تربية وثقافة

ثلاثة أيام في مصر../ الجزء (6)

الكاتب د. بلال رامز بكري

“المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة السادسة من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثارها، وبعض مناطقها.
كتب د. بلال بكري:

الحضارة المفقودة 

… قبل رحلتي إلى مصر، وعلى الشبكة العنكبوتية، كنت قد قرأت مقالة على مدونات الجزيرة للإعلامي الأستاذ أحمد صبحي أبو النجا، والذي يعمل مذيعا ورئيس تحرير لبرنامج “مع الحكيم” على قناة الجزيرة نفسها، عن نظرية جديدة لمهندس مصري شاب اسمه أحمد عدلي، تغيّر كل الثوابت والمعلومات المتداولة عن الحضارة المصرية القديمة. من الاستنتاجات الباهرة لهذه النظرية أن الحضارة المصرية القديمة التي بنت الأهرامات وغيرها من إعجازات المعمار المدهشة هي ليست حضارة الأسرات التي استخدمت الكتابة الهيروغليفية، وإنما على الأرجح حضارة يزيد عمرها عن اثنتي عشرة ألف سنة على الأقل. وهي حضارة كانت على درجة عالية من التطور والتقانة والتمكن من العلوم والمعارف والتكنولوجيا. وأن هذه الحضارة قد اندثرت بفعل كوارث ناجمة عن عواصف وحرائق شمسية ضربت الأرض في حوالي العام عشرة آلاف قبل الميلاد. ومن أكثر نظريات أحمد عدلي المدهشة أن منظومة أهرامات الجيزة هي محطة كبيرة لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو في هذا يستند إلى عشرات المراجع والأبحاث التي تصبّ في خانة دعم نظريته، التي ترفض بشكل قاطع استخدام الأهرامات كمدافن للملوك.
وبحسب نظرية أحمد عدلي، فإن الأهرامات أقدم بكثير من العمر الذي تتداوله الرواية التاريخية الرسمية والمقدَّر بأربعة أو خمسة آلاف عام. يقدّر هذا المهندس الشاب أن عمر الأهرامات لا يقلّ عن عشرة آلاف عام، وأنها قضت حقبة من تاريخها مطمورة تحت المياه بعد أن اجتاح البحر اليابسة المصرية. وعادت الأهرامات الى الظهور بعد انحسار مياه البحر. وهي بذلك نتاج حضارة مصرية أقدم من حضارة الأُسَر، أو ما يعرف بالحضارة الفرعونية. يقول أحمد عدلي أن مصر كانت موطن حضارة أطلانطس البائدة، والتي دمرتها كوارث طبيعية ضربت وادي النيل. وهذه الحضارة قد أتى على ذكرها الفيلسوف الإغريقي العظيم أفلاطون في كتاباته. ولكنه لم يوفق في تحديد مكانها. صاحبنا أحمد عدلي، بعد تقديم الأدلّة والبراهين من مراجع تاريخية طالعها وغاص فيها، يؤكّد لنا أن حضارة أطلانطس المفقودة كانت تقع في مصر وأنها التي بنت الأهرامات كمحطات ضخمة لتوليد الطاقة.
الرواية الرسمية لتاريخ مصر، بصوت كبير علماء المصريات الدكتور زاهي حواس، ترفض نظرية أحمد عدلي جملة وتفصيلا وتسخر منها. بالنسبة لي، أستطيع القول، بعد مشاهدة الحلقات الأربعة عشر على اليوتيوب أن نظرية هذا المهندس المصري الشاب هي نظرية مقنعة في كثير من جوانبها. الحلقات على اليوتيوب لاقت رواجا وتفاعلا كبيرين، بمئات آلاف المشاهدات. مجهود هذا المهندس الشاب مجهود مثير للإعجاب ويستحق الثناء، وتساؤلاته مشروعة ومحقة، وقد اقتنعتُ شخصيا بكثير من استنتاجاته. على أية حال، في مشاهدة هذه الحلقات متعة ذهنية وفكرية كبيرة. ومهما اقتنعتُ بنظرية أحمد عدلي، فإنني لا أملك الدليل القاطع على صحة نظريته. ويبقى اقتناعي مستندا إلى الحدس والتخمين.
عندما وصلنا الى منطقة الأهرامات، ذكرتُ شيئا للدليل السياحي والسائق عن نظرية أحمد عدلي. لم يجبني الرجل إن كان قد اطلع على تسجيلات المهندس الشاب، لكنه كان حاسما وحازما في رفضه للنظرية جملة وتفصيلا. بل أكثر من هذا إنه اتّهم صاحبَ النظرية بكونه يسعى للفت الانتباه ولجذب المشاهدات والإعجابات على وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى كلٍّ، فليس الغريب أن يرفض الدليل السياحي هذه النظرية التاريخية الجديدة التي تنسف كل الرواية الرسمية التقليدية، ولكن الغريب هو أن يقبل الدليل السياحي بنظرية كهذه. لذلك فإن رده كان جافًّا خاليا من الحماس، وكأنه يريد أن يتخلص من النقاش بأسرع وقت وبأي طريقة. وبما أنني لم أشأ أن أدخل مع الرجل في أي جدال، فإنني تظاهرتُ بالاقتناع بكلامه ولم أَزِدْ كلمة على الموضوع.
وربما بعد أن يمضي عصرنا هذا قد تأتي عصور لاحقة تصبح نظرية أحمد عدلي ومؤيديه من الحقائق المسلَّم بها، وتصير الرواية الرسمية التقليدية عن كون الأهرامات مدافن مثارا للسخرية والتندّر. وهذا دَيْدَن التاريخ، وهذه سنّة الحضارة. تأتي حقائق عصر ما لتنسخ حقائق ما سبقه من عصور. هذا لا يعني فضل اللاحق على السابق دائما. فليس الأحدث هو الأصلح والأصدق دائما. لكن الحضارة لا تقوم فقط على دول تدول وممالك تندثر، ولكنها منظومات قِيَمية تعلو وأخرى تهبط. وتبقى الحقيقة نُصُب الأعين والهدف الأسمى.
وأيًّا يكن من شأن الشاب أحمد عدلي مع خصمه وغريمه شيخ مشايخ علماء الآثار المصريين وكبيرهم المبايَع على ولايتهم العامة وإمارتهم المطلقة البروفسور زاهي حواس، فإنّ مما لا مراء فيه أن هذه الحضارة المصرية القديمة هي حضارة عظيمة باهرة. سواء أكانت الأهرامات محطات متطورة ومبتكرة لإنتاج الطاقة، أم كانت مدافن للملوك العظماء، فإن عجائب هذه الحضارة لن تنقطع ولن تنقضي، وستظل تربة خصبة لنظريات العلماء ولأقلام الأدباء ولإلهام العباقرة والفنانين.

جزيرة الذهب
أخيرًا قفلنا عائدين من الأهرامات باتّجاه مصر الجديدة، إلى شارع العروبة، حيث يقع فندق البارون، الذي كنت نزيله في مصر. عاتبتُ الدليل السياحي والسائق لأنهما لم يُرِيَاني موقع نهر النيل حين عبرنا من القاهرة باتجاه الجيزة ذهابًا في الصباح الباكر. لذلك طلبت منهما، في تلك الظهيرة، أن نتوقّف إيابًا لدى عبورنا الجسر الذي يعلو نهر النيل. قالا لي أن الأمر ربما لن يكون ممكنا لأن التوقف على ذلك الجسر قد يعرّضهما لغرامات، لأنهما زعما أن التوقّف هناك يعتبر مخالفة مرورية.
لم ألحّ كثيرا عليهما، وعاتبتهما بلطف ولين، وطلبي أيضا لهما بالتوقف كان برفق. وأخذ السائق يدوس على مداس السرعة، وراحت سيارتنا السياحية المكيّفة تنطلق من برّ مصر الغربي إلى برّها الشرقي، في تلك الظهيرة الحارّة من صيفٍ مرتفع الحرارة. وفي مكان ما من طريق الإياب خفض السائق سرعة السيارة وانعطف يمينا وركن السيارة على رصيف جانبي. قال لي الدليل السياحي: هيّا بنا، فإن طلبك قد استجيب. وطلب مني أن يكون توقفنا سريعا ولم يذكر الرجلان شيئا عن غرامات المخالفات ولم تظهر عليهما أي أمارة من أمارات القلق، ولم تظهر أي دورية للشرطة لتنغّص علينا وقفتنا تلك.

الكاتب في المتحف المصري

نزلت من السيارة ونزل معي الدليل السياحي. تقدمت عدة خطوات على الرصيف باتجاه الدرابزين، فإذا المنظر مهيب خلّاب. على يميني، حين أقف ناظرا باتجاه الجنوب، أي على يسار مجرى النيل، تقع أرض تغلب عليها الخضرة مع القليل من المباني في العمق، أما على يساري، أي على يمين مجرى النيل، فتقع القاهرة المحروسة، غابةً من المباني من مختلف العصور، وشبكةً رهيبة من الطرقات والشوارع والجسور، واكتظاظًا سكّانيًا ملحوظا. أما علوّ الجسر (أو الكوبري، كما يقول إخواننا المصريون) فشاهق يزيد من روعة ورهبة المشهد. ويبدو النيل في الأسفل بكل بهائه وهيبته الأسطورية.
عرض عليّ الدليل السياحي أن يلتقط لي بعض الصور في ذلك المشهد الرائع. قبلت مسرورا وشاكرا. أخذ الرجل لي بعض اللقطات بخلفية ضفة النيل اليسرى الخضراء ولقطات أخرى بخلفية الضفة اليمنى التي يكتسحها العمران. سألت الرجل عن اسم الموقع الأخضر البهيج على الضفة اليسرى لنهر النيل. فقال لي إنها “جزيرة الذهب”.
وقع الإسم مني موقعا حسنا واستبشرت به خيرا، وتفاءلت بذلك النهار وبتلك الرحلة الى مصر. كان إعلام الرجل إياي بذلك الإسم الحسن الأنيق يضاهي سماعي لقصيدة شعر شجية أو لنغمٍ حنون يثير الأشجان ويطلق لها العنان. وقد تعجبت أن تكون تلك البقعة من اليابسة جزيرة وسط نهر النيل العجيب المهيب الرهيب. فلم أكن أرى في ذلك الموقع إلا جانبا منها، ولم يكن من الممكن الوقوف على حجمها الحقيقي. ولعلي لاشعوريا قد عملت بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام بالتفاؤل وباعتبار الحسن من الأسماء في بعض الظروف والمواقف فألا حسنا طيبا.
لا أنكر أنني ترددت بادئ الرأي في تصديق كلام الدليل السياحي عن جزيرة الذهب هذه. فإن هيئة الرجل العامة كانت توحي بأنه من مرتزقة السياحة وليس من هؤلاء الناس الشغوفين بعملهم، المحبين لكل ما يتعلق به. هذا لم يشجعني على طرح الأسئلة عليه بكثرة ولا على التعمّق في المواضيع. كنت أكتفي بإجاباته المقتضبة، ولم أكن أتوسع كثيرا معه في الكلام.
لاحقًا، أجريت بحثا بسيطا على الشبكة العنكبوتية، فتبيّن من خلال موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت، أن كلام الرجل صحيح صادق وأن معلوماته دقيقة بشأن اسم الجزيرة. فجزيرة الذهب هي من الجزر المستطيلة الكبرى في نهر النيل، وتتبع إداريا لمحافظة الجيزة. تعتبر محمية طبيعية ويقطنها ما يزيد عن عشرة آلاف نسمة معظمهم من الفلاحين الأميين. وهناك فيها بعض المشاريع السياحية وبعض القصور والعمارات. وقد كانت في حقبة تاريخية معينة إقطاعا لبعض الأمراء المماليك. وقد كانت الجزيرة قديما أقل مساحة منها اليوم. فجزيرة الذهب الحالية هي نتيجة لاندماج جزيرتي “الذهب” و”صابوني”، اللتين صار اسمهما معا جزيرة الذهب. كما أن جزيرة الزمالك هي نتيجة لاندماج جزيرتي أروى وحليمة، على سبيل المثال. وكل هذه المعلومات مستقاة من ويكيبيديا.
لله درك يا مصر، فعجائبك لا تنفد، وإعجازاتك تتوالى. لكن أين هي العين التي تبصر؟ وأين هي البصيرة التي تدرك؟ وأين هو الإنسان الذي يدرك أن أثمن الكنوز وأغلى المذدخرات ليست ذهبا ولا فضة ولا عمرانا مهما بلغ من شأو في الكمال والإعجاز. جزيرة الذهب أغلى من كل ذهب العالم ولو لم يكن فيها قيراط واحد من ذهب. ونهر النيل من أعجب العجائب ولو زالت عن ضفتيه كل الآثار والمعابد والأوابد والعمارات والجسور والكباري.
تزول المباني وتبقى المعاني. تندثر الحضارات والممالك والأمم، وتبقى الروح خالدة تالدة لا يحيط بكنه سرمديتها محيط ولا يدرك غور أسرارها وألغازها مدرك.
كم كنت محظوظا برؤيتي لجزيرة الذهب. صحيح أنني لم أكسب ذهبا ولا فضة ولا رصيدا مصرفيا أحسد عليه. لكنني كسبت رؤيا هي الزاد للمعاد والذخر ليوم الشح والقلة والكنز الذي لا ينفد، والثروة التي لا تزول ولا ينقص منها الإنفاق شيئا، ولا يخشى عليها من اللصوص والسارقين.

في المتحف المصري
وصلنا إلى فندق البارون بمصر الجديدة في أولى ساعات الظهيرة. كان الدليل السياحي قد طلب مني في منطقة الأهرامات بإكرام السائق بالبقشيش، فوعدته خيرا وخمّنت أنه يريد الإكرامية لنفسه أيضا. إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الخدمات السياحية التي حصلت عليها كانت مدفوعة الثمن مسبقا، وبالتالي فلا حاجة لأي تكاليف إضافية، وأن الإكرامية تعود لتقدير الزبون ورغبته في ذلك، فلم يكن في محله طلب الدليل السياحي. وإن كنت قد أضمرت في نفسي أنني سأقدّم البقشيش للرجلين ولكن في نهاية الجولة. وكان استقبالي في المطار وجولة الأهرامات وفي الختام توصيلي الى المطار مجددا للمغادرة هي الخدمات المتفق عليها مع الشركة السياحية من ساو باولو. أما أي خدمات أخرى وأي جولات أخرى فتخضع لقائمة أسعار حسب المَعْلَم السياحي المختار، ويتم الاتفاق عليها بين الزبون وموظفي الشركة مباشرة. كانت أسعار القائمة كلها بالدولار الأميركي، وقد اعتبرتها باهظة الثمن، او على الأقل كنت أتوقع أنها أرخص من ذلك بكثير. ولهذا ولأسباب أخرى قررت أن تكون جولاتي السياحية في القاهرة كلها على عاتقي ومسؤوليتي واستغنيت عن خدمات أي شركة سياحية.
تركني الرجلان على باب الفندق ليس قبل أن يأخذ كل منهما إكراميته ورقة من فئة المائة جنيه مصري لكل واحد منهما. ودّعاني شاكرين باسمين وتمنيا لي حظًّا سعيدا في إقامتي في مصر. حييت رجال الأمن المناوبين على مدخل الفندق وصعدت إلى غرفتي مباشرة، حيث كان الاستحمام بالماء الساخن في مغطس الغرفة علاجا فعّالا ضد إرهاق الصباح وإجهاده، وتطهيرا للجسد وإنعاشا للنفس وإكراما للروح. أخذت بعد ذلك قسطًا من الراحة وقررت التوجّه إلى زيارة المتحف المصري في اولى ساعات العصر.
طلبت سيارة أجرة من موظفي الفندق، وتوجهنا نحو المتحف المصري. إكتشفت في طريقي الى المتحف أنه يقع في ميدان التحرير. وقد كنت أرغب في زيارة هذا المَعلَم المهم أيضا. ففرحت لذلك وقلت أضرب عصفورين بحجر واحد. على شباك تذاكر المتحف، حصل معي موقف مشابه لما حصل في الأهرامات. لا يُتقاضى ثمن تذكرة الدخول إلا بالبطاقة المصرفية. وكان هناك تعرفتان مختلفتان للدخول: تعرفة مخفّضة واحدة للمصريين والعرب، وتعرفة بأضعاف تلك للأجانب. عرّفت عن نفسي بأنني لبناني، وبالتالي، تحقّقت لي التعرفة المخفّضة. لكن بطاقاتي المصرفية البرازيلية لم تسعفني في دفع ثمن التذكرة على الآلة المصرفية. فأحالتني الموظفة المحجّبة التي حاولت القبض مني إلى زميلها على الشباك المجاور. حاولت مرة أخرى استخدام البطاقة المصرفية مع هذا الموظف، من دون جدوى أيضا. فقلت له: ما العمل؟ قال لي: نادِ على اسم “حسين” حيث يقف ذلك التجمع من البشر.
ناديتُ بصوتٍ عالٍ جهوري “يا حسين”. مرة. مرتين. ثلاث مرات. فأقبل نحوي رجل أسمر طويل في العقد الرابع أو الخامس من العمر، وسألني ماذا أريد. فقلت له أرجو أن تكلّم موظّف شباك التذاكر. تفاهم الرجلان في ما بينهما بالإيماءات ولم يتبادلا أي كلمة. فقال حسين بلهجة حاسمة أشبه بأمر عسكري: صحيح أن التعرفة ستون جنيها للمصريين والعرب، ولكن سنراعي إخواننا اللبنانيين بمائة جنيه مصري. وهكذا أخرج بطاقته المصرفية وأعطاها لموظف شباك التذاكر. وقمت بإعطاء حسين هذا ورقة نقدية من فئة المائة جنيه مصري. رغم شعوري بالابتزاز والاستغلال، اعتبرت أن الصفقة رابحة، ذلك أن مبلغ المائة جنيه ظل أقل بكثير مما يدفع الأجانب لزيارة هذا المتحف العظيم. وأضف إلى هذا، أن مدة إقامتي في مصر كانت قصيرة جدا، فلم أكن أملك ترف التفاوض والمساومة. كان عليّ أن أكون سريعا وحاسما في قراراتي، متقبلا لما أراه من خسائر.
مبنى المتحف المصري هو بحد ذاته تحفة من التحف المعمارية لما كان يعرف بالزمن الجميل في أوروبا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. إنه مبنى جليل مستطيل الشكل بطراز كولونيالي أوروبي، مطلي من الخارج بلون الزهر، وتبرز على أعلى جدرانه بالخارج كتابات بلغة مكتوبة بأحرف لاتينية لم أستطع التعرف عليها إن كانت انكليزية أو غير ذلك. ذكّرني الطراز المعماري لهذا المتحف بالطراز المعماري لمبنى مسرح أمازوناس في مدينة مناوس البرازيلية، عاصمة ولاية أمازوناس، في قلب أدغال الأمازون، على الضفة الشمالية لنهر “نيغرو”، أعظم روافد نهر الأمازون العظيم. بني ذلك المبنى الأمازوني في أواخر القرن التاسع عشر، وفقا لطراز “الزمن الجميل”، وهو الطراز الكولونيالي السائد في تلك الحقبة الاستعمارية من تاريخ العالم.

توت عنخ آمون

ودخلتُ الى المتحف. فإذا بي بإزاء عجائب أخرى من عجائب الحضارة المصرية لا تقل إعجازا وعبقرية عن الأهرامات. فتلك التماثيل الضخمة المنحوتة ببراعة وكمال وإحكام على تلك الكتل الحجرية الرخامية الهائلة هي آثار لا تملك أن تكون محايدا حيالها. لا بد أن يأخذك الإعجاب والتعجّب والإندهاش، وأن يمسك بتلابيبك الذهول. ما يدهش في هذا المتحف المهول ليس فقط الكيف والنوع والجودة، ولكن الكمية. فهذا متحف يضم في أروقته الآلاف المؤلفة من القطع الأثرية التي لا تقدَّر بثمن من مختلف الأحجام والعصور. من التماثيل إلى النواويس إلى الآثار الأخرى التي لم أطق لها حصرا، والتي سرعان ما أقررت بعجزي عن الإحاطة بها كلها في ذلك الوقت الضيّق.
نظرا لضيق الوقت المتاح لي، فإنني قررت أن ألقي نظرة سريعة وشاملة على محتويات المتحف، وأن أتوقف لوقت أطول أمام ما يثير انتباهي أو إعجابي. والملفت أن الكثير من تلك الآثار من تماثيل ونواويس وغيرها هي من المسموح لمسه من قِبَل الزوار. فلا سواتر زجاجية أو غيرها من الحواجز او التحذيرات لمنع اللمس. أعترف أنني لم أقاوم رغبتي في لمس تلك الآثار الخالدة. أردت أن أحسها بيدي أيضا وليس فقط ببصري. وكان المتحف يعجّ بالزوار في ذلك الخميس الذي صادف إجازة رأس السنة الهجرية التي تتصل بإجازة ثورة الضباط الأحرار في نهار الأحد الثالث والعشرين من تموز. مما يعني أنني وصلت الى مصر أثناء إجازة تضم أربعة أيام: خميس إجازة رأس السنة الهجرية، وجمعة وسبت إجازة نهاية الأسبوع في مصر، والأحد ذكرى ثورة الثالث والعشرين من يوليو.
أثناء تجوالي في الدور العلوي من المتحف، لفتت انتباهي غرفة مظلمة بعض الشيء يتقاطر الزوار في الدخول إليها ويتجمعون حول بابها أكثر من أي موقع صادفته في المتحف. أخذني الفضول إلى تلك الغرفة بسرعة. ودخلت مع الداخلين. وما رأيته كان آية إعجازية أخرى من آيات الحضارة المصرية العظيمة. كان القناع الذهبي البديع الرائع لمومياء توت عنخ أمون معروضا في صندوق زجاجي يمنع الاقتراب منه كثيرا. غني عن القول أن هذا القناع البديع البهي مصوغ من الذهب الخالص. والإضاءة مركزة في ذلك الصندوق الزجاجي، في حين أن باقي الحجرة مظلمة. وعندما رفعت كاميرا هاتفي لالتقاط صورة، أخبرني موظف تلك الحجرة بحزم عن حظر التقاط أي صورة هناك. بجوار صندوق قناع توت عنخ أمون، في نفس تلك الحجرة، هناك صندوق زجاجي أكبر حجما، ومُضاء أيضا، ترقد في داخله رائعة أخرى من روائع الحضارة المصرية، وهي اللباس الذهبي لجسد مومياء توت عنخ أمون. غني عن القول أيضا أن هذا اللباس البديع العجيب مصوغ من الإبريز الخالص هو الآخر. قناع المومياء ولباس جسدها تزينهما نقوش تضيف بهاء إلى بهائهما وإعجازا إلى إعجازهما. خرجت من تلك الحجرة وأنا ثمل من عجيبة أخرى من العجائب المصرية.
بعد أقل من ساعتين من التجوال في أروقة وممرات وحجرات ذلك المتحف العجيب المهيب، الذي لم أرَ في حياتي شيئا يضاهيه ولو من قريب، قررت الخروج، خاصة بعد معاينة القناع واللباس الذهبيين الناصعين البديعين لمومياء الملك توت عنخ أمون. اعتبرت أن تلك المشاهَدة كانت ذروة مشاهداتي في ذلك المتحف، ولن تقع عيني فيه على أي أَثَر من الممكن مقارنته به، رغم أن الإعجاز والعجائبية يملآن المكان برمته ويجعلانه يفيض بهما.
في مخرج المتحف هناك محل يبيع الهدايا التذكارية للسياح. وهذا أمر من المفترض أنه متوفر بكثرة في كافة المرافق السياحية الشهيرة في العالم. إلا أن الجديد الذي لفتني في هذا المحل، هو وجود مكتبة خاصة بالحضارة والتاريخ المصريين تضم كتبا بمختلف لغات العالم الأكثر رواجا. وجدت من بينها كتبا باللغة البرتغالية. رغم إعجابي بكثير من الكتب ورغبتي في اقتنائها، فإن غلاءها بالنسبة لي مع خوفي على الوزن في حقائبي لدى المغادرة حالا دون شرائي لأي كتاب.
(يتبع)

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى