تربية وثقافة

ثلاثة أيام في مصر../ الجزء (7)

الكاتب د. بلال رامز بكري/ البرازيل

“المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة السابعة من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرّة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثاره، وبعض مناطقه.
كتب د. بلال بكري:

ميدان التحرير
.. تأسّست مدينة ساو باولو في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير من العام 1554، أي بعد نصف قرن من التاريخ الرسمي لاكتشاف البرازيل على يد البحّار البرتغالي بيدرو ألفاريس كابرال، في الثاني والعشرين من نيسان/أبريل من العام 1500. وكان هذا البحّار يعمل لحساب التاج البرتغالي. وقد أدّى هذا الاكتشاف لاستعمار البرازيل ما يزيد عن ثلاثة قرون من قِبَل التاج البرتغالي. وكانت مدينة ساو باولو في بداية أمرها قرية صغيرة أسسها الآباء اليسوعيون كقاعدة لتنصير السكان الأصليين في المرتفعات التي تلي مباشرة الساحل الجنوبي للبرازيل غربا. وأسسوا في ساحتها مدرسة وكنيسة. وقد أصبح بمرور الزمن تاريخ الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير عطلة رسمية في مدينة ساو باولو، احتفالا بذكرى تأسيسها.
أذكر جيّدا نهار العطلة ذلك في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير من العام 2011. قررت في ذلك اليوم أن أعمل طبيبا مناوبا لاثنتي عشرة ساعة في مركز الطوارئ في وسط مدينة ساو باولو، قريبا جدا، أي على بعد خطوات، من ساحتها الرئيسة المسماة “سي”، حيث تقع كاتدرائيتها الأم، وقريبا جدا أيضا من ساحة المدرسة حيث وضع الآباء اليسوعيون حجر الزاوية لهذه المدينة التي أعطوها اسم القديس بولس. فكلمة “ساو” بالبرتغالية تقابلها كلمة سانت بالفرنسية، أي قديس. اما كلمة “باولو” فهي المرادف البرتغالي لاسم “بولس”. لذلك فساو باولو هي مدينة القديس بولس.
كنت أحب النوبات في الطوارئ في أيام الإجازات لسببين: أولا لأن حركة الزبائن عادة ما تكون أقل بنسبة لا يستهان بها من الأيام العادية، وثانيا لأننا أحيانا، كأطباء مناوبين، كنا نكسب في بعض الإجازات الرسمية ضعف ما نكسبه في الأيام العادية. ولا أذكر إن كانت إجازة ذكرى تأسيس ساو باولو في ذلك العام تتيح ذلك المكسب الإضافي. لكن يكفي أن حركة الزبائن والمرضى تكون أخفّ من الأيام العادية المرهقة ليكون مزاجي رائقا ومعتدلا، ولأعمل في تلك النوبة بهدوء وسرور. وكان مركز الطوارئ ذلك في نقطة حساسة جدا في وسط المدينة، من حيث نوعية الزبائن والمرضى. فكان هناك المشرّدون والمتسوّلون ومتعاطو المخدرات ومرضى السل والأيدز وغيرهم الكثير ممن نكب بهم الزمان والإنسان، ولسبب ما كانت كثافة وجودهم في وسط المدينة القديمة أكثر بكثير من سائر أحيائها. كان كذلك وسط المدينة المأوى للمهاجرين المنكوبين من مختلف جنسيات العالم، من أفارقة وعرب وآسيويين وأميريكيين لاتينيين وحتى أوروبيين. ولم أكن أعلم قبل عملي في ذلك المركز أن ساو باولو تحتضن هذا الكم الهائل من المهاجرين البائسين من مختلف الجنسيات. لذلك فإن النوبة في مركز الطوارئ ذلك بشكل خاص كانت مستنزِفة لأعصاب الطبيب الشاب الذي كنته حينذاك أكثر من أي نوبة في أي طوارئ أخرى. فالحركة نوعًا وكمًّا كانت تفرض تحديا كبيرا على الجهاز العصبي وعلى الصحة النفسية للطبيب المناوب.
كان يبدو أن تلك النوبة من ذلك العام في إجازة عيد ساو باولو، ستمرّ كغيرها من نوبات الطوارئ في الإجازات، بلا أي شيء يذكر. فالحركة كما هو متوقع في نوبات الإجازات الرسمية كانت خفيفة، والمدينة بأسرها يرين عليها السكون. لكن حَدَثًا تاريخيا جعل تلك النوبة بالذات ذكرى لا أنساها وأستحضرها كلما سنحت الفرصة. لم يكن الحدث له علاقة بساو باولو ولا بالبرازيل ولا بالقارة الأميركية كلها، بجنوبها ووسطها وشمالها. كان الحدث هناك، في الجانب الآخر من العالم، على ثرى مصر المحروسة، في وسط عاصمتها الأبية القاهرة، على أرض ميدان التحرير تحديدا.
بعد الشرارة الأولى للحركة التاريخية التي اكتسبت الاسم الرومنسي الحالم الجميل “الربيع العربي”، في كانون الأول ديسمبر من العام 2010، في تونس الخضراء إثر إضرام الشاب محمد البوعزيزي للنار في جسده احتجاجا على مصادرة بسطته المتواضعة من قِبَل الشرطة في الشارع، انتقلت عدوى الثورة إلى مصر. وكان ميدان التحرير مركز التجمع الرئيس والنقطة الأولى لانطلاق ثورة يناير المجيدة التي ألهبت حماس العرب وأعادت لهم الأمل.
أذكر جيدا أنني نسيت نوبتي وتركت أي اهتمام آخر في ذلك الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، ورحت أتابع أوّلا بأول الأخبار السارّة والحماسية الآتية من ميدان التحرير في وسط القاهرة. كان اسم “ميدان التحرير” مجهولا عندي قبل اندلاع هذه الثورة. لكنه سرعان ما صار اسما حميما وعزيزا، وصارت الثورة التي انطلقت من أرضه مُعَوَّلًا لآمال عريضة بالتحرير للعرب من المحيط الى الخليج: تحريرهم من طغاتهم أولا ومن ثم تحريرهم من الأمبريالية. والاثنان صنوان لا يفترقان: الطغاة يستجلبون الهيمنة الأجنبية الأمبريالية، وهذه بدورها تحمي الطغاة وتمدّ في أعمار عهودهم الظالمة وتضمن بقاءهم.
إلتهبتُ بحماس غير طبيعي في تلك النوبة الطبية، وامتلأت برجاء كبير بأن الوطن العربي بأسره سيتحرر. وليس صدفة أن تكون الثورة التي جاءت لتحريره قد انطلقت من ميدان يحمل “التحرير” كإسم علم. وانتقال الثورة من تونس إلى مصر، قائدة العرب ومهوى أفئدتهم والشقيقة الكبرى لهم جميعا، يعني أن الربيع العربي سيثمر زهورا ورياحين، وسيكون النصر حليفه. وجدتني منذ اللحظات الأولى لثورة يناير ليس مجرد مناصر لها، وإنما متحمس حماسا شديدا.
نجحت الثورة في تونس في إزاحة الرئيس زين العابدين بن علي، وبعد ذلك نجحت ثورة يناير في الإطاحة بالرئيس حسني مبارك. وصارت الشعارات التي رُفِعَت في ميدان التحرير وانطلقت بها الحناجر عاليا شعارات كل العرب التائقين الى التحرير والتحرر وإلى العيش بكرامة. صار شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” ملهِما لكل الشباب العربي وباعثا للرجاء والأمل. أذكر أن العقد الأول من الألفية الثالثة كان قد استُهِلَّ بنقاشات حول خلافة الحكام العرب الديكتاتوريين في الجملوكيات العربية. وراحت التكهنات والتنظيرات تأخذ مداها على صفحات الجرائد والمجلات وعلى الفضائيات، إلى أن جاء الربيع العربي أخيرا كرجاء حقيقي لكل الشعوب العربية.
لم أكفّ عن متابعة أخبار ثورة يناير بعد تلك النوبة. ولم أكف عن متابعة الأخبار في كل الوطن العربي. وتابعت بأسى وأسف انحسار تلك الحركات الثورية المجيدة وعودة الديكتاتوريات الى تسلم أنظمة الحكم. لكن تأخر الربيع عن إزهاره لا يعني أنه لن يزهر بتاتا. فهذا الزرع الطيب الكريم لا بد أن يؤتي أكله يوما ما. وصار “ميدان التحرير” بالنسبة لي رمزا ومَعْلَما أرجو زيارته يوما ما إن أتيحت لي الفرصة.
بعد ما يزيد عن اثني عشر عاما من ثورة 25 يناير، أخيرا وجدت نفسي في ذلك الميدان العزيز والحبيب: “ميدان التحرير”. فرغت من زيارة المتحف الوطني وذهبت للتجول في ميدان التحرير. المسلّة المصرية العملاقة تقع في وسط الميدان الدائري، كأنها نقطة الارتكاز، وفي أسفلها تماثيل لمجموعة من الكباش الرابضين كأنهم يحمون مصر من كيد الأعادي، وكأنهم يرمزون إلى شجاعة هذا الشعب الطيب العظيم. إقتربت قليلا من الحديقة التي تقع وسط الميدان، وتقدمت نحو ممر بغية التجول في أرجاء حديقته. إنتهرني رجل لم أكن ألحظ وجوده هناك، قائلا بأن التجول في الحديقة ممنوع، وأن عليّ الاكتفاء بالسير على الرصيف الدائري. كان الرجل من طاقم الامن المولَج بحراسة الحديقة وكباشها ومسلّتها الشامخة.

ميدان التحرير وسط القاهرة

لاحقًا سألت في الميدان عينه موظفي أحد المطاعم اللبنانية المقابِلة مباشرة للمسلّة من الجهة الشمالية عن سبب منع المارّة من الدخول الى الحديقة والاقتراب من تماثيل الكباش. كان جواب الفتى أن هناك خشية لدى الدولة من أعمال تخريب وتكسير وبلطجة قد تتعرض لها منشآت هذا الميدان العظيم. وكيف لا يكون عظيما ميدان كان مهد ثورة من أعظم ثورات ألفيتنا هذه وأكثرها إلهاما. أعترف أنني لم أصدّق جواب الفتى، ليس لأنني أتهمه بالكذب لا سمح الله، فقد يكون هذا ما سمعه وصدّقه، ولكن لأنني لا أصدّق هذه الرواية من أساسها الى رأسها. لا غاية من حراسة ميدان التحرير إلا منع انطلاق أي حركة مشابهة لثورة 25 يناير. لا يريد الطغاة لميدان التحرير أن يكون ميدانا للتحرير بحق، لكن هذا الميدان البهي البديع يأبى أن يكون إلا وفيًّا لاسمه. وأخيرا تيسر لي تحقيق حلم لطالما كان يراودني: زيارة مهد ثورة 25 يناير التي عشقتها وتحمست لها حماسا شديدا.

ميادين
“الميدان فسيح ورجل الميدان غير موجود، فأحوال الخلق ليست مثل ما تعرفها، ظواهرهم تشبه طواهر الأولياء لكن ليس في باطنهم رائحة الإسلام”.
هذا القول المنسوب إلى الصوفي العظيم الشاعر والمفكّر مولانا جلال الدين الرومي يأتي على ذكر الميدان. ولعلّه أراد هنا ميدان الجهاد في الحرب والسلم، وفي العلم والعمل. ولعلّه أراد المعنى الرمزي المجازي، فأشار إلى خلوّ الميدان من الرجال المجاهدين، وليس إلى خلوّه مطلقا منهم. وما إن تذكر كلمة “الميدان”، حتى تتبادر إلى الذهن معاني تفيد المبارزة والمسابقة والاقتتال. فمن “ميدان المعركة” إلى “ميدان سبق الخيل” إلى ميادين العلوم والآداب والفنون كافة حيث يتناطح الأساطين والجهابذة ويتجادلون ويطعن بعضهم بعضا ويلمز بعضهم بعضا ويتباغضون ويتحاسدون. إذًا، فما إن يذكر ميدانٌ من الميادين، حتى تتسلل إلى العقل الباطن معاني الكفاح والنضال والمجالدة والمجاهدة.
ولست أدري ما السبب الذي دفع إخواننا في مصر إلى استخدام مصطلح “ميدان” في تسمية ساحاتهم العامة في مدنهم. فلا يكاد المرء يقع على لفظ “ساحة” في الإشارة إلى أي مرفق من هذه المرافق المدنية العمرانية العامة. فمن ميدان التحرير إلى ميدان طلعت حرب مرورا بميدان عبد المنعم رياض ووصولا إلى ميدان مصطفى كامل. كلها ميادين تزخر بها القاهرة وتشكّل رموزا لها ومعالم وعلامات بهية وأماكن تجمع ونقاط وصل بين مختلف شوارع وتقاطعات المدينة العريقة. ولا يكاد المرء يقع على أي ذكر لمصطلح “ساحة” في مصر المحروسة.
وهذا على خلاف بلدان بلاد الشام المختلفة. ففي لبنان وسوريا، لا نكاد نقع على لفظ “ميدان” للدلالة على أي من المرافق العامة المدنية. ففي بيروت هناك ساحة النجمة وساحة الشهداء وساحة ساسين. وفي دمشق ساحة المرجة وساحة الأمويين وهناك حي بأكمله اسمه حي الميدان دون أن يكون هذا الاسم دلالة على ساحة بعينها. لذلك فإن الاختلاف ظاهر بين بلاد الشام ومصر في تفضيل إحداهما مصطلح ساحة، الذي يجنح أكثر نحو الهدوء والسلم، في حين أن الأخرى تفضّل مصطلح ميدان، الذي يذكرنا بالصراع والعراك والمقارعة.
على أيّة حال، فهذه الاختلافات في استخدام الألفاظ موجودة بين شطري الوطن العربي الآسيوي والإفريقي، وبين مشرقه ومغربه. ففي تونس الخضراء على سبيل المثال يستَخدَم لفظ “نهج” كمرادف لكلمة “شارع” المستخدمة في معظم البلدان العربية. وقد كان غريبا على مسامع معظم العرب المشارقة استخدام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي للفظ “زنقة” (الذي يفيد معنى زاروب أو مسلك ضيق) في سياق إحدى خطاباته إبان الربيع العربي طيب الذكر. وهناك لفظ “ركح” الذي يستخدمه المغاربة من العرب للدلالة على خشبة المسرح، وهو لفظ يكاد يكون مجهولا لدى المشارقة، فيقول إخواننا المغاربيون “الفنون الركحية” للدلالة على الفنون المسرحية.
ومن هذه الاختلافات الشائعة بين مصر والشام استخدام المصريين لكلمة “عيش” بدل “خبز” الشائعة في بلاد الشام وربما في باقي البلدان العربية كذلك. كنت ألاحظ في الأفلام والمسلسلات المصرية حتى زمن ليس ببعيد أن المصريين كانوا يستخدمون لفظ “عربية” للدلالة على “السيارة”، وهو اللفظ الأكثر شيوعا في بلاد الشام مثلا. في رحلتي هذه إلى مصر، وجدت أن لفظ “سيارة” صار شائعا لدى المصريين وربما طغى على لفظ “عربية” الشائع قديما، أو حل محله كليا. وينتقل الأمر إلى مأكولات ومشروبات أخرى، فالحليب في بلاد الشام هو اللبن في مصر، والفريز لدى اللبنانيين والسوريين هو الفراولة، والبندورة في بر الشام هي الطماطم في أرض الكنانة، والفلافل في فلسطين هي الطعمية في وادي النيل، وهكذا دواليك.
ولا بد أن هذه الاختلافات في ظاهر الكلمات تعكس أيضا اختلافات في نفسيات الشعوب العربية مشرقا ومغربا وفي بواطنها وتقاليدها وعاداتها وأعماق فكرها. فما كانت هذه التسميات لتجيء عفو الخاطر، وما كانت لتكون استنسابية عشوائية. هذا لا يعني أن فيها تكلّفًا أو تعمّلًا أو تصنّعًا، ولكنها مرآة لاختلافات عميقة في طرائق التفكير وفي سبل المعاش بين العرب على اختلاف أقاليمهم وبلدانهم.
وإنني وإن كنت لا أدري ما السبب الذي يقف بين الاختلاف في التسمية بين ساحات بلدان بر الشام وبين ميادين مصر، فأعتقد أن مؤاخذا لن يؤاخذني في ما لو حاولت تخمين ذلك. فإن أصبت فإنني أكسب أجرين وإن كانت الأخرى فلي أجر واحد على اجتهادي. لعلّ اخواننا المصريين فضّلوا الميدان على الساحة لأنهم في رباط دائم للذود عن الإسلام والعرب، ولأنهم تسلموا أمانة قيادة هذه الأمة منذ بضعة قرون. فكانت حياتهم قتالا في قتال ونضالا في نضال. فرغم وداعتهم ودماثتهم وطيبتهم فإنهم شعب مناضل مكافح. ويبدأ نضالهم وكفاحهم من أجل البقاء في وادي النيل المحاصر بالصحراء من كل الجوانب. ومن ثم كفاحهم ضد الغزاة الأجانب على مر العصور. وأخيرا كفاحهم ضد الطغاة والظالمين الذي يتسلطون عليهم. فكانت كلمة “ميادين” أصدق تعبيرا عن طبيعة حال المصريين وأعظم دلالة على ما يعانونه ويكابدونه.

ميدان طلعت حرب
من ميدان التحرير، توجّهت سيرًا على قدميّ نحو ميدان طلعت حرب بعد سؤالي أحد المارّة عن الاتجاه الواجب سلوكه. كنت قبل مغادرتي ساو باولو متوجّها نحو القاهرة قد أجريت اتصالا هاتفيا بعمي محمد بكري، المقيم في لبنان، والذي زار مصر عشرات المرات في حياته منذ بداية شبابه وحتى شيخوخته، وقد أقام فيها لأسابيع وشهور، وربطته بثلة من مثقفيها وفنانيها وأدبائها وصحافييها علاقات صداقة ومودة. في هذا الاتصال الهاتفي أخبرت عمي محمد أنني مسافر الى مصر لأول مرة في حياتي، وكان من ضمن الأمور التي سألته عنها مكتبات القاهرة. فنصحني بأن أزور مكتبتيْ مدبولي والشروق الواقعتين في ميدان طلعت حرب، الذي يقع بدوره على بعد خطوات من ميدان التحرير.

ميدان طلعت باشا ويبدو تمثاله وسط الصورة

وصلت إلى ناصية الشارع الذي سرت عليه ابتداء من ميدان التحرير، وتوقّفت لسؤال أحد المارّة مجددا هناك: “أين يقع ميدان طلعت حرب؟”. فكان الجواب: “أنت في ميدان طلعت حرب”. فقلت:”أريد مكتبة مدبولي”. فكان الجواب: “هي هناك على يسارك في الجهة المقابلة من الميدان”. تشكّرت المارّ على لطفه وتوجهت نحو مكتبة مدبولي.
لم يكن اسم مكتبة مدبولي غريبا عليّ، وقد تفاجأت بصغر واجهتها عندما وصلت إليها. كنت أظن أنني سأصل إلى مكتبة من الطراز الحديث مثل تلك المكتبات الحديثة التي أرتادها في ساو باولو والتي تعرفت عليها في بيروت. فإذا بمكتبة مدبولي مكتبة تقليدية مكدسة بالكتب حتى السقف. تزدحم في حجراتها الضيقة مختلف العناوين ازدحاما وتبتسم لك من الرفوف العلوية مجلدات كتب التراث من علوم دينية وآداب وفقه وغيرها مما تزخر وتزدهر به المكتبة العربية الإسلامية.
تجوّلت قليلا في المكتبة، لمدة لا تتجاوز العشر دقائق، فبادرني أحد الموظفين سائلا عما أريد. “من فضلك، خوارق اللاشعور لعلي الوردي، ونظام التفاهة لألان دونو”. كنت قد قرأت هذين الكتابين إلكترونيا في آخر سنتين في ساو باولو. وبما أنني كنت أعتزم إعادة قراءتهما، انتهزتُ فرصة وجودي في القاهرة، وقلت أقتنيهما ورقيا. فمهما قرأنا الكترونيا، يبقى للقراءة الورقية طعم خاص، ويبقى اقتناء الكتب والاحتفاظ بها متعة لمحبي القراطيس.
قال لي الموظّف أن الكتابين متوفران، وثمنهما معا ألف ومائة من الجنيهات المصرية. طلبت تخفيضا للسعر، فوافق الرجل على مبلغ ألف جنيه مصري كاملا غير منقوص. تمت الصفقة. وسريعا أحضر لي نسخة قشيبة لكتاب “خوارق اللاشعور” لمؤلفه عالم الاجتماع والبحّاثة العراقي علي الوردي. أما كتاب “نظام التفاهة” لمؤلفه المفكّر الكندي آلان دونو، والصادر باللغة الفرنسية وقد ترجمته إلى العربية الدكتورة الكويتية مشاعل الهاجري، فإن الرجل طلب مني أن أنتظر قليلا، ريثما يجري إحضار نسخته من مكان ما (خمّنت أنه من الممكن أن يكون من مكتبة الشروق المجاورة أو من مخزن قريب تابع لمكتبة مدبولي). أثناء انتظاري الذي طال من عشرة دقائق إلى ربع ساعة، راح هذا الموظف مع رهط من الرجال يتكلمون عن الطعام ويدونون على ورقة. أحدهم يريد كوشري والآخر يريد الكمية الفلانية من أرغفة العيش والثالث يطلب الطعام الفلاني، وكأنهم كانوا يحضّرون لمأدبة. لم يطل انتظاري طويلا حتى حضرت نسخة جديدة جميلة من كتاب نظام التفاهة. نقدتُ الرجل الألف جنيه المتفق عليها، وخرجت مسرورا، رغم استكثاري لثمن الكتابين مقارنة بالبرازيل. السعر تقريبا متساوٍ إن لم يكن في مصر أغلى! إذًا فسمعة مصر الدهرية عن الرخص قد أضحت مجرد أسطورة، وصار الغلاء يلف كل ارجاء المعمورة.
إثر هذه الصفقة الثقافية، لم يبقَ في جيبي من الجنيهات المصرية إلا بضع مئات لا تكفي نفقة اليومين الباقيين لي في مصر. لذلك فكان لزاما أن أصرّف مائة دولار إضافية. سألت عن محل صيرفة، فأُنبِئت عن واحد في شارع يتفرّع من ميدان طلعت حرب. لكن دون جدوى. المحل كان مقفلا بسبب إجازة رأس السنة الهجرية. قلت في نفسي أمري لله أعود أدراجي إلى ميدان التحرير حاملا بيمناي كيس الكتابين.
لم يكن قد تبقّى أمامي للوصول الى ميدان التحرير إلا بضع عشرات من الأمتار، فإذا بفتى عشريني على الرصيف يحييني ويعرض علي منتجا ما. أرفض المنتج، لكنني أسأل الشاب إن كان يعرف أي محل صيرفة قريب. لا أدري كيف واتتني الشجاعة والثقة لطرح سؤال كهذا على غريب في الشارع. إعترى الفتى الحماس الشديد ونادى امرأة محجبة كانت منزوية في مكان ما من الرصيف، وقال لي طلبك عندها. تمت الصفقة. نقدتها ورقة مائة دولار، فردّت لي مبلغا وقدره ثلاثة آلاف ومائتين من الجنيهات المصرية. لكنها أوصتني بألا أخبر أحدا أنني قد صرفت منها هذا المبلغ. مرة أخرى، لا أدري كيف وثقت بهذه المرأة الغريية التي صادفتها في الشارع. حدس ما جعلني أطمئن لإتمام هذه الصفقة على ذلك الرصيف في وسط القاهرة. خبّأت المبلغ في جيبي، وأكملت طريقي نحو ميدان التحرير.
كانت الحركة خجولة في نهار الخميس ذلك الذي صادف إجازة رأس السنة الهجرية. الشوارع شبه خالية من المارة، والسير يسير بيُسرٍ وانسيابية. ولم أرَ شيئا من زحمة سير القاهرة التي يكثر الحديث عنها. جلست في أحد مقاهي ميدان التحرير. طلبت كأسا من عصير المانجا. كان طعمه لذيذا جدا. كان الوقت قد اقترب من المغرب. قرّرت أن أعود إلى الفندق. قلت أستقل سيارة أجرة. سألت شابا يعمل في مطعم لبناني أين من الممكن أن أجد سيارة أجرة. نصحني بألا أطلب. قال لي أن أطلب سيارة على تطبيق محلي على الهاتف. قلت ليس عندي إنترنت على الهاتف. دون أن أطلب منه ذلك، ومن تلقاء ذاته، وجدت الفتى يطلب لي سيارة عبر تطبيق هاتفه. قال لي إلى فندق البارون، ستة وستون جنيها. لو طلبت سيارة أجرة لكان السعر مائة وخمسين جنيها. انتظرت بضع دقائق. جاءت السيارة. شكرت الفتى وناولته عشر جنيهات. وعدت الى الفندق للراحة، في ثاني ليلة لي على الأراضي المصرية.

(يتبع)

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى