تربية وثقافة

ثلاثة أيام في مصر../ الجزء (8)

الكاتب د. بلال رامز بكري/ البرازيل

“المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة الثامنة من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرّة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثاره، وبعض مناطقه.
كتب د. بلال بكري:

جامع مصطفى كمال رشدي
في ليلتي الأولى في فندق البارون، كنت قد عقدت العزم على الإستيقاظ قبل موعد صلاة الفجر، وذلك لكي ألحقها جماعة في المسجد المجاور للفندق. وبسبب إرهاق السفر ووعثائه، لم أستطع الإستيقاظ بحيث أستطيع اللحاق بصلاة الفجر جماعة. أخبرني بعض موظفي الفندق أن موعد صلاة الجماعة قد فاتني، ولكن إن أردت أن أصلّي في مصلّى الفندق، فإن هذا الأمر لا يزال متاحا. وافقت. فأخذني أحد الموظفين إلى حيث يقع هذه المصلى في الطابق الأرضي في واجهة جانبية من واجهات الفندق.
يقع مصلّى الفندق في حجرة خلفية تشبه القبو. لعلّ هذا المصلَّى قد أُنشِئ على عجلٍ لخدمة موظّفي الفندق. فهيئته العامّة توحي بالإهمال وبأنه يُستَخدَم لأغراض الصيانة في الفندق. على أرض هذا المصلّى، هناك سجّادة وعلامة باتجاه القِبلة. وصلت إلى هذا المصلى برفقة أحد موظفي الفندق، وتركني هناك وحيدا، فصلاة الجماعة في هذا المصلى كما في مسجد الحيّ كانت قد أقيمت. لذلك فكبّرت تكبيرة الإحرام، وشرعت في صلاتي. كانت عتمة الفجر لا تزال تحيط بالمدينة، والشروق المنتَظر يوعدني برؤية مصر للمرة الأولى نهارا. فرغت من صلاتي وعدت إلى بهو الفندق بانتظار تقديم الإفطار في المطعم. بعد تناول طعام الإفطار مباشرة، توجهت نحو بهو الفندق حيث كان موعدي مع الدليل السياحي في تمام الساعة الثامنة صباحا لزيارة الأهرامات.
في ليلتي الثانية في مصر، والتي صادفت ليلة الجمعة بعد نهار خميس حافل بالمشاهَدات والسياحة، قررت ألا تفوتني صلاة الفجر جماعة. لذلك فقبل موعدها بنصف ساعة، كنت هناك في بهو الفندق أسأل موظف الاستقبال أن يدلني على كيفية الوصول إلى أقرب مسجد. “حضرتك تروح يمين على طول وفي آخر الشارع على طول الخط تنعطف يمينًا، وسوف ترى على الشارع الرئيس في العمق المسجد مضاءً من الخارج بطريقة لا تخطئ. لن تجد صعوبة في التعرف عليه. بضع دقائق تفصلك عن الوصول إلى هناك”.
في عتمة ذلك الفجر القاهري التموزي، كانت الظلمة مدلهمّة رغم أضواء الشارع والمباني، ورحت أسير حثيثًا نحو مسجد الحيّ. سرت حسب إرشادات موظّف الاستقبال. من باب الفندق يمينا حتى ناصية الشارع، وهناك انعطفت يمينا. وما هي إلا خطوات حتى ظهر مسجد الحيّ المذكور. كان السلام يخيّم على المكان، والسكينة تجلّل المدينة وتعطيها هالة من الوقار. لم ألقِ بالا للظلمة ولا خشيت من أي طارئ قد يدهمني في تلك الساعة، فالنور كان يغمر صدري والسكينة كانت ترين على جوارحي وتربط على قلبي.
وصلت أخيرا إلى الباب الخارجي للمسجد الواقع على ناصية أحد الشوارع المتفرّعة من الشارع الرئيس. لم يكن هذا المسجد ضخم البنيان، بل كان متوسّطًا أو حتى ما دون المتوسّط. في مكان ما عالٍ على واجهته، أعلى الباب الداخلي، هناك لافتة تعطي ذلك المسجد اسمه وهويته: “مسجد مصطفى كمال رشدي، تأسّس في ستينات القرن الماضي”. لم أبحث عن مكان للوضوء، إذ كنت قد اغتسلت اغتسالا كاملا قبل الخروج من الفندق. خلعت نعليَّ، ودخلت إلى بيت الله. صلّيت تحية المسجد، وجلست في مكان ما في أحد الصفوف الأمامية أنتظر إقامة الصلاة.
أخذ المصلّون يحضرون تباعا ويتوزّعون في أركان المسجد كافة. رُفِع أذان الإقامة وسُوِّيَ صفٌّ واحدٌ غير مكتملٍ. ربما بلغ عدد المصلّين في صلاة الجماعة تلك ثلاثون أو ما دون ذلك. معظمهم كان يتألف من رجال في منتصف العمر. وكان هناك بعض الشباب والمراهقين. الإمام كان رجلا مسنًّا بدينا بعض الشيء يكسو الشيب رأسه ولحيته. أخذ يؤمّ الصلاة فينا، وفي الركعة الأولى قرأ ما تيسّر من واحدة من طوال السِّوَرِ وفجأة سجد بلا ركوع وسجدنا وراءه. ظننت للوهلة الأولى أن خطأ ما حدث، إلى أن فطنت أخيرا أن السجدة هي من السجدات الخمسة عشرة في القرآن الكريم، وقد صادف وجودها في تلك التلاوة. عدنا للوقوف مؤتمّين بالإمام، الذي أكمل الركعة الأولى فالثانية وأخيرا التسليم. كانت تلاوة الإمام جميلة وهيئته وقورة.

جامع مصطفى كمال رشدي

تمّت صلاة الجماعة وانفضّ المصلّون. إعتمل شيء في صدري لكي أكلّم الإمام وأتعرّف عليه. هنا لاحظتُ أن الرجل رمقني بنظرتين يُقرَأ من خلالهما أنه كان يستغرب وجودي هناك. لربما تساءل في نفسه: من يكون هذا الغريب ؟ وما الذي أتى به إلى صلاة الفجر في مسجدي؟ هكذا خمّنتُ، وبما أنني قرأت في عيني الرجل التوجّس والريبة، فإنني لم أتحمّس لفكرة الحديث معه، وعدلت عنها نهائيا. وانصرفت آيبا نحو الفندق. بعد تناول طعام الإفطار، عدت إلى الغرفة للاستراحة قليلا، قبل التوجه نحو القاهرة القديمة حيث كنت أنوي أن أصلّي الجمعة في الجامع الأزهر الشريف.
لاحقا على الشبكة العنكبوتية بحثت عن اسم “مصطفى كمال رشدي” لكي أعرف من هو الرجل الذي صار إسم علم لواحد من مساجد مصر الجديدة. لم أظفر بأي معلومة عن الرجل. ولكن علمتُ أن الشارع الذي يقع عليه هذا المسجد اسمه شارع السيد الميرغني، نسبة إلى السيد علي الميرغني، السوداني الأصل، سليل أسرة الميرغني الشهيرة في كل من مصر والسودان. بالإضافة إلى مسجد “مصطفى كمال رشدي”، يقع على هذا الشارع قصر “الاتحادية” حيث مقر رئاسة جمهورية مصر العربية، مما يعني أنني كنت جارًا لرئيس البلاد أثناء مدة إقامتي القصيرة في مصر.
وفي بحثي الإنترنتي عن قصر الاتحادية، تبيّن معي أن المبنى عينه كان في السابق “فندق هيليوبوليس” الفخيم العظيم قبل أن تضع الدولة المصرية يدها عليه وتحوّله إلى مقر رئاسي. على أن حي مصر الجديدة بأكمله قد شيّد على أنقاض مدينة الشمس القديمة (هيليوبوليس باللغة اللاتينية) التي كانت تضم معابد من الديانة المصرية، وقد درست في ما درس من آثار، وصارت أثرا بعد عين.
صلاة الفجر جماعة من أجمل العبادات وأكثرها استجلابا لسكينة النفس والروح، واستحضارا لمعاني الإنابة والخشوع. ومع أنها كانت صلاة الفجر الوحيدة جماعةً لي في حياتي على أرض مصر المحروسة، فإنها تركت بالغ التأثير في أعماقي، وجعلتني أشعر بشيء من الطاقة الإيمانية والأجواء الإسلامية التي يزدان بها وادي النيل الذي يسجّل له التاريخ أنه كان مهد التوحيد في عهد الملك أخناتون الذي وقف للكهنة ووثنيتهم بالمرصاد حتى حاربوه.
أما إسم المسجد الذي استضافني لإقامة تلك الفريضة، فقد ذكرني بادئ الرأي بمصطفى كمال أتاتورك، الذي لم يكن محبًّا لأيّ شيء يمتّ بصلة للإسلام والعروبة. لكن الإسم الثالث في هذا الاسم الثلاثي جاء لينقذ الموقف وليزيل الإلتباس. لكن تظل هوية الرجل لغزا بالنسبة لي. وتظل مصر تفاجئك بعجائبها وغرائبها وبالتفاصيل المختبئة في تضاعيف زمانها السرمدي ومكانها العدني الفردوسي. فلتسلمي يا مصر!

مسجد الحسين
في نهار الخميس، وبعد الانتهاء من جولة الأهرامات، في طريق العودة إلى الفندق، أخبرت الدليل السياحي والسائق عن رغبتي في صلاة الجمعة في الجامع الأزهر الشريف. نصحني الرجلان بأن أكون باكرا هناك، أي في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا. سألتهما من سيكون خطيب الجمعة، وإن كان الإمام الأكبر من خطباء الجمعة. “أنت وحظّك”، كان جوابهما. فهمت منهما أن خطيب الجمعة يتغير من أسبوع لآخر، وقدّرت من كلامهما أن الإمام الأكبر شيخ الأزهر قليل الظهور.


في حوالي الساعة التاسعة من نهار الجمعة الواقع في الحادي والعشرين من تموز من العام ٢٠٢٣، كنت في بهو فندق البارون أطلب سيارة أجرة للذهاب إلى الجامع الأزهر الشريف. السائق كان رجلا ذا لحية بيضاء جليلة قد وخطتها بعض الخطوط السوداء، وشاربين يغلب عليهما السواد. أخبرته أنني أريد الجامع الأزهر الشريف و مسجد ومقام سيدنا الحسين رضوان الله عليه. قال لي أنهما متقابلان، على بعد خطوات قليلة عن بعضهما البعض، ويفصل بينهما شارع. أخبرني أنه يقيم في القاهرة منذ الستينات، وقد قدم إليها من الريف المصري، وأن عائلته كلها، أي زوجته وأبناءه المتزوجين، يقيمون في الريف، ويقيم هو وحيدا في القاهرة بسبب عمله كسائق أجرة، وأنه يزورهم بشكل دوري.
وصلنا إلى الحسين وظهر الجامع الأزهر الشريف في الجهة المقابلة مباشرة. أنبأني سائق الأجرة أن نفقا للمشاة يربط بين الحسين والأزهر الشريف تحت هذا الشارع. كنت قد سألته عن كيفية الوصول إلى القلعة، فقال لي هي قريبة سيرا على القدمين صعودا، لكن من الأفضل أن أستأجر سيارة أجرة لهذه الغاية. كانت نيتي أن أزور القلعة بعد الفراغ من صلاة الجمعة ومن الجولة في محيط الأزهر الشريف والحسين.
كانت صورة الحسين المطبوعة في ذهني هي تلك الصورة التي نقلها الفن المصري المرئي والمسموع لسائر الأقطار العربية. أتذكر على سبيل المثال مسلسل “الليل وآخره”، من بطولة الممثل القدير يحيى الفخراني، والذي شاهدته في العقد الأول من الألفية الثالثة في مهجري في البرازيل. كانت أغنية المقدمة من كلمات الشاعر سيّد حجاب، باللهجة الصعيدية، وهي مليئة بالشجن. أحداث المسلسل تدور في القاهرة القديمة، والحسين بشكل خاص. أذكر أن صهر بطل المسلسل “رُحيّم”، أيّ زوج شقيقته الذي لعب دوره الممثل أحمد فؤاد سليم، كان مؤمنا ورعا كثير التردد إلى مسجد ومقام سيدنا الحسين رضوان الله وسلامه عليه. كان هذا المسجد التاريخي المليء بالرمزية الملاذ والملجأ لهذه الشخصية الدرامية كلما ألمّ بها كرب أو دهمتها نائبة.
أذكر الحسين أيضا من أغنية المطرب المصري الأصيل محمد عبد المطلب المعنونة بعنوان كبير نوعا ما: “ساكن في حيّ السيدة وحبيبي ساكن في الحسين”. وهي أغنية بقدر ما تنطوي على بساطة في الكلمات، فإنها تعبّر عن عمق في المعنى وعن حميمية ومودة تستمدّ المدد الروحاني من أحياء القاهرة القديمة العامرة بالإيمان الصادق لأجيال وأجيال من أبناء البلد الطيبين. هي أغنية لا تقتصر على بث مشاعر العشق والهيام بين حبيب ومحبوبته، ولكنها تغدق المشاعر الجيّاشة على أحياء القاهرة القديمة فتؤنسنها، فتخلد بها فنًّا أصيلا، وتخلّدها في الوجدان الشعبي المصري والعربي. ربما كان محمد عبد المطلب مطربا منسيا، لكن الفنّ الذي قدّمه يعبّر عن القاهرة القديمة أكثر من أي فنّان آخر من فنّاني القرن العشرين الذين ذاع صيتهم. كأنك ترى الحسين وسائر أحياء القاهرة القديمة في صوت محمد عبد المطلب ذي الطبقة العالية، والبحّة التي تستر أشجانا ولواعج قد تكون غريبة على أبناء هذا الجيل الهشّ نفسيا والذي لا يعرف من الحب إلا ميوعة وسطحية. “ساكن في حيّ السيدة وحبيبي ساكن في الحسين.. وعشان أنول كل الرضى يوماتي أروح له مرتين”.
دخلت إلى مسجد سيدنا الحسين رضوان الله وسلامه عليه من أحد أبوابه العديدة بعد أن خلعت نعليّ. أدّيت تحية المسجد وراح نظري يجول ويصول في كل اتجاهات هذا المسجد التاريخي العظيم. الهيئة العامة للمسجد توحي أنه يحظى بعناية خاصة. فكل مرافقه جديدة نظيفة والسجاد الذي يغطي أرضيته يبدو أنه جديد ومعتنى به أيضا. أما مرتادو المسجد فمن مختلف الأشكال والألوان، وإن كانت قد لفتت انتباهي نسبة الجلابيات المرتفعة كلباس دون الأماكن الأخرى التي تجولت فيها في القاهرة.
توجّهت نحو حجرة المقام، المسيّج بقضبان معدنية فضية اللون والمنقوشة بآيات الذكر الحكيم مطلية باللون الذهبي . ذكّرني كثيرا هذا المقام بمقام سيدنا يحيى عليه السلام في الجامع الأموي في دمشق، والذي كنت قد زرته في العام 2009. هناك رواية تقول أن رأس سيدنا الحسين رضي الله عنه مدفون في الجامع الأموي في دمشق وأخرى تقول أنه مدفون حيث مقامه هذا في القاهرة. على أية حال، فإن مقام الحسين كان غاصًّا بالمصلّين والوافدين الذين أتوا لينذروا نذورهم وليلهجوا بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى.
لا مجال لأن يقف المرء محايدا إزاء هذا الفيض من المشاعر الإيمانية والذبذبات الروحانية التي تغمر الأماكن المباركة كمثل مقام سبط النبي عليه الصلاة والسلام في القاهرة. ومهما كان من أمر بشأن صحة رواية وجود رأس الحسين رضوان الله عليه، فإن هذا المكان قد صار محجّة ومقصدا للمكروبين والملهوفين، وموطنا للأدعية وللصلوات والابتهالات والتضرعات. وعليه فإنه مكان مبارك مشحون بالروحانية والورع والخشوع. لا تملك إلا أن تصيبك عدوى هذه الأجواء. أعترف أن دمعات ذرفتها عفوًا كانت شاهدة على تأثّري وانفعالي بالوجود في هذا المسجد والمقام المبارك.
لم يكن هناك متّسع من الوقت للمكوث طويلا داخل الحرم الحسيني، فموعد صلاة الجمعة في الأزهر الشريف كان يقترب. وهكذا انتعلت حذائي وخرجت أتجول في الشارع المحاذي للحرم الحسيني. كان الشارع غاصًّا بالمارّة، ورحت ألاحظ أن بعض المشاة كانوا يسيرون وفي أياديهم أرغفة من العيش المصري الأسمر تحتضن بحنو أقراصا من الطعمية. تقدّمت قليلا في الشارع المليء بالدكاكين والحوانيت والمقاهي، فظهر مصدر تلك الأرغفة والأقراص. كان هناك رجل يقف أمام طاولة ومعه شخص آخر يساعده وأمامهما وعاء كبير فيه أقراص الطعمية ولوح مصفوفة عليه أرغفة العيش الأسمر. كان الرجل يوزّع الطعام على المارّة. على الأرجح كان يوفي هذا الرجل نذرا بإطعام الطعام بجوار المقام الحسيني الجليل.

مقهى نجيب محفوظ
في طريقي إلى الحسين وقعت عيني على لافتة صغيرة مكتوب عليها “مقهى نجيب محفوظ”، مع سهم يشير إلى اتجاه موقعه. مع رغبتي في الذهاب إلى المقهى، لم أشأ أن أمرّ عليه قبل الدخول إلى مسجد الحسين رضوان الله وسلامه عليه. لذلك فبعد فراغي من الحسين، وفي اتجاهي إلى الجامع الأزهر الشريف، قلت أعرّج على مقهى نجيب محفوظ، ورحت أسأل أصحاب المحلات في ذلك الحيّ القاهري القديم عن مكان المقهى بالضبط.

مقهى نجيب محفوظ 

منذ سنتين تقريبا، طالعتُ رائعة نجيب محفوظ الخالدة، الثلاثية بأجزائها “بين القصرين”، و”قصر الشوق”، و”السّكّرية”. ولقد استهلكت هذه الرواية الضخمة التي تتجاوز صفحاتها الألف وخمسمائة صفحة استهلكت معظم أوقات فراغي في أيام إجازة رسمية في ساو باولو . ولكنني وجدتُ نفسي منقادًا لقراءة السطر تلو السطر، والفصل تلو الفصل، بنَهَمٍ شديد لم أشعر معه بمرور الوقت، وكنت طوال ساعات القراءة مأخوذًا بشعورٍ هو مزيج من المتعة والشجن. لن أتحدّث عن شخوص الرواية وبطلها السيد أحمد عبد الجواد، الذي كان محور الرواية بأسرها. فالأديب الكبير نجيب محفوظ قد برع في تصوير شخوص رائعته الخالدة براعة عظمى تجعلك تحسّ أنك تعيش معهم جميعا في أحياء القاهرة القديمة منذ الحرب العالمية الأولى أيام سعد زغلول وثورة 1919، وحتى أربعينات القرن العشرين والحرب العالمية الثانية.
ليس أدبٌ كأدب نجيب محفوظ بالترف أو بالتسلية الرخيصة لتزجية الوقت، ولكنه متعة تدفعك إلى التفكير والتفكّر وتثير فيك الأشجان القابعة في زاوية من زاويا روحك كنت قد ظننت أنك نسيتها هناك إلى غير رجعة. وهو إلى هذا وذاك ضرورة من ضرورات الحياة بسبرها أغوار الإنسان المصري في حقبة زمنية ما، وكأن الإنسان المصري في زمن ما هو إلا الإنسان الكوني بصراعاته وآماله وآلامه وخيباته وأهوائه. كنت قد قرأت منذ سنين طويلة رواية “خان الخليلي” لنجيب محفوظ، وهي إن كانت قد حازت إعجابي وزودتني بالمتعة والفائدة، فإنها لا تعدو أن تكون كوخًا صغيرا إذا ما قورنت بالثلاثية، الصرح العظيم الشامخ بين صروح الأدب العالمي في كل العصور. ما قرأته في سطور الثلاثية كان أعظم بكثير مما سمعته عنها وأشد وقعا في نفسي مما كنت أتوقّع. وقبل هذا وذاك، ومنذ سنين طويلة جدا، وقبل أن أعرف أي شيء عن أدب مبدع رواية “خان الخليلي” كنت قد حضرت الفيلم الذي أنتج عنها. يضاف إلى كل هذا ما قرأته عن سيرة الأديب الحائز جائزة نوبل للآداب بقلم صديقه الأديب محمد سلماوي.
كل هذه الأمور جعلتني متشوّقًا لزيارة أي مَعْلَم أو موقع يتعلّق بالعبقري نجيب محفوظ. بالأخصّ بعد أن وصلت إلى القاهرة القديمة، ووجدت أن كتابات محفوظ قد وصفت القاهرة القديمة وصفا دقيقا وعبقريا وشافيا ووافيا. كان أديبا وابن بلد ومفكّرا وفيلسوفا، لذلك فإن أدبه والمعالم التي تتعلق به تستحق الاهتمام والاحتفاء.
سرت من مسجد الحسين إلى خان الخليلي وهناك اتبعت الاتجاه الذي أرشدني إليه بعض أصحاب الدكاكين للوصول إلى مقهى نجيب محفوظ. أخيرا وجدت نفسي هناك أمام ذلك المقهى، المكتوب على جداره المحاذي لبابه بالخط الكوفي البهي الجميل على لوح أسود بأحرف ذهبية “مقهى نجيب محفوظ”. كنت أريد الجلوس في ذلك المقهى ولو لربع ساعة قبل التوجه إلى صلاة الجمعة في الأزهر الشريف. لكن لم يكن لي نصيب في ذلك، فباب المقهى كان مقفلا. رجّحت أن يكون السبب التوقيت المبكر أو إجازة نهار الجمعة في القاهرة، خاصة أن نهار الجمعة ذلك كان وسط إجازة مطوّلة تبدأ الخميس بإجازة رأس السنة الهجرية وتنتهي الأحد بذكرى ثورة 23 يوليو.
وقفت أمام باب المقهى والتقطت صورة تذكارية لي هناك. وكان هذا كل ما استطعتُ الحصول عليه. لكن فكرة ولادة ذلك الأديب العظيم وسط هذه الحارات والزواريب قد صارت أكثر وضوحا وجلاء بعد معاينة هذه الأماكن بالعين المجردة. للعباقرة الذين يملكون فكر وإحساس صاحب الثلاثية وأولاد حارتنا وزقاق المدقّ وغيرها من الروائع، إن هذه الأحياء التاريخية العريقة تشكّل مصدرا للإلهام ومددًا روحانيًا وأدبيًا لا ينقطع.
(يتبع)

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى