تونس.. جدران المدارس تنهار وبنيان الحقوق يتداعى!
“المدارنت”..
في منطقة المزونة التابعة لولاية سيدي بوزيد وسط تونس، توفي ثلاثة تلاميذ تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عاماً، وأُصيب زملاء لهم آخرون بجراح خطيرة، جراء انهيار جدار مدرسة ثانوية، بُني في ثمانينيات القرن المنصرم وكان آيلاً للسقوط وعانى من الإهمال طويلاً، ولجأ الأهالي مراراً إلى التحذير من خطورته على حياة التلاميذ والمارّة خارج المعهد أيضاً.
وهنا في سيدي بوزيد كان الشاب محمد بو عزيزي قد أضرم النار في جسده، وأطلق الشرارة التي أشعلت انتفاضة الشعب التونسي يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 وأفضت إلى إسقاط نظام زين العابدين بن علي. ولهذا فإن التظاهرات الشعبية سرعان ما عمّت المنطقة، وترافقت مع إضرابات وإغلاق طرق وإشعال عجلات مطاطية، احتجاجاً على إمعان السلطات في إهمال المرافق العامة والحيوية.
وأما في قصر قرطاج فقد كان منتظَراً من الرئيس التونسي قيس سعيد أن يجترّ الخطاب المستهلك ذاته، فيصدر بلاغاً يقول إن الأمر لا يتعلق بالتشريع فقط بل بمن هو مدعوّ إلى السهر على تنفيذه، لأن «الثورة التشريعية لن تنجح إلا إذا كانت مصحوبة بثورة في الفكر». وإلى جانب التنصّل من مسؤولية السلطات التابعة له والمؤتمرة بأوامره، أنحى سعيّد بالملامة على الفكر، وكأنه ليس المتحكم بالتشريع والتفكير في آن معاً.
لكن جدران المعاهد والمدارس والمنشآت العامة ليست وحدها التي تنهار بسبب غياب الدولة في كثير أو قليل، بل بنيان الحقوق والحريات العامة والدستورية والقضائية يتداعى تباعاً أيضاً، وتشهد عليه يومياً سلسلة انتهاكات متعددة ومتنوعة تسعى إلى إسكات الصحافة ومعها الرأي الآخر، وتعطيل أدوار النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، في تزامن مع انحدار شروط المعيشة وغلاء الأسعار وندرة المواد التموينية الأساسية وتدهور الاقتصاد عموماً.
الأحدث عهداً في هذا السياق مواصلة المهزلة المسماة «قضية التآمر على الدولة»، ومعها محاكمات سياسية عشوائية تستند إلى ملفات قضائية خاوية الوفاض أو تكاد، مع انعدام شبه تام للأدلة والقرائن والبراهين. ليس هذا فحسب، بل إن السلطات الأمنية منعت نشطاء ومنظمات حقوقية من تنظيم محاكمة رمزية في قاعة سينما خاصة، إمعاناً في تطبيق قرار قضى بإجراء المحاكمات الفعلية بصورة مكتومة وبعيداً عن الجمهور والمتهمين أنفسهم.
«الجامعة العامة للتعليم الثانوي» في سيدي بوزيد دعت إلى إيقاف الدروس في المؤسسات التربوية كافة، وحمّلت السلطات مسؤولية «التخلي عن إصلاح البنية التحتية للمدرسة العمومية». ولأن هذه النقابة تتبع للاتحاد العام التونسي للشغل فإن قيادة الاتحاد مطالَبة بالانخراط أكثر في الضغط على قصر قرطاج، وقطع خطوة إضافية ملموسة بعيداً عن سياسات سابقة انطوت على تأييد لإجراءات سعيّد الاستثنائية والانقلابية في 25 تموز/ يوليو 2021.
لم تعد تكفي لغة الانتقاد الخجولة التي اعتمدتها قيادة الاتحاد حتى الساعة، أو الاكتفاء بإبداء حماس محدود لخطوات الرئاسة بصدد مشروع الاستفتاء وكتابة دستور جديد وتنظيم انتخابات تشريعية، إلى جانب تعطيل المفاوضات حول رفع أجور العاملين.
فالجدران تواصل السقوط، وبنى الحقوق والحريات تتداعى تباعاً.