ثلاثة أيام في مصر.. / الجزء (9)
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة التاسعة من سلسلة: “ثلاثة أيام في مصر”، لإبن بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، الطبيب اللبناني المقيم في البرازيل، د. بلال رامز بكري، والتي يختصر فيها مشاهداته، ووقائع رحلته الى أرض الكنانة/ مصر، والأحداث التي رافقته في هذه الرحلة السياحية السريعة، بخاصة، وأنها المرّة الأولى التي يزور فيها الكاتب هذا البلد العربي العريق، بهدف التعرّف على آثاره، وبعض مناطقه.
كتب د. بلال بكري:
الجامع الأزهر الشريف
بعد أن فرغتُ من زيارة مقهى نجيب محفوظ الذي كان مغلقا، توجّهت صوب الجامع الأزهر الشريف لأداء فريضة صلاة الجمعة. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة صباحا، مما يعني أن الوقت كان لا يزال مبكرا. لكن تحذيرات الدليل السياحي وسائقه في اليوم السابق من ضرورة الحضور باكرا، تلافيًا للزحمة الشديدة، جعلتني آخذ كلامهما على محمل الجدّ وأبكّر في الحضور. من الحسين إلى الأزهر الشريف، عبرتُ نفقًا للمشاة ذا هيئةٍ عامّةٍ لا بأس بها. على مداخل ومخارج هذا النفق، يفترش بعض المتسوّلون الأرض ويسألون الصدقات. معظم هؤلاء المتسولين من النساء اللواتي يلبسن اللون الأسود. أما جدران النفق فعليها بعض العبارات والكلمات التي تُرِكَت كتعبير ما عن إنسان أراد للمارّة في هذا المكان المبارك أن يقرأوها.
خرجت من منفذ النفق من جهة الأزهر، وظهر المسجد التاريخي العظيم بكامل أبّهته، بعمارته المملوكية التي لا تخطئها العين وبمآذنه ذات الطراز المملوكي الفريد. على يسار الداخل إلى الأزهر الشريف، يقع مبنى تابع له ومرفق به، مكتوب على أعلاه بالخط الكبير والعريض أنه خاص بمشيخة الأزهر وبإدارته.
على بوّابة سور الجامع الأزهر الشريف، كان رجال الأمن يستقبلون الوافدين إلى صلاة الجمعة. سألني أحدهم عن جنسيتي فقلت له أنني لبناني، فاستقبلني بالبشاشة والترحاب، وأذن لي بالدخول من غير أن يفتّشني أو أن يزيد حرفا واحدا على سؤاله. لا أنكر أن بشاشة وترحاب رجل الأمن هذا قد شرحا صدري وزادا لديّ الانطباع العام الذي أخذ يتحوّل إلى قناعة راسخة أنني مرحّب بي على أرض مصر، وأن ما بين أيّ إنسان مسلم وعربي من جهة، ومصر من جهة أخرى، من أواصر الدين واللغة يجعله يشعر بأنه في وطنه، وبأنه على الأقل موضع ترحاب صادق على المدخل المؤدي إلى باحة الأزهر الشريف الشهيرة، والمنتشرة في الصور والتسجيلات التي تتناول هذا الصرح الإسلامي الشامخ.
أخذني الانبهار واستحوذت عليّ الدهشة. كان الحرّ على أشدّه، وأرض الباحة الأزهرية البيضاء المجلوّة بعناية شديدة تسهم في تخفيف حدة الحرّ. تجولت قليلا في الباحة التي لا يوجد فيها إلا الخلاء ولا سقف يغطيها إلا زرقة السماء وأشعة الشمس والتقطت هناك بعض الصور.
كان هناك جرّتا ماء مبرّد لخدمة المصلّين وضيافتهم. أحد الجرّتين فرغت منها الأكواب البلاستيكية المرفقة بها، لذلك توجهت نحو الأخرى التي كان لا يزال فيها شيء من الأكواب ورويت عطشي الذي زاد منه لهيب ذلك اليوم الصيفي القاهري. وعلى غير ما حذّرني الدليل السياحي في اليوم السابق، فإن الحركة كانت خفيفة في الأزهر الشريف، ولم ألمس شيئا من بوادر زحمة. قلت ربما يُعزَى هذا الأمر إلى الإجازة المطوّلة في ذلك الأسبوع من تموز/يوليو، والتي قد جعلت الكثيرين من أهالي القاهرة يتوجهون إلى المصايف الساحلية لقضاء إجازتهم في ذلك الحرّ الشديد.
كان داخل المسجد شبه خالِ من المصلّين، وبالتالي، كنت أستطيع اختيار المكان الذي يروقني بكل حرية. أو هكذا بدا لي. المنبر العالي الذي يقع في وسط المسجد يقع على أرضية أعلى بدرجتين عن سائر المسجد، أي أن المصلّين في الصفوف الأمامية يؤدّون صلاتهم على أرضية مرتفعة قليلا عن باقي المصلين.
أحببت أن أجلس في الأرضية المرتفعة مقابل المنبر مباشرة، لكن أحد رجال الأمن نهاني عن ذلك. وفهمت أن ذلك المكان مخصص لأشخاص معينين. وكان هناك حزام يحيط بالمنطقة المحاذية للمنبر والمحيطة به. إذًا لم يبق أمامي إلا الجلوس على الأرضية المنخفضة، متّكئا على أحد العواميد التاريخية المقابِلة للمنبر مباشرة، مما يعني أنني كنت سأستطيع رؤية الخطيب، وإن كانت ملامحه ستكون غير واضحة بشكل كافٍ من مسافة ربما تبلغ عشرة أمتار.
مستندا إلى أحد العواميد، وضعت فردتيْ حذائي مطويتين على بعضهما البعض على قاعدة العامود الحجرية، بحيث لا تطآ سجّاد المسجد. وبانتظار الصلاة، أخذت نسخة من المصحف الشريف، وشرعت بتلاوة سورة الكهف. أمامي مباشرة، على الجهة اليسرى، كان هناك منصّة خشبية مرتفعة عن الأرض. وضعت على هذه المنصة كاميرا ضخمة ومعدات يبدو أنها خاصة لتصوير وتسجيل وقائع صلاة الجمعة وبثّها على التلفاز. كانت هذه المنصّة داخل المنطقة المُسوَّرة بالحزام الحاجز والخاضعة للرقابة المكثّفة من رجال الأمن الذين يتحكمون بالدخول والخروج إليها ومنها.
وأخذ المصلّون يتوافدون تباعا، وأخذ المسجد يمتلئ شيئا فشيئا. وعندما أخذت الحركة تزداد لاحظت أن ترك فردتي حذائي على قاعدة ذلك العامود لم يكن مأمون العاقبة. فهذا المارّ يلمس الحذاء من غير قصد، فيسقط على السجّاد، وذلك الجالس يستند الى العامود، فتسقط فردتا الحذاء على السجّاد الطاهر النظيف. لذلك كان لا بدّ من تغيير موضع الحذاء. أَجَلْتُ النظر قليلا في أروقة المسجد، وانتبهت الى وجود بعض الرفوف بجانب الأبواب الداخلية من حيث ينفذ القادمون من الباحة الأزهرية. حملت فردتَيْ حذائي وحمدت الله أنني وجدت مكانا شاغرا على أحد تلك الرفوف التي كانت بين الممتلئة والفارغة، وعدت إلى العامود الأزهري الذي أكرم وفادتي. ولحُسنِ حظي فإن مكاني لم يشغله أحد أثناء غيابي عنه لدقيقة أو دقيقتين.
كان قد غلب امتلاء المسجد على شغوره، وكانت المنطقة المحيطة بالمنبر قد شارفت على الامتلاء، وكانت منصة البث التلفزيوني قد أخذت تزداد فيها الحركة حين ظهر على يميني، هناك في العمق، شيخ أزهري معمم، قد اشتعل رأسه ولحيته شيبا، بلباسه الأزهري التقليدي، يتوجّه نحو كرسي فاخر وضع أسفل المنبر على الجهة اليمنى للخطيب. جلس الشيخ على الكرسي وأمسك بالميكروفون، وراح يرتجل بعض الكلمات بغية فحص الصوت، وقد لفظ أثناء ذلك كلمة “تست” الإنكليزية، التي تفيد معنى الاختبار والامتحان والفحـص والتقييـم.
وراحت تلك الحنجرة الأزهرية تصدح بتجويد آيات الذكر الحكيم، وأخذت السكينة تسيطر على أجواء المسجد برمّته. ورحت تسمع هنا وهناك صيحات من نوع “الله”، “صلِّ على سيدنا النبي”، وأخذت التلاوة المجوَّدة تُصاعِدُ في اندماج المصلّين مع القارئ وتخلق جوًّا من السكينة الملموسة والتأثّر الملحوظ. وكان بالإمكان ملاحظة مصلين هنا وهناك رافعين هواتفهم لتسجيل وتصوير التلاوة. حتى إن البعض منهم ربما تجاوز حدود اللياقة فوقف قائما للتصوير بحيث يحجب الرؤية عمّن يجلس وراءه. لم أشذّ عن القاعدة، ودفعني التأثّر لتسجيل مقاطع من التلاوة الشجية المشجونة على هاتفي، مستندا إلى العامود الآنف ذكره.
كانت التلاوة تشتمل على ما تيسّر من آيات من القرآن الكريم من هنا وهناك، وامتلأت غبطة ويقينا بأن شُهود تلاوة الذكر الحكيم ليس كسماعه على وسائل البث المرئي والمسموع. وفي هذا الأمر كما في كل أمور الحياة، لا شيء يغني عن التواصل الإنساني المباشر.
“وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3).. عندما تفوه القارئ الأزهري بآيات سورة النجم، كنت قد انصهرت كليا في هذه الأجواء الإيمانية، وبلغ مني التأثّر مبلغا عميقا بحيث فاضت عيناي بعبرات شاهدات على هذا الاندماج مع التلاوة.
أقيم أذان الإقامة واعتلى المنبر إمام أزهري تبيّنت من ملامحه بصعوبة، رغم المسافة التي تفصلني عنه، أنه ليس الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، بل ربما كان أحد المشايخ من كبار علماء الأزهر الشريف. لم يكن موضوع الخطبة غريبا عن ذلك اليوم. فقد كنا في الأيام الأولى من محرّم من العام 1445 للهجرة، في إجازة رأس السنة الهجرية، وبالتالي فإن موضوع الهجرة النبوية قد فرض نفسه على الخطيب والمصلّين. لم يطنب الإمام في خطبته، بل كان مقتضبا، وكانت لغته جميلة مضمونا وشكلا. وقد استطاع أن يضيء بشكل جيد على أهمية الهجرة النبوية الشريفة في تاريخ الإنسانية وعلى تصحيحها لمسار الإنسان والزمان. ختم خطبته بالدعاء لمصر ولرئيس جمهوريتها وبالدعاء على من يريد بها شرًّا وكيدا، وأخيرا “أقم الصلاة”.
شارع المعزّ
فور فراغ الإمام من إقامة صلاة الجمعة، هرعت إلى رفوف الأحذية بجانب احد الأبواب لأخذ فردتي حذائي والخروج من الجامع الأزهر الشريف. كان الوقت ضيقا وكنت أريد أن أستغل كل دقيقة من زيارتي القصيرة لمصر. كانت نيتي التجوال في شارع المعز وبعد ذلك التوجّه نحو قلعة صلاح الدين. كادت الرفوف الخشبية المنخفضة الارتفاع، إذ أنها مؤلفة من بضع رفوف فقط، كادت تختفي تحت الكومة الضخمة التي تكدّست فيها نعال المصلّين فوق بعضها البعض. وكم كانت فرحتي كبيرة حين وجدت حذائي هناك، سليما معافى، على مكانه في الرف، دون أن تمسه أي يد بالأذى. لم أتعجب من العثور على حذائي بقدر ما تعجبت من قدرة كلّ مصلٍّ من الذين أودعوا نعالهم تلك الكومة العشوائية في العثور على حذائه.
لكن هذا الأمر كان يحصل بصرف النظر عن تعجّبي من عدمه. وتعجبت أكثر من هذا وذاك لافتقاد جامع ذي مكانة عظمى في العالم الإسلامي كالأزهر الشريف لافتقاده لبعض المرافق التي توفر الحدّ الأدنى من الراحة للمصلّين كتوفر رفوف كافية للأحذية وكتوفر عدد كافٍ من جرات ماء الشرب. بل كنت لسبب ما أتخيّل وجود سبيل لماء الشفة داخل حرم المسجد العظيم، لكن عيني لم تقع على شيء من ذلك.
قبل التوجّه نحو شارع المعزّ بعبور نفق المشاة إيابا باتجاه مسجد سيدنا الحسين، أخذتني قدماي تلقائيا للتجول في أحد الشوارع المحاذية لسور الحرم الأزهري. كان شارعا ضيقا شأنه في ذلك شأن شوارع القاهرة القديمة، وكان مكتظًّا بالدكاكين والحوانيت. والمشاة بعد الصلاة في غدوٍّ ورواح. ورحت أحثّ الخطى على غير هدى وغاية اللهم إلا التضلّع والتشبّع من تلك المشاهد التي تركتني مشدوها. فكل ما رأيته في القاهرة القديمة عجيب. وكان تعجبي وإعجابي لا ينقطعان. ويمرّ فتى يحمل صينية عليها أكواب بلاستيكية من مشروب بلون بنفسجي مطعَّم باللون الزهر، ويمر آخر وآخر. وتذهب عيناي إلى التقاط كل تلك الصور المتتابعة التي تغزو شبكيتيها، وتترك دماغي متخما بالمشاهَدات والمعلومات والانطباعات.
وكانت المكتبات هي مما لفت انتباهي في ذلك الشارع الأزهري. رأيت الأولى فالثانية فالثالثة. كانت أبوابها جميعا مشرعة للزبائن، كما أبواب سائر المحلات في ذلك الشارع. وتتّسم جميع الحوانيت والدكاكين بضيقها الملحوظ. ولم تشذّ المكتبات عن ذلك. وإنني لئن كنت قد استصغرت حجم مكتبة مدبولي الشهيرة في ميدان طلعت حرب في اليوم السابق، فإن المقارنة مع مكتبات هذا الشارع الأزهري تجعل من مكتبة مدبولي ميدانا فسيحا.
لم يكن في نيّتي شراء أيّ شيء من ذلك الشارع الأزهري، لكنني لم أشأ أن أخالف المثل الذي يقول “من دخل السوق باع واشترى”، فوجدتني في واحدة من تلك المكتبات أنتقي مجلديّ كتاب “الموافَقات” في أصول الشريعة للشاطبي والرسالة القشيرية للإمام القشيري في التصوّف، وكتابًا يشرح الآجرومية ورابعا عن كيفية وأهمية القراءة.
كانت الى جانبي امرأة منقّبة، تطلب كتابًا معيّنا من البائع ذي اللحية المحنّاة بحنّةٍ صفراء على برتقالية، وحين نطق البائع بسعر مشترياتي، استرخصتها كثيرا مقارنة بما رأيته بالأمس في المكتبة الشهيرة بميدان طلعت حرب. وضع البائع لي كتبي في كيس نايلون متين، وانطلقت مسرورا محبورا بمقتنياتي من الكتب بجوار الجامع الأزهر الشريف. لو كان الأمر بيدي لكنت اشتريت المجلدات والمجلدات من كتب التراث الإسلامي والعربي في علوم الدين والفقه واللغة والتاريخ والأدب. لكن القيود الموضوعة على وزن الحقائب في المطارات في هذه الأيام تفرض على المرء أن يكون مقتصدا في الوزن وحاسبا له بدقة شديدة.
حاملا كيس الكتب بيمناي، انطلقت نحو شارع المعز. عبرت نفق المشاة مجددا. وجدت نفسي أمام مسجد سيدنا الحسين مجددا. أرشدني بعد سؤالي أحد المارّة إلى كيفية الوصول إلى شارع المعز. تبعت الإرشادات. وأخيرا وجدت نفسي في شارع وسط القاهرة الأعظم وقصبتها التي كانت وما تزال عليها تدور رحى هذه المدينة العظيمة منذ قرون. وهذه هي المدينة التي تعجّب منها العلّامة العبقري إبن خلدون واعتبرها أعظم مدن الدنيا والتي لم يخالفه الرأي إزاءها ياقوت الحموي البغدادي في مصنّفه التراثي الشهير “معجم البلدان”.
لم تكذّب عيناي الخبر. فكل ما وجدته في القاهرة القديمة كان رافدا عظيما يصب في نهر العظمة الأعظم ويجعل منه بحرا جاريا لا يجارى ولا يضاهى. تلكم هي القاهرة بكامل أبهتها وعظمتها وعجائبها. وكان نهار الجمعة ذاك كافيا لكي ترجح في كفتي أفضلية القاهرة القديمة على أهرامات الجيزة كمعلم سياحي وتاريخي وتراثي بشكل جازم وقاطع لا شك فيه ولا لبس. بل أخذني التعجب من تركيز العالَم على الأهرامات كأبرز المعالم السياحية والإتيان على ذكر القاهرة القديمة بخجل ووجل وكأنها لا تستحق الالتفات، وهي لعمري أكثر ما يستحق الالتفات والاهتمام والاحتفاء في مصر.
ورحت أحث الخطى في شارع المعز لدين الله الفاطمي، شارع القاهرة الأعظم وقصبتها وقطب رحاها لقرون وقرون. أخذتني هذه المباني التراثية إلى الأزمنة المملوكية والأيوبية والفاطمية والعباسية، وكانت كل تلك المعالم البهية تنطق بأحداث التاريخ وتهمس في الآذان الرهيفة والأسماع المتلهّفة اليقظة. ورغم ضيق الشارع واغتصاصه بالمارّة، فلم يكن يخلو من درّاجة نارية ولا سيارة هذا دون الحديث طبعا عن الدرّاجات الهوائية. وفي لحظة معيّنة يمر فتى مراهق بسرعة عجيبة على دراجة هوائية، مخترقا جموع المارة بمهارة ورشاقة عجيبتين. والأعجب من هذا بأضعاف أنه كان يضع يدا على مقود مركبته ذات العجلتين واليد الأخرى يمسك بها بصينية ضخمة مثبتة على رأسه الفتيّ ومملوءة بأرغفة سمراء من العيش المصري الأسمر ذي المنظر الشهي البهي.
قلت في نفسي حين معاينتي لذلك الفتى: هذا لا وقت لديه للهشاشة النفسية بسبب خيبة عاطفية أو بسبب تنمر في العمل أو بسبب عدم الحصول على إعجابات في وسائل التواصل الاجتماعي. هذا الفتى لا يملك ترف الهشاشة النفسية والعلاجات عند أخصائيي علم النفس ومدربي التنمية البشرية. هذا الفتى غارق في معترك الحياة حتى أذنيه وساعٍ وراء لقمه عيشه بأرغفة عيش يضعها فوق رأسه بكل براعة وبعدم انتظار صور يضعها على صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي لنيل التفاعلات والإعجابات.
وهذا هو شارع المعز النابض بالحياة وبالحيوية منذ قرون وقرون، وليس الخبر كالمعاينة، وليس البيان كالعيان، وليس الكلام كالشُهُود، وليس الغياب كالحضور، وليس الذين يكافحون في سبيل الكفاف كممتلكي الوقت لترف الهشاشة النفسية وميوعة الحب والتأذي بكل شاردة وواردة.
كانت المقاهي المنتشرة على طول شارع المعزّ، تغريني بالجلوس في أحدها وبارتشاف العصير والشاي والقهوة وبشرب الماء البارد في ذلك الحرّ. لكن الوقت كان ضيقا في يومي ما قبل الأخير من إجمالي ثلاثة أيام في مصر. واليوم الثالث لا أستطيع إدخاله في الحساب، فهو يوم المغادرة إلى بيروت في حوالي الساعة العاشرة صباحا، وبالتالي فلا وقت فيه للتجول والسياحة. إذًا هما يومان كاملان عليّ أن أستغلهما حتى الثمالة. وبما أنني كنت لا أريد مغادرة القاهرة بلا زيارة قلعتها الشهيرة، فلم أشأ أن أفرّط بالدقائق الثمينة بالجلوس بهدوء بال على مقهى ولو كان في شارع المعز. قاومت بكل عزة وإباء وتعفف إغراء المقاهي، ومضيت في سبيلي في ذلك الشارع التراثي العظيم.
لكنني لم أستطع أن أقاوم إغراء مَعلَمٍ سياحي وتراثي عندما مررت بمحاذاته. هو بناء أثري مهيب من العصر المملوكي، كان يخدم كمدرسة وبيمارستان للأمراض العقلية والنفسية، وفيه مدفن بانيه وهو أحد سلاطين المماليك. كان بدل الدخول زهيدا بالجنيهات المصرية، فدخلت ورحت أتجول في ذلك المبنى التاريخي المهيب. كانت السكينة تحيط به، وكنت سأكون الوحيد هناك في تلك الساعة لولا مصادفة وجود مجموعة من بضعة أشخاص من المصريين، يتوسطهم فتى يشرح لهم عن المكان وعن معنى اسم السلطان المملوكي. أذكر أنه كان يقول لهم أن اسمه عائد إلى البطّ، لأنه كان أعرج بسبب جرحه في إحدى المعارك، وشُبّهت مشيته العرجاء بمشية البطّ، وصارت له كنية غلبت اسمه الأصلي. وكان ضريحه هناك وسط مدرسته ومستشفاه!
على بعد خطوات قليلة من ذلك المَعلَم، كان هناك معلم آخر لم أقاوم إغراء دخوله. إنه المبنى التاريخي حيث يقع ضريح نجم الدين أيوب، الملك الأيوبي الذي تزوج السلطانة الشهيرة شجرة الدرّ التي لقيت حتفها بطريقة بشعة إثر ضربها بالقباقيب من قِبل جواريها. كانت تعرفة الدخول جنيهات زهيدة. دخلت هناك والتقطت صورة بجوار الضريح. على أحد جدران حجرة الضريح في الأعلى كتابة بخط عربي قديم تعرّف بهوية صاحب القبر السلطان نجم الدين أيوب.
وواصلت المسير وتابعت التقاط كل ما تقع عيناي عليه من صور ومشاهَدات، وراحت الذاكرة تخزّن بشكل تلقائي كل هذا. ولعل الذاكرة هذه أدركت بحدسها أن كل ما كانت تخزنه وتحفظه في ذلك اليوم المشهود لصاحبها لم يكن قليل الشأن، فاجتهدت غاية اجتهادها في التخزين والحفظ بعناية شديدة. ولم يبقَ أمامي إلا التوجّه إلى القلعة نظرا لضيق الوقت في تلك الساعة التي بدأت تقترب من موعد صلاة العصر في يوم الجمعة ذاك. وصلت إلى ميدان دلّني عليه أحدهم بعد الفراغ من شارع المعزّ. في ذلك الميدان وقفت أنتظر سيارة أجرة للصعود إلى القلعة.
(يتبع)