراوة يحاول ماكرون وحزبه، ومعهم بقيّة الأحزاب، وخلفهم اللوبي الصهيوني، إبعاد الجبهة الشعبية الجديدة، التي فازت في الانتخابات التشريعية، عن الحكم، وبالطرائق كلّها، ولكن عبثاً حتّى الآن. وإضافة إلى ما يقوم به الرئيس، ومعه أتباعه في الأحزاب الأخرى، وجّه 51 نائباً من حزبه رسالةً إلى رئيسة البرلمان الأوربي روبيرتا ميتسولا يطلبون فيها رفع الحصانة عن النائبة الأوروبية فلسطينية الأصل ريما حسن، لمشاركتها في تظاهرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في عمّان، في محاولة للنيل منها ومن هُويَّتها، ونزع شرعية تعيينها الذي آلم حكومة الاحتلال نائبةً لرئيس لجنة حقوق الإنسان في الاتحاد الأوربي، والإساءة إلى حزب فرنسا الأبية، رغم أنّ مثل هذه الدعوة غير مقبولة وفق قانون الاتحاد الأوروبي، لكنّ حزب فرنسا الأبية ونوابه تصدّوا بقوّة لهذه المحاولات الخبيثة، ودعموا ريما حسن بالمبدئية نفسها، وبالانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ضدّ حرب الإبادة الصهيونية منذ 7 أكتوبر (2023).