تربية وثقافة

ثلاثة أيام في مصر.. / الجزء (3)

د. بلال رامز بكري/ البرازيل

خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة الثالثة من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثارها، وبعض مناطقها.

كتب د. بكر: برازيلي أم مصري؟!
في تمام الساعة الثامنة صباحا، حضر الدليل السياحي الذي كان من المفترض أن يصطحبني إلى الأهرامات. وقد كنت في انتظاره في قاعة الاستقبال الرئيسة للفندق. كان رجلا قصيرا سمينا مربوعا، أسمر البشرة، في بدايات العقد السابع من العمر. بادرني الرجل بالسلام حين عرف أنني زبونه المنتظر وبالغ بترحيبه بأن ضمّن سلامه قبلة على كل وجنة، وقد رددت على التحية بالمثل. جلسنا قليلا في بهو الاستقبال نتعارف في ما بيننا، وقد ألمحت إلى غلاء الأسعار الذي فاجأني في مصر. فوافق الرجل على كلامي وأسف للأزمة الاقتصادية التي ترزح تحتها البلاد.
كنت متشوقا جدا للتجول في القاهرة للمرة الأولى في حياتي، ولتحقيق حلم لطالما راودني بالتعرف على العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وهي أهرامات الجيزة. صعدنا في السيارة السياحية من نوع “فان”، ولم يكن في المقاعد الخلفية من الركاب غيري. جلس المرشد السياسي في المقعد الأمامي بجوار السائق.
في الطريق الى الأهرامات أخذت أسأل رفيقيْ رحلتي من مصر الجديدة الى الأهرامات عن القاهرة ومصر وعما نشاهده في طريقنا. حين وصلنا الى محاذاة جبل المقطم وقلعة صلاح الدين، قال لي الدليل السياحي أن نهر النيل كان يصل عرض مجراه في قديم الزمان إلى ثماني كيلومترات، وأنه اليوم انحسر الى ما دون الكيلومتر الواحد كأقصى حد في منطقة القاهرة. وحين سألته عن عمق النيل قال أنه ليس عميقا جدا، وربما يصل الى خمس عشر مترا في القاهرة. ولم أتحقق من صحة هذه المعلومات.
في طريقنا الى الجيزة، مررنا بمحاذاة عشوائيات كثيرة، اخبرني رفيقاي أنها نشأت في العقود الأخيرة في أراضٍ مشاعية اجتاحها الفقراء وبنوا عليها مساكنهم المتواضعة. لم ألاحظ حين عبرنا الجسر فوق نهر النيل من القاهرة الى الجيزة، ولم يخبرني الرجلان بذلك. كان الجسر عاليا لدرجة تحجب الرؤية في الاسفل، وكذلك كان انقشاع الرؤية غير مساعدٍ بسبب الضباب الصباحي التموزي الذي يدعوه المصريون “الشبورة”. وفجأة ظهرت الأهرامات الثلاث الشامخة منذ آلاف السنين. قال لي الرجلان أننا سنصل الى الاهرامات عبر طريق ملتفّ، وذلك بسبب أشغال تعيق المرور في شارع الهرم المعروف. لذلك لم يتسنّ لي المرور في شارع الهرم الشهير، ورأيته من الأعلى بعدما أشار لي إليه الدليل السياحي استجابة لاستفساري.
بسبب قدومي من ساو باولو الى الدوحة فالقاهرة، مستخدما جواز سفري البرازيلي، الذي لم أمتلك يوما غيره كوثيقة للسفر، وذلك عائد الى جنسية والدتي البرازيلية اللبنانية التي ولدت في البرازيل لأبوين لبنانيين، فإنني عوملت على أساس انني برازيلي الجنسية. رغم كوني لبناني المولد والنشأة والجنسية الاساسية فإنني لم أحصل يوما على جواز سفر لبناني، ولطالما استخدمت جواز السفر البرازيلي. ورغم معرفة الدليل السياحي بأصلي اللبناني فإنه تعامل معي على أساس أنني برازيلي الجنسية والهوية. وحين مررنا على بوابة الدخول إلى منطقة الأهرامات، أجاب الدليل السياحي بأنني برازيلي كجواب عن سؤال موظفي الدخول. فما كان من أحد الموظفين إلا أن قال للدليل السياحي: زبونك مصري وليس برازيليا! فأردف الدليل السياحي أنني بحوزتي جواز سفر برازيلي. كل هذا وأنا لم أنبس ببنت شفة.
تعجّبت كيف ظنّ موظفو الدخول في الأهرامات أنني مصري الهوية رغم عدمي نطقي لأي كلمة في حضرتهم ورغم تأكيد الدليل السياحي أنني برازيلي. ما الذي فضح هويتي العربية؟ أهي ملامحي؟ أم هيئتي العامة؟ أم لغة الجسد؟ والبرازيليون شعب خليط من مختلف الأعراق والاجناس والألوان. فلا يوجد أي مظهر خارجي يميزهم. فهناك البرازيليون من أصول عربية وأوروبية وإفريقية وآسيوية ومن السكان الأصليين. فما الذي دفع موظفي الأهرامات الى التعرف الى هويتي العربية الاسلامية دون أن أنطق بحرف؟ هل لديهم دراية في علم الفراسة؟ أم هو الحدس الفطري؟ لم أحصل على إجابة شافية لتساؤلاتي، ولم أملك إلا أن أتعجّب وأتعجّب وأتعجّب!

مجزرة أَثَرية في مصر
مما هو بديهي ومعلوم أن آثار الحضارة المصرية القديمة، من أهرامات ومعابد وغيرها الكثير، هي التي تستحوذ على اهتمام العالم بأسره، وهي تشكّل ربما أبرز عامل استقطاب للسياحة في مصر. لكن لأسباب تضيق عن الحصر يتم، على النطاق العالمي، تجاهل الثراء الهائل في الآثار والمعالم التاريخية الإسلامية والعربية في مصر. وهي لا تقلّ ثراء وعجبا عن آثار الحضارة التي عُرفَت بالفرعونية، وإن كانت هذه التسمية محل خلاف وموضع جدل من حيث دقٌتها، ومن حيث إيفائها بالمعنى المطلوب. وبموازاة هذه وتلك، هناك أيضا المعالم والآثار القبطية التي لا تقلّ ثراء وعجبا عن الأخرى.
وفي طريقي الى الأهرامات، عاينتُ بالعين المجردة المجزرة الأَثَرية المفجعة التي تجري على قدمٍ وساق. إنها إبادة المدافن المصرية التاريخية الإسلامية التي تضم رفاة الخاصة والعامة من مسلمي مصر على مر العصور. تُسوَّى المقابر التاريخية بالأرض، وتضيع الى الأبد المعالم الإسلامية الأثرية والمعمارية الفريدة. هذا دون الحديث عن انتهاك حرمة الموتى وعن الاجتراء على تدنيس أماكن لها حرمتها وقدسيتها، وينبغي الحفاظ عليها أبد الآبدين، لا تهديمها والعبث بها.
الجرافات والآليات الأخرى تعمل على هدم تاريخ القاهرة وعلى اغتيال ذاكرتها وتنتهك بلا أي وازع أو رادع حرمة الموتى وتتجرأ على جلال الموت وتثلم مهابته. كل هذا يجري ولا يلقى أي اعتراض فعلي وفعّال. فالمشايخ والعلماء صامتون. والمثقفون والأدباء والفنانون لا يكاد يسمع صوتهم. ويسلّم الجميع بالأمر الواقع ويشهدون قاعدين على انتهاك الحرمات واغتيال ذاكرة الأحياء وبتر تاريخهم وماضيهم بقرارات فيها من العجب مما لا يخطر على بال.
قبل وصولي الى القاهرة، كنت قد قرأت على وسائل التواصل الاجتماعي عن هذه المجزرة المفجعة. لكن المرء لا يدرك هول ما يحصل إلا عندما يشاهد بأم العين كيف أزيلت مقابر برمتها وكيف أن أخرى في طريقها إلى الزوال الأبدي. ولا أعرف حجم الدمار لأنني لم أكن أعرف القاهرة من قبل، لكنني لم أملك إلا أن أحزن حزنا شديدا على هذا المصاب الأليم. فما هي قيمة الإنسان إن جُرِّد من ذاكرته وهويته؟ وأي حرمة تعود للأحياء إن انتهكت حرمة الموتى؟
وقبل القاهرة أزيلت المعالم التاريخية الإسلامية الحجازية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، تحت ذريعة إفساح المجال لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الحجاج والمعتمرين. وأزيلت معالم ومبان تاريخية لا تقدر بثمن لبناء الأبراج ومراكز التسوق، واستبدل الرخام الخالي من الروح بالمباني الحجازية بطرازها الفريد. ودُفنت للأبد الأحجار التي كانت شواهد على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحابته رضوان الله عليهم. وكأن ما يحصل اليوم في القاهرة هو استكمال لما بدأ في الحرمين الشريفين. وكأن ذاكرة المسلمين وتراثهم مطلوب استئصالهما واجتثاثهما من جذورهما.
ولا ننسَ ما حدث للحواضر العربية الإسلامية في الشام والعراق. ففلسطين قد عبث الصهاينة بمعالمها وآثارها العربية الإسلامية ودنسوها. وحواضر العراق وسورية قد فعلت فيها الأفاعيل في الحروب الأخيرة وتحت ظلم الحكومات الاستبدادية والاحتلالات الاستعمارية الوحشية.
وكأن محو الذاكرة العربية الإسلامية مطلب عالمي. وكأن كل أمم الأرض وشعوبها يحق لهم الاحتفاظ بآثارهم ومعالمهم التاريخية إلا أن يكونوا عربا أو مسلمين. فعندئذ تصبح معالمهم وآثارهم مباحة لكل مستبيح وعرضة لأفظع الجرائم التي من الممكن أن ترتكب بحق التاريخ والثقافة والذاكرة.
إن مصاب المسلمين والعرب لأليم. وإن نكبتهم لجلل. وإن نائبتهم لذات وطأة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فكل ما يُلهِم ويمد بالقيمة والمعنى ويشكّل زادا للروح وغذاء للفكر، فإنه أصبح من المطلوب إبادته وإزالته نهائيا من الوجود. وإن كنا لا ندري على وجه الدقة الدوافع الحقيقية لمن يقف وراء كل هذه الأعمال الشنيئة الشنيعة، فإننا نعلم أن الحزن عميق وأن البكاء لن يجدي نفعا وأن أوان التصدي لهذا العدوان الآثم قد فات. ولا نقول إلا عظّم الله أجر الأمتين العربية والإسلامية بما دُمِّر من آثار ومعالم. وكيف يسكت العالم المنافق عما يجري؟ فهذه ثروات إنسانية مشاعة لجميع الأمم ولا تخص العرب والمسلمين وحدهم.

الهرم الأكبر
أخيرًا تخطّيت عتبة بوابة منطقة الأهرامات وتوجّهت بخطى يملأها الحماس مع رفيقي الدليل السياحي. أخيرًا كنت وجهًا لوجه أمام ذلك الصرح التاريخي المهيب الذي لا تفصلني عنه إلا خطوات قليلة. كانت شمس الصيف المصري حارقة والحرّ شديدا في حوالي الساعة التاسعة صباحًا من ذلك الخميس الواقع في العشرين من تموز/يوليو من العام 2023. طلب مني الدليل السياحي أن أتوقف على واحدة من بضعة درجات السلّم الحجري الذي يؤدي إلى الهرم والتقط أول صورة لي في حياتي على أرض مصر.
كان الشعور بهيبة المكان يسيطر عليّ، وكانت الشمس الحارقة والحر الشديد يثقلان عليّ وعلى السيّاح الذين كانت تزدحم بهم منطقة الأهرامات في ذلك النهار. كنا قد اقتربنا من بوابة الأهرامات وفندق “مينا هاوس” عندما حاول الدليل السياحي والسائق إقناعي بعدم الدخول إلى الهرم الأكبر، مدّعيان أن هذه تجربة لا تستحق العناء وإضاعة الوقت. ثم جزم الدليل السياحي أنه يتعذّر الدخول الى الهرم الأكبر في ذلك اليوم، ولم يذكر السبب. قادني حدسي إلى الاستنتاج أن كلام الرجلين ليس صريحا وأنهما يحاولان التخلّص من زبونهما بأسرع وقت ممكن. فهذا عمل بقدر ما يجلب من المتعة للسياح فإنه لا مشاحة رتيب سئيم لكهلين يجريان وراء رزقهما ورزق عيالهما ولا ينالان إلا الكسب الزهيد. لسبب ما أجهله كنت منقبضًا من تجربة الدخول إلى الهرم، ولذلك تظاهرت بتصديق هراء الرجلين وحسمت أمري بأنني سأتجول في محيط الهرم الأكبر فقط، ولن أدخل في سراديبه ودهاليزه.
كنت مستغربا فتوري وعدم حماسي حيال الدخول إلى الهرم. أهي شمس تموز الحارقة؟ أم إرهاق السفر من ساو باولو إلى الدوحة فالقاهرة؟ أم إن ما رأيته في ساعاتي الأولى في القاهرة من الأزمة الاقتصادية والغلاء وتدمير المدافن الأثرية قد أرخى بظلاله على مزاجي، فجعلني أقرب إلى التشاؤم والكآبة والتكدّر؟ لا أدري. فقد كنت متعجّبًا من نفسي. قال لي الدليل السياحي، سأنتظرك تحت تلك المظلة التي عليها إعلان لشركة مرطبات عالمية وفيها بياعون يسترزقون ببيع قناني الماء البارد والمرطبات، على أن نلتقي بعد نصف ساعة عند المظلة. أجبت الدليل بأنني موافق.
لم يُغْرِينِ كل ما قد كنت قرأته في طفولتي ويفاعتي وشبابي عن الأهرامات في تجشّم عناء الدخول الى الهرم. لا أزال أذكر كتاب “الهرم الأكبر وأبو الهول” من “سلسلة الفراشة”، وهي سلسلة كانت تصدر أيام طفولتي ومراهقتي في لبنان. أذكر في ذلك الكتاب عن ما قرأته عن محاولات رجال الخليفة العباسي المأمون بن الرشيد لنقب الهرم الأكبر والولوج إليه. وكيف أن محاولاتهم تلك نجحت لكنهم لم يعثروا على الكنوز التي كانوا يظنونها مخبّأة في ذلك الصرح العجيب. وأذكر الرسوم والبيانات التي كانت تشرح دهاليز الهرم وسراديبه وما يسمى بغرفة الملكة. كل ذلك أذكره رغم مرور الزمن الطويل. وأضف الى هذا وذاك شغفي المزمن بكل ما يتعلق بمصر وتاريخها وحضارتها وثقافتها وأدبها. كل هذه الأمور عجزت عن تزويدي بالحماس اللازم للإقبال على الولوج الى الهرم الأكبر.
ورحت أتجوّل في محيط الهرم متعجّبًا ومندهشًا وممتلئًا بشعور الامتنان الكبير لأنني أخيرا قد أنعم الله عليّ بتحقيق حلم السفر إلى مصر ووطوء أراضيها. رأيت أن جزءا من السياح، من مختلف الأعمار والجنسيات والألوان والأعراق، كانوا يصعدون على أحجار الهرم من إحدى جهاته. أخذني الفضول أن أحذو حذوهم. ففعلت. وتبعت ذلك المسار الضيق على أحجار الهرم. لا درابزين ولا أي حواجز تقي السائرين من خطر السقوط من علوّ بضعة أمتار، هي ارتفاع ذلك المسار الواقع في أسفل الهرم الذي يبلغ ارتفاع ٤٥ مترا. وفي النهاية وجدت نفسي أمام مدخل يقف عليه حاجب، والسياح يهمون بالدخول والخروج منه. إنه المدخل المؤدي إلى باطن الهرم الأكبر! وها هو مفتوح والعمل يسير فيه بشكل معتاد. لقد كذب عليّ الدليل السياحي والسائق إذن! وها هو الدليل القاطع يفضح زيفهم! توجّهت الى الحاجب وطلبت الدخول، فقال لي عليك أن تقطع بطاقة خاصة للولوج الى الهرم الأكبر. وأعلمني أن البطاقة التي بحوزتي تخوّل زيارة منطقة الأهرامات وأبو الهول فقط، دون الولوج الى باطن الهرم.
وفجأة تحوّل الفتور حيال ولوج الهرم إلى حماس شديد. وعدت أدراجي بسرعة الى حيث كان ينتظرني الدليل السياحي في المكان المتفق عليه بيننا تحت مظلة الماء والمرطبات. وطّدت العزم على أن لا أدخل في أي شجار أو مشادة معه بعد أن تأكد لي كذبه بالدليل القاطع. وقررت أن أغلّب حلمي على غضبي وكظمت حنقي وغيظي. كان الدليل في المكان المتفق عليه، وعندما أخبرته أن معلوماته كانت مغلوطة وأن خطأ ما حدث، فإنني قلت ذلك بلهجة المتغافل الذي يريد أن يأكل العنب دون أن يقتل الناطور، كما يقول المثل الشعبي اللبناني. لم ينطق الدليل بكلمة اعتراض او امتعاض، ولربما كان ممتنًّا في سره أنني لم أواجهه بكذبه الصريح.
عدنا إلى كشك بيع البطاقات واصطففنا في الطابور الخاص ببيع تذاكر الدخول إلى الهرم. وتفاجأت أن وسيلة التعامل الوحيدة المقبولة لشراء التذاكر هي البطاقات المصرفية. فالجنيه المصري الورقي لا يساوي شروى نقير لشراء التذاكر، شأنه في ذلك شأن أي عملة أجنبية. لم يمر أي من بطاقاتي المصرفية البرازيلية على جهاز الدفع. واكتشفت لاحقا أن هذا عائد لعدم إخبار المسؤولين في الفرع المصرفي الذي أتعامل معه في البرازيل عن رحلتي الى مصر، وذلك لكي يتسنى لهم اتخاذ الإجراءات اللازمة للاستخدام الدولي لبطاقاتي. هنا استنجدتُ بالدليل السياحي المصري، فرضخ ربما كارها، وتكفيرا عن ذنبه بالكذب، واشترى لي تذكرة دخول الى باطن الهرم بمائة جنيه مصري، نقدته إياها شاكرا فور تسليمي تلك البطاقة السياحية لأعظم عجائب الدنيا السبع في العالم القديم والوحيدة الباقية بيننا الى زمننا هذا . ولم تكن الشركة السياحية التي تعاقدت معها في البرازيل لهذه الرحلة قد أخبرتني شيئا عن هذا الإجراء المعتمد في الأماكن السياحية في مصر في ما يخص شراء تذاكر الدخول.

القاهرة

داخل الهرم الأكبر
أبرزتُ التذكرة السياحية لحاجب دخول الهرم الأكبر، فأذن لي بالولوج إلى باطن تلك الكتلة الهندسية الهائلة المكوّنة من الملايين من الأطنان من الأحجار، والمبنية بشكل إعجازي، فدخلت مع الداخلين، وخضتُ مع الخائضين. الممر الأول في باطن الهرم هو ممر ذو سقف مرتفع بعض الشيء، يستطيع المرء فيه المشي قائمًا دون عناء يذكر. وكانت حركة الذهاب والإياب حثيثة في الاتجاهين، فذلك اليوم التموزي المصري كان مزدحما بالسياح في الأهرامات.
بعد ذلك الدهليز وصلنا إلى سرداب لا يستطيع المرء الصعود فيه إلا منحنيًا أو حبوًا كالأطفال الرضّع. ولا يتّسع إلا لشخص واحد بالعرض، لذلك فحركة الذهاب والإياب لم تكن ممكنة بيسر وسلاسة. أي أن على حركة الصعود أن تتوقف قليلا لكي يتيسر لحركة الهبوط الاستمرار. وكانت أرضية ذلك السرداب مزوّدة بقضبان خشبية مثبتة حيث موضع الأقدام، وذلك تفاديًا لحوادث الانزلاق.
أسعفني حماسي الشديد ولياقتي الرياضية المحدودة في تجاوز السرداب الأول دون عناء يذكر، مع أن العرق المتصبب كان قد بلّل قميصي وسروالي وملابسي الداخلية، وراح رأسي ووجهي يتصببان عرقًا. فكان دهليز آخر ومن ثم سرداب آخر. صعدنا في السرداب الثاني. وهنا اضطررت للتوقف مع الصاعدين لبرهة قليلة بدت في تلك الظروف كأنها الأبدية. توقفنا إفساحًا للمجال للنازلين لكي يكملوا طريقهم. وأخيرا وصلنا إلى دهليز عملاق. يبلغ ارتفاع سقفه أمتارا ليست بالقليلة وعرضه يسمح لبضعة أشخاص بالوقوف جنبا إلى جنب. في هذا الدهليز تجلت عجائبية وإعجاز الهندسة المصرية أكبر تجلٍّ بالنسبة لي. هذا الدهليز العملاق كان أعظم آية بالنسبة لي على العبقرية المعمارية المصرية، وقد أثار إعجابي وتعجبي أكثر بكثير من الأهرامات من الخارج.
الجدران المصقولة بعناية شديدة والرخام الصامد منذ آلاف السنين، والهيبة والرهبة في جوف ذلك الصرح العجيب المهيب، كلها أمور تملأ صدرك بشعور لا تعرف له وصفًا ولا تملك له تعبيرًا دقيقا. أهو الغوص في أعماق التاريخ؟ أم الإحساس بصغرك كبشر فانٍ أمام كل هذه العظمة التي خلقتها أيادي بشر فانين مثلك؟ أم أنه الخوف الطبيعي ورهاب الأماكن المغلقة الذي لا بدّ أن يأخذ بتلابيب أشجع الشجعان في تلك السراديب والدهاليز العجيبة الغريبة؟
في ذلك الدهليز العملاق كان التعب والإجهاد قد نالا مني ولا أبالغ إن قلت أنني كنت قد بلغت حد الإعياء. أحمد الله أنني أتمتع بصحة جيدة. لكن لياقتي البدنية هي لياقة أربعيني لا يمارس الرياضة بشكل منتظم. وربما لذلك حصل الإجهاد الذي تبعه إعياء ولهاث شديد. قررت تسجيل هذه اللحظة بواسطة هاتفي. وقمت فعلا بتسجيل بالصوت والصورة أوثّق بواسطته هذه اللحظة العجيبة. قال لي بعض السياح أن هناك سردابا أخيرا يفضي إلى غرفة الملكة حيث تنتهي تلك الزيارة. أخذت لحظات استخارة وفكّرت قليلا. آثرت أن أعود أدراجي عندما أخذت بعين الاعتبار إجهادي وإعيائي. خشيت أن يكون الصعود منحنيًا في السرداب الأخير شديد الوطأة عليّ، فيتضاعف إجهادي وإعيائي.
لم يكن النزول في السراديب والدهاليز سهلا بالنظر إلى إجهادي وإعيائي. تطلب الأمر مجهودا جسديا ونفسيا كبيرا مني. وأخيرا وصلت إلى ممر الدخول. صادفت هناك رجلا مصريا في العقد السابع أو الثامن من العمر. قال لي أنه قام بهذه الزيارة منذ بضعة عقود في سنين شبابه.
وهذه المرة الثانية التي يقوم بهذه المغامرة. قلت له أنني لبناني فرحّب بي ترحيبا صادقا عكسته قسمات وجهه المهذب الودود.
على باب الهرم الأكبر إيابا كنت قد بلغت غاية الإعياء، فتوقفت قليلا لأستريح في الظل، حتى أستعيد نشاطي وحالتي الطبيعية للخروج إلى شمس تموز الحارقة. وقد قدم لي الحاجب الماء لمساعدتي، فقبلته شاكرا. استرحت قليلا، ومن ثم عدت إلى المكان المتفق عليه مع الدليل في مظلة بيع الماء والمرطبات بجوار الهرم الأكبر. لم يخطر لي على بال أن هذه التجربة فيها كل هذه التفاصيل. ولم أتوقّع أن تكون مغامرة حقيقية بكل ما تنطوي عليه كلمة مغامرة من معانٍ.

(يتبع)

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى