ثلاثة أيام في مصر../ الجزء (10)
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة العاشرة من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرّة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثاره، وبعض مناطقه.
كتب د. بلال بكري:
القلعة
أشرت إلى إحدى سيارات الأجرة بالتوقّف، فلمّا أخبرت السائق بوجهتي إلى القلعة، إعتذر وذهب منصرفا، دون أن يفتح أي مجال للمساومة. إنتظرت بضع دقائق أخرى، فأشرتُ إلى سائق آخر بالتوقف. هذه المرة تمّت الصفقة بنجاح بعد الإتفاق على السعر. وانطلقنا صعودا نحو قلعة صلاح الدين الأيوبي، الحصن القاهري الشهير ومقر الحكم في مصر لقرون عدة. وصلنا إلى باحة خارجية على أحد المنحدرات المؤدية إلى القلعة. تركني السائق هناك فلا يسمح بتجاوز السياج الحديدي. نقدته أجرته وصعدت سيرا على قدمي بعد أن تجاوزت كشك الأمن الخارجي إلى بوابة القلعة الرئيسة حيث مدخلها الرئيس وكشك شراء تذاكر الدخول.
على مدخل القلعة صادفتني نفس المشكلة التي حصلت معي على مدخل كل من الأهرامات والمتحف المصري بميدان التحرير. لا يقبل شراء التذاكر إلا بواسطة البطاقة المصرفية ويرفض رفضا باتًّا أي تعامل بالعملات الورقية. أنقذني من هذا الموقف ربّ أسرة مصري كان بصحبة زوجته وأولاده. عرضتُ له مشكلتي، وما كان منه إلا أن تكرّم بواسطة بطاقته المصرفية بشراء تذكرة دخول لي إلى هذا المَعْلَم السياحي العظيم. وناولته سعر التذكرة نقدا بالجنيه المصري. شهد هذه الواقعة رجل من رجال الشرطة المصرية كان واقفا على المدخل لا أعلم إن كان عنصرا أو ضابطا، فرفع عقيرته عاليا بهتاف “تحيا مصر”، فكررت هتافه تكرارا صادقا. وشكرت رب هذه الأسرة المصرية على كرمه وشهامته. وفي القلعة كما في الأهرامات والمتحف المصري يتساوى المصريون والعرب بالأفضلية في السعر المخفّض للتذاكر من دون الأجانب.
ودخلتُ إلى القلعة حيث تم تعبيد شوارعها بالزفت، واكتشفت أنها تضم عدة مبانٍ من بينها جامع محمد علي الشهير وجامع الناصر قلاوون والمتحف الحربي ومتحف الشرطة. لكن قبل الشروع بالزيارة إلى أي من هذه الصروح، كان عليّ أن أقضي حاجتي، فمثانتي كانت تلحّ عليّ إلحاحا. سألت عن دورة مياه، فقيل لي لا وجود لدورة مياه إلا في المبنى حيث يقع قسم الشرطة في القلعة عينها. دخلت إلى القسم المذكور حيث أُذِن لي باستخدام المرحاض، وغسلت وجهي ورأسي للتخفيف من حدة الحر في تلك الساعة التي كانت تقارب الرابعة عصرا تقريبا.
كان مسجد الناصر قلاوون، أول الصروح التي دخلت إليها في القلعة. وعندما تجاوزت مكانا ما على العتبة، نبّهني الحاجب المولج بحراسة ذلك المسجد التاريخي إلى ضرورة خلع نعليّ. لم أكن قد فطنت بعد إلى أن ذلك المبنى كان مسجدا. فباحته الداخلية غير مفروشة بالسجّاد والأروقة التي تحيط بالباحة الرئيسة من جوانبها الأربعة بشكل مربّع كانت مفروشة بسجاد أحمر قديم. خلعت نعليّ ورحت أتجول في الأروقة المفروشة بالسجاد، واقتربت من المنبر الخشبي في العمق. هنا زال أي التباس بشأن هوية المبنى الذي يبدو أنه لا تقام به أي صلاة في هذا الزمن، وصار معلما تراثيا وسياحيا من معالم القلعة. حين هممت بالخروج واقتربت من رفوف الأحذية، تفاجأت بالحاحب يلتقط حذائي عن الرف ويضعه أمامي. أعترف أن تصرفه هذا أحرجني، أولا كيف عرف أي الأحذية يخصني وهذا ليس بالصعب فالزوار كانوا قلة في تلك الأمسية، وثانيا كيف سمح لنفسه بهذا التصرف الذي رأيته مهينا لكرامته. لم أجد مُنقِذا من هذا الموقف إلا نقد الرجل مبلغ خمسين جنيه مصري كإكرامية أزالت شيئا من هذا الإحراج. وقد حذّرني الرجل أن أزور المتحف الحربي قبل أي معلم آخر في القلعة، ذلك لأنه كان يوشك أن يحل موعد إقفاله الاعتيادي. عملت بنصيحة الرجل وتوجّهت نحو المتحف الحربي.
زرت المتحف الحربي في القلعة، وبعد فراغي من هذه الزيارة توجهت نحو جامع محمد علي. هذا الجامع الضخم ذو القبب العملاقة والمآذن العالية التي تعانق عنان السماء قد شُيِّد بأسلوب معماري عثماني بامتياز، وقد ذكرني من الخارج والداخل بجوامع ومساجد اسطنبول التاريخية التي شاهدتها في الصور. أعلى جدران المسجد من الخارج مزدان بقصيدة شعرية لم أستطع قراءتها بشكل واضح من الأسفل على الأرض، رغم كون حروفها من الحجم الكبير الظاهر. أرضية المسجد من الداخل غير مفروشة بالسجاد. وكان هناك في ركن من أركانه قطعة من سجاد استخدمتها لتحية المسجد.
في الباحة الخارجية لجامع محمد علي المطلّة على القاهرة القديمة، شهدت مشهدا جعلني أتعجب تعجبا غير قليل. كان هناك عروسان يحيط بهما فريق تصوير أخذ يرشدهما في اللقطات التي راحت تلتقطها عدسات الكاميرات. وعلى الرصيف المؤدي إلى المدخل الرئيس للجامع التاريخي كان هناك سيارة تأتي بالورود وبزينة تتعلق بالزفاف، وحين نظرت الى حيث تذهب الورود والزينة، لاحظت أن هناك باحةً جانبية غير مسقوفة وملاصقة للجامع كانت تُهَيّأ لما يبدو أنه حفل زفاف العروسين اللذين ذكرناهما آنفا. أما كيف ولماذا دخل هؤلاء العروسان ومدعوّوهما إلى القلعة المهيبة العجيبة، فهذا من العجب العجاب الذي لا يوجد منه إلا في أرض الكنانة. هل تستخدم الحكومة المصرية معالمها السياحية التاريخية كصالات للأفراح بأسعار باهظة بغية الحصول على أموال لخزينة الدولة؟ أم أن العروسين أو أحدهما هما من أبناء أحد الأعيان أو المتنفّذين؟ لا أملك أي إجابة واضحة عن هذه التساؤلات. لكن عجبي وتعجبي من هذا التصرف لا ينقطعان.
نفس القلعة التي شهدت منذ ما يزيد عن مائتيّ سنة بقليل، مذبحة فجائعية عرفت بمذبحة القلعة، هي القلعة التي تستصيف اليوم عروسين في ليلة زفافهما، وتكرمهما أيّما إكرام. وسبحان مغير الأحوال ومقلِّب القلوب. كان حاكم مصر محمد علي يريد التخلص تخلصا نهائيا من نفوذ المماليك فدعاهم الى احتفال ومأدبة بمناسبة تنصيب إبنه أحمد طوسون على رأس الجيش الذاهب الى الحجاز للفتك بمحمد بن عبد الوهاب وحركته الدينية السياسية. في هذه القلعة، وأمام أحد أبوابها، والذي يدعى باب العزب، غدر محمد علي بالمماليك وبطش بهم البطشة الكبرى. قتل منهم بضع مئات وربما أكثر من ألف، ولم ينجُ منهم إلا مملوك واحد اسمه أمين بك، فرّ هاربا على صهوة جواده الذي أمره بالقفز من أعلى سور القلعة بعد وقوع الواقعة. وقد فرّ هذا المملوكي الهارب إلى بلاد الشام. وكانت هذه المذبحة المسمار الأخير في نعش المماليك، والحدث الذي اجتثهم اجتثاثا من التاريخ، لم تقم لهم بعده قائمة.
من أعلى القلعة منظر القاهرة مهيب عجيب. يجلس المرء للتأمل ويترك لناظرَيْه حرية الإجالة في مشاهد القاهرة من علِ. وقفت لبضع دقائق في ذلك النهار الذي كان قد دخل في توقيت العصر لأتأمل القاهرة المحروسة. إنه لمشهد يأسر الألباب ويستحوذ على القلوب ويترك المرء فريسة لتأملاته وأفكاره وخيالاته. ولم تكن صدفة أن خدم هذا المكان كمقر لحكومة مصر لقرون منذ أيام صلاح الدين الأيوبي وحتى إنشاء قصر عابدين في أيام الخديوي إسماعيل. فالمكان استراتيجي جدا والقلعة حصينة منيعة.
جندي مصري محتفلًا بالنصر
عملًا بتحذيرات حاجب مسجد الناصر قلاوون، وخشية أن تفوتني زيارة المتحف الحربي، أسرعتُ الخُطى نحو ذلك المَعْلَمِ السياحي من معالم القلعة. حديقة هذا المتحف وباحته الخارجيتان توحيان بأهميته الكبرى لدى الدولة. فالعناية بكل مرافق الحديقة والباحة هي عناية شديدة تعطي انطباعا قويا عن مدى اهتمام ورعاية الدولة لمرفقها السياحي هذا. مباشرة قبل باب المتحف، وعلى يسار الداخل، هناك معرض في الهواء الطلق للطائرات الحربية والدبابات وغيرها من الآليات الحربية. بين باب المتحف وهذا المعرض، ينتصب تمثالان عملاقان، أحدهما للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والآخر للرئيس الراحل أنور السادات، والزعيمان هما ضابطان من أبناء المؤسسة العسكرية المصرية.
على باب المتحف الحربي استوقفتني امرأة محجبة، وأنبأتني أن الدخول لا يتمّ من دون وضع الكمامة على الوجه، ولم تخبرني عن السبب، ولكنها أفهمتني أن هذا شرط من شروط الزيارة. أخبرتها أن لا كمامة معي. هنا أظهرت علبة مليئة بالكمامات، وقالت: ثمنها جنيهان مصريان فقط. أخرجت ورقة نقدية من فئة المائة جنيه، فاستنكرت المرأة، وسألتني إن لم أكن أحمل ورقة نقدية من فئة أصغر. قلت لها ليس بحوزتي من الجنيهات إلا من فئة المائة والمائتين، فانظري ما أنتِ فاعلة.
هنا، تأففت المرأة بشكل واضح وأرادت التخلّص مني بأيّ شكل، فأذنت لي بالدخول إلى المتحف بلا أيّ كمامة ولا “بطّيخ”! ألم تكن الكمامة ضرورة من ضرورات الولوج إلى ذلك المَعلَم السياحي العظيم؟ بلى! لكن الأمر ليس بهذه الصرامة. والسؤال الذي ينبغي طرحه ما هي فائدة الكمامات هنا بالذات؟ ففي كل المعالم السياحية ومرافقها التي سنحت لي زيارتها في القاهرة، يدخل المرء سافر الوجه. حتى إلى باطن الهرم الأكبر، حيث تتناقص كمية الاوكسجين بشكل مخيف، لا أحد فرض الكمامة. فلماذا في المتحف الحربي يريدون فرض الكمامة؟ على كل حال دخلنا الى المتحف الحربي مع الداخلين ووضعنا رأسنا بين الرؤوس وتوكلنا على الله رب العالمين.
وأخذت أتجول في أروقة المتحف وممراته وحجراته. للأمانة هو متحف مشاد بإتقان. يعرض أشياء كثيرة تتعلق بالحروب والحياة العسكرية، من اللباس العسكري في مختلف عصور الجيش المصري، إلى الأسلحة بدءا من الخناجر والسيوف في الأزمنة الماضية وحتى البنادق والرشاشات في زمننا الحاضر. وكان واضحا أن حرب أكتوبر (او حرب رمضان) 1973 والتي تكللت بإنجاز عبور قناة السويس كانت تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام والأضواء في ذلك المتحف. فهناك مجسم ضخم بتلك الصورة الشهيرة للرئيس السادات مع كبار ضباط أركانه في غرفة عمليات تلك الحرب التي يعتبرها المصريون والعرب نصرا مجيدا وإن لم يكن من إجماع على ذلك. وهناك مجسّم آخر ضخم يمثّل عملية عبور الجنود المصريين لقناة السويس. والمتحف ككل يزخر باللافتات وباللوحات التي تضم معلومات وإرشادات وتتحدث بكل فخر عن إنجازات القوات المسلحة المصرية.
هذا المتحف مؤلَّف من طابقين ولم ألحظ كبير فرق بين المعروض في الدور العلوي وبين المعروض في الدور السفلي. تكوّن لديّ انطباع أن هذا المتحف ما أنشئ إلا لتمجيد حرب أكتوبر وتخليد ذكراها. ولم يبخل على بطل أكتوبر، أي الرئيس السادات، بالثناء والتبجيل. فإضافة الى تمثاله الشامخ في الخارج، بالقرب من مدخل المتحف، كانت لوحات معلومات المتحف الداخلية تشيد بعظيم إنجازاته ومآثره.
وحين وقع نظري على واحدة من تلك اللافتات تعجبت ليس من مضمون المديح، فمن أنا لأحكم على زعيم مثل أنور السادات، ولكن هالني ما رأيت من خطأ في قواعد النحو. فكان النص يقول عن الرئيس السادات أنه لم يكن قائدا عسكريا عظيما وحسب، بل “إنه كاتبًا كبيرا”. أي نعم. هكذا بالحرف: “إنه كاتبا كبيرا”. وهكذا تم انتهاك النحو ونصب خبر الحرف المشبُه بالفعل بدل رفعه. لكن الطامة الكبرى ليست في نصب خبر إن أو رفعه، الطامة الكبرى تحدث في ما لو تم النصب على شعب بأكمله، بل على شعوب بأكملها، بدل رفعها، وهذا -أي النصب بدل الرفع- معاذ الله أن يقوم به أي حاكم عربي في زمننا المجيد هذا.
خرجت من داخل المتحف بعد فراغي من الزيارة إلى باحته الخارجية وأنا غير مصدّقِ لما رأته عيناي من نصب للمرفوع في لافتة من المفروض أنها وثيقة رسمية تعبّر عن الدولة المصرية. ليس هذا تفصيلا بسيطا في حسابات الدول التي تحترم نفسها وشعبها وزائريها. لكن ما علينا. قلت أكمل زيارتي بسلام ومالي وما لإن وأخواتها ولإسمها ولخبرها وللنحو العربي كله. فهناك ما هو أجلّ وأعظم من هذه التفاصيل اللغوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وتوجّهت نحو معرض الآليات الحربية الذي يحرسه تمثالا عبد الناصر والسادات الشامخان. هناك الدبابات التي استخدمت في الحروب المصرية ضد العدو الصهيوني. وهناك الطائرات الحربية، ومن ضمنها طائرة السوخوي الروسية الشهيرة. من هنا يبدأ النصر. من هنا يأتي الفوز.
من هذه الآليات التي يقودها الجنود الشجعان تحسم الحروب وتخاض أشرس المعارك. واحتفالا بكل هذا، وتقديرا للبطل الذي على أكتافه تبنى أمجاد الحروب، تم تشييد تمثال الجندي المصري محتفلا بالنصر بجوار تمثاليّ عبد الناصر والسادات. إنه لتقدير مستحق ولفتة جميلة بعرفان القادة بقيمة الجندي المصري الشجاع، لذلك فهو يستحق التكريم وأي تكريم.
حين وقع بصري على تمثال الجندي المصري، لم أكن أدرك ما يرمز إليه ذلك التمثال (الجميل للأمانة)، ولكن حين قرأت لافتة وضعت عند موضع قدمي التمثال، أدركت ما يرمز إليه ذلك التمثال.
وكانت عبارة “جندي مصري محتفلًا بالنصر” تزيل أي التباس وتقدّم شرحا وافيا للزائر. لكن النحو الذي هربنا منه من الداخل أبى إلا أن يطاردنا إلى الخارج، لكن بالإنكليزية هذه المرة، وليس بالعربية. فالترجمة العبقرية لعبارة “محتفلا” كانت “celbrating” مع حذف حرف ال E الانكليزي من الكلمة. فالكلمة الصحيحة هي “celebrating”. أي أن الكلمة ترجمت من العربية الى الانكليزية بشكل خاطئ ولم ينتبه أحد من المسؤولين في الدولة المصرية إلى هذا الخطأ. ولتوثيق هذا الكلام قمت بتصوير التمثال مع اللافتة أسفله بعدسة هاتفي.
وكانت هذه الزيارة بالنسبة لي كاشفة بشكل مذهل. هناك، في المتحف الحربي، في القلعة التي بناها بطل حطين والتي لا تزال تحمل اسمه المجيد، هناك انكشفت لي الكثير من الأمور ووضحت لي الكثير من الصور. كنت قبل رؤيتي لهذا التمثال وقبل قراءتي عن السادات ككاتب كبير في إحدى اللافتات داخل المتحف الحربي، أتساءل كيف استطاعت دولة صغيرة هجينة مثل الكيان الصهيوني أن تهزم مصر وأن تذلٍّها.
وهنا أعتقد أنني عثرت على جواب. فالإتقان يبدأ من الكلمة وبالكلمة. والدولة ومؤسستها العسكرية اللتان تسمحان بمثل هذه الأخطاء اللغوية الفادحة، في مكان تاريخي وتراثي ورمزي مثل القلعة، هما الدولة والمؤسسة اللتان تولدان الفشل والهزيمة. والنصر يبدأ بكلمة وينتهي بكلمة. والهزيمة تبدأ بكلمة وتنتهي بكلمة. ولن تنفع الدبابات ولا السوخوي ولا حتى القنابل النووية إن لم نصلح الكلمة عربية أولا وثانيا وثالثا وعاشرا، ومن ثم أعجمية. أما أن نقلّد الاجانب بشكل ممسوخ كمثل لافتة تمثال هذا الجندي البائس، فهذا لا يؤدي إلا إلى هزائم تتبعها هزائم.
بعد كل هذه المفاجآت والاكتشافات اللغوية والحربية والفكرية، كان عليّ أن أريح فكري وعقلي وجسدي قليلا. فالحر كان لا يطاق والعطش كان يستبد بي رغم توغل الوقت في العصر وانحسار الحر قليلا. وفي طريق العودة من عند تمثال الجندي المصري المحتفل بالنصر، سمعت أغنية شادية “يا حبيبتي يا مصر” تبث بصوت عالٍ من مكان ما. سرعان ما اتضح مصدر الصوت. إنه المقهى المرفق بباحة المتحف. توجهت نحوه. لم يكن فيه على اتساعه من زبون غيري. آثرت الجلوس على طاولة داخلية لاتّقاء الحرّ. طلبت قارورة ماء وعصير مانجا. وكل هذا وكيس الكتب التي اشتريتها من جوار الأزهر الشريف لا يفارقني. جلست أستريح قليلا من الحرّ ومن صور الهزائم والنكسات ومن الأخطاء والهفوات اللغوية ومن المغالطات الفكرية والغزو الثقافي. وكانت المشروبات الباردة والأغنية الوطنية البديعة لشادية خير معين لي في تلك اللحظة.
“كورنيش” النيل
بين عصر ومغرب ذلك اليوم المشهود، كنت أنزل من قلعة صلاح الدين طالبًا سيارة أجرة للعودة إلى الفندق للاستراحة قليلا. كنت أريد استغلال ما تبقى من تلك الأمسية القاهرية على أكمل وأمثل وجه قبل مغادرة الأراضي المصرية في صبيحة اليوم التالي. خرجت من بوابة سور القلعة وحين حاذيت كوخا لرجال الشرطة في المنحدر نزولا، سألت عنصرا شابا من عناصر الشرطة أين أجد سيارة أجرة فقال أنه لا يعرف، وسألته سؤالا آخر عن أحد أحياء القاهرة، فأجاب بأنه لا يدري أيضا. فعزوتُ الأمر إلى بلاهة الفتى، وخمّنت أنه قد جيء به من أحد النجوع النائية في الأرياف، فكانت غربته شديدة في العاصمة.
وأكملت طريقي إلى أسفل المنحدر حيث وجدت تجمّعا من الناس وبجوارهما سيارتين من نوع توك توك أو مما يشابهها من حيث رقة الحال ورداءة الهيئة العامة. كانت واحدة من السيارتين فارغة إلا من سائقها. “أريد شارع العروبة في مصر الجديدة”، قلت للرجل. اتفقنا على سعر الأجرة وانطلقنا إيابا نحو فندق البارون.
حين وصلنا إلى فندق البارون، كانت الساعة قد دنت من الرابعة والنصف عصرا، وكان موعد إغلاق قصر البارون للزيارة السياحية في تمام الساعة الخامسة مساء. أي أن أمامي نصف ساعة إن أردت أن أقوم بهذه الزيارة التي لم تكن تجذبني كثيرا، ولكن أن أنزل بجوار هذا القصر ولا أزوره، ولو لنصف ساعة، فإن هذا الأمر لم يكن له مسوّغ عندي. وجدت نفسي أمام كشك شراء تذاكر الدخول الخاص بالقصر. تفاجأت بالتعرفة الغالية. فهي نفس تعرفة المتحف المصري والقلعة تقريبا. سبعون جنيها للزيارة العامة والبانوراميك زيادة ثلاثون جنيها، فلما استفسرت عن البانوراميك قال لي موظف الدخول أنه التجول في الطابق العلوي من القصر الذي يتيح رؤية شاملة على الحي. كان هذا الموظف قد حذّرني من قِصَر المدة المتاحة أمامي قبل إغلاق هذا المعلم السياحي. قال أن النصف ساعة كافية لزيارة سريعة، لكن على مسؤوليتي. قلت للموظف لا عليك واشتريت تذكرتين: واحدة للزيارة العامة التي تشمل حديقة القصر وكل طوابقه وحجراته، والثانية خاصة بالطابق العلوي ذي الإطلالة على الحي. والمفارقة أن زيارة هذا المعلم السياحي تُقبَل فيها العملة الورقية كوسيلة للتعامل، بخلاف باقي المعالم السياحية المهمة التي ذكرناها آنفا، والتي حصرت تعاملها بالبطاقات المصرفية المحلية والدولية.
كانت زيارة قصر البارون مخيّبة للآمال. فهو قصر عادي أو حتى أقل من عادي، ولم أجد في حجراته ولا في طابقه العلوي وسطحه ما يلفت النظر، باستثناء الطراز الهندي الذي يظهر على شرفات السطح وغرفه وقبته المخروطية. ولعل أهمية هذا القصر أنه من البقية الباقية من القصور من طراز ما يعرف بالزمن الجميل الممتد من أواسط القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. وما يضيف إلى أهميته أنه القصر الخاص بالبارون البلجيكي الذي أسّس حي مصر الجديدة. أما الصعود إلى شرفة السطح والإطلالة البانوراميك فليس فيها أي شيء عجيب أو مميز، ولا يكاد يكون من وظيفة لهذه الإطلالة إلا رؤية الحديقة الجميلة المحيطة بالقصر من جميع جوانبه. وحين نظرت من أعلى شرفة السطح باتجاه فندق البارون حيث كنت نازلا، وقع بصري في الأسفل على مشهد شبيه بما رأيته في القلعة. كان هناك عروسان محاطين بفريق تصوير يأخذ لهم اللقطات في حديقة قصر البارون. لكن هنا لا وجود لأي قاعة حفلات للأفراح، بخلاف القلعة. وهنا طرحت نفس السؤال على نفسي: كيف تسمح الدولة المصرية باستخدام معالمها ومرافقها السياحية كمسرح لتصوير ألبومات الأعراس وكقاعات للأفراح؟
توجّهت من قصر البارون مباشرة إلى غرفتي في الفندق، بغية أخذ قسط من الراحة لمواصلة الجولة السياحية. أردت أن أستغل المساء الثالث والأخير لي في القاهرة في جولة سياحية أخرى. لكنني هذه المرة آثرت أن أستخدم المواصلات العامة، مترو الأنفاق تحديدا، وذلك لكي أتعرف على سكك حديد أنفاق القاهرة. كنت أنتوي الذهاب الى كورنيش النيل وبرج القاهرة. أُرْشِدتُ إلى أنني عليّ أن أخرج من الفندق سيرا على قدمي إلى محطة “كلية البنات” القريبة والواقعة على شارع السيد الميرغني. من هذه المحطة عليّ أن أذهب باتجاه محطة جمال عبد الناصر، وهي المحطة المركزية التي تتفرع منها جميع خطوط مترو الأنفاق، وتلتقي فيها. والنزول يجب أن يكون في محطة أنور السادات في ميدان التحرير، وهي المحطة التي تسبق محطة جمال عبد الناصر مباشرة.
قطعت تذكرة واحدة لمترو الأنفاق للذهاب فقط، فالعودة كنت أريد لها أن تكون بسيارة أجرة، إذ قدّرت أن يكون الظلام قد حلّ كليا. سبع جنيهات مصرية كان سعر تذكرة المترو. وركبت في أحد القطارات. أرشدني أحد الركاب إلى ضرورة النزول من هذا القطار بعد بلوغ المحطة الفلانية، ومن ثم استقلال قطار يقع على خط آخر، باتجاه حلوان، وأخيرا النزول في محطة أنور السادات، التي تسبق المحطة الرئيسة المسماة بإسم سلفه جمال عبد الناصر. لم تكن الحركة على أشدها في تلك الأمسية من إجازة يوم الجمعة في مترو الأنفاق. وقد سعدت لقراءة أسماء المحطات باللغة العربية أعلى أبواب القطار من الداخل وفي المحطات.
أخيرا وصلت إلى محطة أنور السادات. نزلت فيها وصعدت درجات السلالم الإسمنتية إلى ميدان التحرير، من حيث انطلقت باتجاه نهر النيل، حيث يقع كورنيش النيل وكوبري الخديو إسماعيل، المحروس في مستهلِّه بأسدين رابضين على كل جانب من رصيفيْ المشاة. قبل عبور الجسر، إنعطفتُ يمينا على كورنيش النيل واستمتعت بنور نهار ذلك اليوم ما قبل المغيب. لكنني قاومت رغبة شراء وأكل الترمس، لا لشيء إلا لأنني كنت مستعجلا للذهاب إلى برج القاهرة على الضفة الأخرى. والترمس هذا ضرورة لازبة من ضرورات زيارة كورنيش النيل. وكما كنت قد قرأت انتقادات لبعض مثقفي مصر تتناول رمي الناس لقشر الترمس في الشارع وعلى الأرصفة العامة في كورنيش النيل، فإنني قد عاينت هذا التصرف موضع انتقاد وغضب هؤلاء المثقفين. ولم يعجبني طبعا، ولكن مالي وما للناس.
على كوبري الخديوي إسماعيل، وقفت أستمتع بمنظر نهر النيل البديع في وقت ما قبل المغرب. وهناك صادف على ذلك الرصيف مرور رجل خمسيني ذي ملامح شرق آسيوية. حييته وسألته باللغة الإنكليزية إن كان صينيا. أخبرني الرجل أنه من كوريا الجنوبية. سألته إن كان راضيا عن زيارته لمصر، وإن كانت البلاد قد نالت إعجابه. أجابني باقتضاب بالإيجاب. وقفت على الرصيف لالتقاط صورة ذاتية بعدسة هاتفي تبرز نهر النيل العظيم خلفي. وهكذا كان. أكملت مسيري نحو الضفة الأخرى.
كان منظر النيل من أعلى الكوبري مثيرا للأشجان داعيا للتفكّر والتدبّر والتأمّل. في هذا النهر أودعت أم موسى التي أضحى قلبها فارغا أودعت فلذة كبدها نبي الله العظيم ورسوله موسى عليه السلام. هذا أطول أنهار العالم، وهو ينبع من إفريقيا الاستوائية ويخترق الصحراء المصرية، جالبا الحياة والحضارة العظيمة إلى وادي النيل الذي ما كان ليكون لولا هذا النهر العظيم البديع. وحين وصلت إلى الضفة الأخرى، وجدت أشخاصا يصعدون في زورق أسفل الكوبري لجولة ترفيهية في النهر العظيم. كانوا يركبون في المركب بالأهازيج والغناء بأصواتهم العالية. إشتهيتُ الركوب معهم. لكنني كنت مستعجلا إذ أنني كنت أريد الوصول إلى برج القاهرة قبل المغيب ورؤية القاهرة العظيمة من ذلك الارتفاع الشاهق قبل حلول الظلام.
(يتبع)