“ثورة 23 “يوليو” لم تكن حُلمًا!
خاص “المدارنت”..
مهما كان موقف أحدنا الطبقي أو الأيديولوجي أو السياسي أو حتى البراغماتي، فإن ثورة 23 يوليو 1952 كانت حدثا مؤثرا في حياته ومواقفه وتطلعاته. وهي تحتل موقعا بارزا في تفكيره ورؤيته، ولا أبالغ إذا قلت إنها ما تزال تحكم تصرفاته ورؤيته وخيارات.
ولأنها ما زالت حاضرة بقوة في حياتنا، وتفكيرنا، فإن أي تطلع للمستقبل لا يمكن أن يتجاوز هذا الحضور، بالإيجاب أو السلب.
وفي صلب مكونات هذه الثورة وتجربتها الحياتية ما زالت شخصية قائدها جمال عبد الناصر حاضرة أيضا في ذاكرتنا، وفي مخيلتنا، سواء كنا ممن ارتبط بتلك الشخصية واعتبرها نموذجا يحتذى، أو ممن رأى فيها تحديا طاغيا للنموذج الذي ألفه من القيادة.
ولأن الفصل بين ثورة 23 يوليو، وشخصية قائدها يصعب تصوره لذلك فإن الضوء يسلط على الاثنين معا باعتبارهما شيئا واحدا، الحسنات والمثالب على السواء.
وبهذه المناسبة أعتقد أن من الأهمية بمكان أن نراجع بعض المفاهيم أو الأفكار التي ارتبطت برؤيتنا لهذه الثورة، وحكمت موقفنا منها:
1 ـ بغض النظر عن موقفنا منها يجب أن نقر أننا أمام ثورة، أرادت وعملت على تغيير المجتمع: تغيير مكانة وموقع القوى الطبقية والاجتماعية فيه، تغيير استهدافات التنمية والعمل الاجتماعي، إحداث تغيير حقيقي في القوى التي تملك الثروة في المجتمع وفي توزيع هذه الثروة، تغيير في الانحيازات والتحالفات الخارجية، ثم تغيير في مفهوم السلطة.
هذه حقيقة من حقائق ثرة يوليو لابد من الإقرار بها، سواء كنا من أنصارها، أو كنا من أنصار النظام الملكي، وسواء كنا ننتمي إلى الطبقة الاقطاعية، أو كنا من العمال والفلاحين. أو كنا من الطبقة الوسطى التي كانت من استهدافات الثورة، وكذلك سواء نجحت الثورة في الوصول إلى كامل أهدافها فيما أرادت أم لا، الاعتراف بهذه الحقائق يتصل بالرؤية والتقييم الموضوعي للحدث، وليس بالموقف الشخصي منه.
2 ـ لا شك بأن الذي قام بالثورة هو الجيش، وقد تحقق له بطبيعته عنصري، “امتلاك القوة، وتوفر الضبط والربط”، بما يمكن من تحريك وتوجيه هذا القوة بالسرعة والحسم المطلوبين.
ولم يأت دور الجيش هنا افتئآت على الحياة الاجتماعية، ولا تعديا على أدوار قوى أخرى في المجتمع، وإنما جاء هذا الدور بعد أن عجزت القوى السياسية في المجتمع على انجاز هذا التغيير، وبعد أن صار التغيير مطلوبا وضروريا، وفي حدود ما قرأت واطلعت عليه بشأن تلك المرحلة، فليس هناك خلاف على أن” بنية السلطة الرئيسية والفرعية في المجتمع المصري”، والمتمثلة بسلطة الملك والبرلمان والأحزاب وصلت إلى مرحلة من العجز لم تعد خافية، بل إن الجميع كان ينتظر تحركا من الجيش يخرج المجتمع والدولة المصرية من حالة العطالة التي كانت قد أحاطت بهما تماما، وبالتالي فإن الجيش تحرك في 23 يوليو في ساحة وميدان أفرغ له، ولم يكن هناك من هو قادر على ملئه غيره، لذلك كان حقا القول إن الظروف الموضوعية “استدعت الجيش للقيام بهذا الدور وإنجاز هذه المهمة”.
3 ـ أن الجيش الذي استدعي لهذه المهمة لم يكن جيش الملك والطبقة الحاكمة التي تمثل الاقطاع وراس المال، والمتحالفة والمتعاونة أو المتلائمة مع حقيقة الوجود البريطاني رغبا أو رهبا، وإنما هذا الجيش ـ كان بفعل التغييرات التي أحدثها فتح الكلية الحربية أمام الطبقات الشعبية ـ بات يضم في بنيته ضباطا من هذه الطبقات بالإضافة إلى أبناء ” الذاوات” الذين كانوا يشكلون الطبقة العليا في هذا الجيش.
ومن ضباط “الشعب” ـ إن جازت التسمية ـ ولد تنظيم الضباط الأحرار، وولدت ثورة 23 يوليو. ومن هذا الانتماء ولدت أهداف الثورة الستة الاجتماعية والتحررية.
من هنا فإننا لسنا أمام “انقلاب عسكري” مفاجئ تسلم فيه العسكريون السلطة بقوة السلاح، كما حدث في سوريا قبل ثورة يوليو، وبعدها، أو في دول أمريكا اللاتينية، حيث كان تسلم العسكريين السلطة مجرد تغيير في الأشخاص ـ وهي غالبا ما تأتي نتيجة تدخل قوى خارجية تتطلع إلى السيطرة على هذا البلد أو ذاك ـ أو لتعطيل مسار ديموقراطي في هذا البلد أو ذاك أمكن له أن يأتي بقوى شعبية لا تحقق مصالح الدول الكبرى الامبريالية كما حدث في انقلاب ” بينوشيه” في تشيلي عام 1973 ، وإنما نحن أمام عملية تغيير قامت بها القوة الوحيدة المنظمة والمالكة للقوة، والمنتمية لطبقات اجتماعية غير تلك التي كانت تحكم، وهي قوة كانت تمارس السياسة على طريقتها الخاصة ، وكانت تشارك كقوة متميزة في أحداث الوطن (تدريب الفدائيين، انتخابات نادي الضباط، طبع وتوزيع المنشورات السياسية… الخ)..
ولعل هذه الحقيقة هي ما يعمل الكثيرون على طمسها في هذه المرحلة حين يروجون بأن ثورة 23 يوليو هي بداية ” حكم العسكر” في بلادنا، وأن علينا أن نرفع شعار “اسقاط حكم العسكر” ونعمل على تحقيقه، إن هذا تزييف للوعي، من نوع تزييف وصف ثورة يوليو أنها مجرد ” انقلاب عسكري”.
نحن، في حياتنا الاجتماعية والسياسية في كل بلداننا، العربية، والإسلامية، وفي العالم الثالث، نحتاج إلى فهم ودراسة دور الجيش في الحياة السياسية، وأثر هذا الدور، ليس من زاوية التعارض أو الهدم لهذا الدور، وإنما من زاوية التكامل والتناغم مع هذا الدور، وجعله دورا إيجابيا في مجمل حياتنا وتطلعاتنا للمستقبل، إن الجيش في مجتمعاتنا هو القوة الوحيدة المنظمة والمنضبطة، والتي تنتمي إلى القطاع الواسع من التكوين الاجتماعي، والعمل على عزله واتخاذ موقف مضاد ومدين له، أو حذر ومتوجس منه، أو موقف متهيب ومبتعد عنه، هو موقف خاطئ لأنه في ظل ظروفنا ومرحلتنا التاريخية غير ممكن، ويخلق بيئة معادية للعمل السياسي المدني، ويحول الجيش إلى أقلية غير مؤتمنة، تعيش حالة قلق وخوف، وكل هذا مما يعطل أي إمكانية للتغيير.
وهنا قد يكون مناسبا التنبيه إلى أن “الاستبداد” الذي توصف به السلطات التي يهيمن عليها الجيش، ليس اختصاصا وصفةً لهذه السلطات العسكرية وأمثالها حصريا، ولمن شاء أن يجيل نظره في كل البلاد العربية، منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم، وسيجد أن الاستبداد سمة من سمات كل هذه النظم. جمهورية كانت أم ملكية، قائمة على مبدأ الحزب الواحد أم تعدد الأحزاب، وسواء كانت أحزابها ذات سمات ليبرالية أو دينية أم عقائدية. تقودها أحزاب متصارعة، أو يقودها الجيش عبر انقلابات تتوالى.
4 ـ ونحن أمام حدث ثورة يوليو يبرز جمال عبد الناصر بموقعه قائدا فردا لا يطاوله أحد في مكانته، وقد يعتبر البعض أن هذه المكانة هي نتاج الثورة، أي نتاج السلطة التي تمكن منها، لكن التدقيق في هذا الأمر يدحض بسرعة هذا الوهم.
فقبل الثورة يسجل لجمال عبد الناصر أنه باني حركة الضباط الأحرار، ويسجل في تاريخ هذه الحركة أن قيادة الضباط الأحرار قبل يوم 23 يوليو، انتخبت جمال عبد الناصر رئيسا لها المرة تلو الأخرى وب “التصويت الحر” بين أعضاء من عرفوا لاحقا بمجلس قيادة الثورة، لذلك ما كان أحد ينازعه بعد نجاح الثورة في موقع القيادة، وحينما تم الاتفاق على تسمية اللواء محمد نجيب قائدا للثورة، ـ وقد كان شخصية عسكرية مرموقة ـ لم يكن هذا محل نزاع وتنافس بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وإنما كان محل اتفاق لتأمين نجاح الثورة، ولمنع كبار الضباط من أصحاب الرتب العليا من التكتل مع بعضهم حفاظا على وجودهم ومكاسبهم. وكانت هذه الحقيقة معروفة للجميع، لجميع الضباط، ولجميع السياسيين والصحفيين الذي كانوا يتابعون الثورة وتحركاتها، ولقد كان جمال عبد الناصر في ذلك الوقت وزيرا للداخلية ومن بعد ذلك رئيسا للوزراء.
وبغض النظر عن الاستفتاءات التي أجريت على منصب الرئاسة وذهبت بأغلبية غير مسبوقة لصالح عبد الناصر، فيجب أن نعترف أن هذه الاستفتاءات كانت “شكلية”، لأن الناس كانوا قد حسموا موقفهم ورأيهم قبل أن يأتي موعد الاستفتاء.
ولعل السبب الرئيس في حقيقة “شكلية” هذه الاستفتاءات، وعددها أربعة، أنها جاءت عقب أحداث هائلة ومعارك حاسمة كان فيها جمال عبد الناصر هو النجم، وجاء أداؤه مبهرا، وقاد الأمة إلى مواقع الاعتزاز والفخر والنصر، بل إنه حتى حينما سقط في امتحان عدوان حزيران / يونيو 1967، فإن نهوضا شعبيا غير مسبوق مصريا وعربيا على السواء ـ ولعله لكثيرين كان غير مفهوما ـ أعاد جمال عبد الناصر إلى سدة الرئاسة والمسؤولية وحمله مهمة إزالة آثار العدوان، وطغى هذا الموقف على النظام العربي كله، المؤيد والمعارض له على سواء. ومفيد هنا أن نذكر تواريخ هذه الاستفتاءات
** استفتاء الدستور واختيار جمال عبد الناصر رئيسا في يونيو/ حزيران 1956، وجاء هذا الاستفتاء بعد معاهدة الجلاء، ومؤتمر باندونج عام 1955، وثورة الجزائر، وكسر احتكار السلاح، وفي خضم معركة بناء السد العالي.
** استفتاء فبراير/ شباط 1958، الخاص ب “الوحدة السورية ـ المصرية” وقيام “الجمهورية العربية المتحدة” واختيار جمال عبد الناصر رئيسا
**استفتاء مارس / آذار 1965 لاختيار عبد الناصر رئيسا للمرة الثانية. وجاء بعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، وعمليات التحول الاشتراكي.
**استفتاء مايو/ أيار على بيان 30 مارس / آذار، عقب هزيمة حزيران، وبعد أن تمت مبايعة مصرية وعربية لجمال عبد الناصر لقيادة مرحلة إزالة آثار العدوان..
باحثون عدة يرون أنه كان بإمكان جمال عبد الناصر بما تحقق له من شعبية وثقة، أن ينقل ” ثورة يوليو” من ميدان احتكار السياسة إلى ميدان التعددية السياسية والحزبية، وبالتالي أن يمنح الثورة فرصة “الحصانة والحماية الشعبية”، بدل أن تبقى رغم كل شعبيتها وجماهيريتها ـ في حصانة وحماية القوات المسلحةـ لكن هذا الرأي على وجاهته، وأهميته، يبقى قراءة للثورة خارج سياقها وزمانها.
5 ـ ثورة 23 يوليو حملت مشروع تغيير لمصر وللأمة العربية وللدور العربي في العالم، وحددت منذ بدايتها دوائر عملها الثلاثة: الدائرة العربية ، والدائرة الإسلامية والدائرة الإفريقية. البعض يرى أن حرب السويس بعظمتها أطلقت الفكر القومي في ثورة يوليو، وهذا تصوير قاصر، فالفكر القومي أساس من أسس هذه الثورة سبق هذه المعركة، وإذا كانت ” فلسفة الثورة قد حددت الدوائر الثلاثة التي تراها الثورة وقائدها مجالا للحركة والفعل، فمهم أن نتذكر هنا أن التزام ثورة يوليو تجاه ثورة الجزائر ـ وهي أهم التزام قومي لثورة يوليو وأخطره ـ سبق معركة السويس بل كان من عوامل تكوين وتشكيل قوى العدوان في هذه المعركة، فقد انطلق بيان العمليات الأول للثورة في الفاتح من نوفمبر 1954، بل إن أحد أسباب انشاء إذاعة صوت العرب ـ 4 يوليو 1953 ـ كان لنصرة ثورة الجزائر، ولنصرة عمليات التغيير التحرير في مختلف أقاليم الوطن العربي، ولتكون أداتها الإعلامية في التوجيه والتحريض والحشد.
وعلى أصداء هذه الدوائر الثلاثة ولد دور مصر في حركة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وولدت خطط ومفاهيم تطوير الأزهر لخدمة المسلمين في كل مكان، وتحولت القاهرة الى مركز اجتماع لكل حركات التحرر العربي والإفريقي، ومركز اشعاع فكري على كل المستويات.
ولم يكن حمل عبء هذا الدور بالأمر السهل، بل كانت له تكاليف مادية، وأمنية وعسكرية باهظة حملتها مصر لوحدها بحكم دور الريادة الذي هيأته لها عوامل التاريخ والجغرافيا السياسية والثقل الحضاري والسكاني، وبحكم المسؤولية التاريخية التي بات على مصر أن تتحملها.
وفي خضم هذه المسيرة وقعت الثورة في أخطاء عديدة، ووقع قائدها أيضا، وهي أخطاء مكنت من فصم عرى الوحدة السورية المصرية في 28 أيلول سبتمبر 1961، ومكنت بعد ذلك من وقوع نكسة حزيران / يونيو 1967، ومكنت أخير من اقتناص فرصة قضاء الله وقدره بوفاة جمال عبد الناصر للنكوص عن خط الثورة كله، ولاستخدام قداسة الدم الوطني، دم الجيش والشعب الذي أعد لاستعادة الأرض ومسح آثار عدوان حزيران 67 للنكوص عن هذا الطريق، وفتح أبواب الوطن للولايات المتحدة وللحركة الصهيونية العالمية، وتم بالاستناد إلى انجاز حرب أكتوبر/ تشرين العبور بالوطن ليس إلى بر السلامة والأمن والتحرير، وإنما إلى بر التبعية والخذلان، وتم تدريجيا وبشكل مثابر نقض كل ما تم بناؤه خلال تجربة جمال عبد الناصر.
وتمّ التحلل تدريجيا من كل ما التزم به جمال عبد الناصر وطنيا وقوميا وعالميا، وتم اسقاط فكرة الاستقلال الوطني، والتنمية المستقلة، والالتزام تجاه قوى العمل الوطني، وصارت القيمة الحقيقية للوطن كله وللمواطن كله متمثلة بالمال، وبالمال فقط، وبقيم هذا المال، والثروة الشخصية، وبالنجاح في اكتساب هذه الثروة، حتى بتنا في أواخر دول العالم، وصرنا مكشوفين على كل الصعد: اقتصادنا مكشوف مثقل بديون تتزايد في كل يوم، وفي كل عهد، وحدتنا الوطنية مكشوفة مثقلة بالانقسامات الطائفية والعرقية، انتماؤنا القومي مكشوف ومثقل بفكرة الخصوصية والتحلل من عبء أي التزام قومي، جيوشنا مكشوفة ومثقلة بالاتفاقات الأمنية والعسكرية مع القوى المعادية للأمة.
وقد نقف كثيرا أو قليلا أمام ما وقعت فيها الثورة من أخطاء وما وقع فيه قائدها أيضا، لكن هذه الوقفات لا قيمة لها، ولا تعني في هذه المرحلة شيئا، لأن معظمها وقفات لا تريد الخير لهذه الأمة، وإنما تريد أن تمحو من ذاكرتنا وحياتنا تلك الأيام المجيدة والعظيمة التي عشناها مع جمال عبد الناصر، لا تريد أن تقنعنا بأن عبد الناصر أخطأ هنا أو هناك، وإنما تريد أن تقنعنا بأن هذا السبيل، هذا الطريق، هذه الأهداف الملتزمة بوحدة الأمة وتحررها وتقدمها واستقلالها، ودورها في دوائرها المختلفة، كانت كلها هراء، وأننا يجب الإقلاع عن هذا الطريق، بل يجب إدانته، واعتباره خطأ وقعنا فيه، وخطرا دخلنا في حومته، وأن الدول القائمة وحدودها محرمات لا يجوز للمواطن العربي تجاوزها بدعوى انتمائه للأمة واحدة، فهذه دعوى ـ بعرفهم الراهن ـ باطلة، ومدمرة، أما أن يتنقل أعداء الأمة بين جنبات هذه الدول كيفما شاءوا، فهذا مطلوب ومرغوب فيها باعتباره مظهرا من مظاهر السماحة والانفتاح والسياحة والدخل.
يصدق هذا على النظرة إلى كل مسار عبد الناصر.
وما زلنا نتحدث في هذه المرحلة، مرحلة ” طوفان الأقصى” فإن المسعى الخطير يصبح في إقناعنا أن “طوفان الأقصى” كله القائم على فكرة الحق بمقاومة المتحل، وبكل ما حقق وحوى واستهدف، كان خطأ وقعت فيه المقاومة، التي كان وجودها أصلا وجود خاطئ، يريدون في هذا المرحلة أن يقنعونا بأن الحوار مع العدو ـ الذي بدأ قبل خمسين عاما ـ هو طريق السلامة، وأن القدس ليست شيئا يستأهل الدفاع عنه، وأن الصهيونية هي صاحبة الحق في فلسطين، وأن الحديث عن التزام عربي قومي تجاه فلسطين، أو التزام إسلامي ديني تجاه فلسطين والقدس، أو التزام انساني تجاه شعب يريد أن يتحرر، يريدون أن يقنعونا أن هذا كله جزء من “هوس” المرحلة السابقة الذي يجب أن نقلع عنه، ونعتذر عنه، بل ونكون المساهمين الأول في التعويض على من تضرر من هذا المسار المقاوم.
6 ـ في عهد جمال عبد الناصر كان هناك زعامات وطنية عديدة، من الصين وأندونيسيا في آسيا، إلى غانا وغينيا والكونغو في افريقيا، الى كوبا ودول أمريكا اللاتينية، لكن كمثل جمال عبد الناصر لم يظهر قائد أو زعيم، أتعب من حوله، وأتعب من رافقه، وأتعب من خاصمه، واستطاع بحق أن يمثل ” الأمة ليس بواقعها وإنما بما تريد أن تكون، بدورها وتطلعها وقيمها، وهو بهذا مثل نوعا من الزعامة المحمية بستائر من الأخلاق والمحبة والصدق. وبالتفاف جماهيري قل نظيره، حتى وهو في أضعف حالاته عقب هزيمة حزيران / يونيو، كان الجميع يُهرع إليه ليقينه بأنه صادق الموقف، قوي العزيمة، مخلص التوجه، نظيف اليد، عفيف النفس، ملتزم بقيم الدين، معلٍ لقيم العائلة، يبذل ل ما يستطيع أيا كانت صعوبة المرحلة التي يمر بها وطنه، يحمي من يلجأ إليه أيا كان موقفه وعداؤه السابق.
ولأن الصهاينة أدركوا بشكل مبكر هذه الصفات، ولأن الأمريكان أدركوا ذلك أيضا فقد رأوا أن المخرج الوحيد في التعامل مع عبد الناصر هو قتله، التخلص من شخصه، بغض النظر لمن يحقق هذه الأمنية، وكيف يتم تحقيقها، وكثيرا ما حاولوا ذلك.
كان مخيفا لعنصري الشر: الدولة العميقة في واشنطن، والحركة الصهيونية وكيانها، أن يفتح عبد الناصر قناة حوار مع الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي، وأن تكون هذه القناة قناة حوار في الفكر والتطلع، والرؤى، في العمل السياسي واخلاقياته وقيمه، وجاء هذا الحوار الثقافي الفكري السياسي في مرحلة من أخطر مراحل العلاقات الأمريكية / الإسرائيلية، حيث كان قادة الكيان يسعون إلى السلاح النووي، وكان كينيدي يرفض هذا المسعى، ويعمل على تقييده.
في مطلع العام 1961 تسلم كينيدي منصبه رئيسا للولايات المتحدة، وفي 20 فبراير من ذلك العام بدأت رسائل عبد الناصر إلى كينيدي وكان حدث اغتيال الزعيم الأفريقي باتريس لو مومبا 17 / يناير 1961 هي المناسبة، وكان الحديث عن فلسطين محورا رئيسيا في هذه المراسلة الأولى التي وصل عددها الى 11 رسالة، ثم تكرر الحديث مرة إثر مرة عن فلسطين في ابعادها المختلفة، وتناولت هذه الرسائل فيما تناولت الكثير من القضايا والأزمات ومنها حرب اليمن، ومنها التوجه للوحدة العربية، والتنمية والتصنيع العربي. وحين اغتيل كينيدي في 22 / نوفمبر 1963في تكساس، انقطع هذا الحوار، وانفتح الباب النووي واسعا للعدو الصهيوني، وشارك الرئيس الأمريكي الجديد لندن جونسون في عدوان يونيو 1967.
اغتيل كينيدي، ولم يعرف أحد أسباب الاغتيال ودوافعه، واعتبرت عملية الاغتيال غامضة وغير مفهومة، ولا شك أن هناك أسباب عديدة جدا داخلية وإقليمية ودولية يمكن ادراجها في محرضات الاغتيال، لكن من حقنا أن نشير إلى هذين العاملين باعتبارهما من العوامل التي أدت إلى الاغتيال أو إلى توليد الظروف الميسرة له، لأن مجمل السياسات الأمريكي عقب اغتيال كينيدي تحولت في هذا المجال الى النقيض.
لم يحدث من قبل، ولم يحدث بعد ذلك، أن فتحت قناة حوار وتبادل للفكر والثقافة والرؤى بين زعيمين على هذا المستوى، ولهذا المدى. أحدهما يمثل الدولة العظمى التي خرجت من الحرب العالمية الثانية يحمل أكاليل النصر التي لم تفتر بعد، والثاني يمثل أمة عظمى تتطلع إلى مكانها الحضاري والإنساني تحت الشمس.
6 ـ نحن جيل تربى في ميدان ثورة 23 يوليو وإليها ننتمي، نحن قبلها لم نعرف انفسنا تماما، ومن خلالها عرفنا انتماءنا الوطني والقومي والديني والإنساني، وعرفنا مسؤولياتنا على المستويات السابقة كلها.
كنا في لحظات وأوقات معينة نظن أننا لو رفعنا أيدنا الى الأعلى للامسنا القمر، أو قبضنا على الكواكب البعيدة. لم نكن نخشى على أمتنا، ولا على ديننا، ولا على مستقبلنا، ولا على أخلاقنا، ولا على مكانتنا في العالم، كان يكفي أن يشار إلينا بأننا من بلد ” جمال عبد الناصر” لنعلم أن مظلة من الحياة والحماية صارت فوقنا، مظلة عزة، وقوة، ومنعة، وأنفة.
كان هذا هو التفسير الحياتي العملي الواضح لشعار عبد الناصر بأن هدف الثورة الاجتماعية والتعليمي والتنموي هو توفير الطمأنينة للمواطن إزاء المستقبل فلا يكون قلقا عليه، داخل أوطاننا أو خارجها.
بل كنا ونحن نُطارَد من قبل أمن نظام الانفصال عقب جريمة 28 أيلول 1961، أو عقب الانقلاب البعثي عام 1963، ندرك أن هذا كله مؤقت، سيمر سريعا، فهناك الثورة، وهناك عبد الناصر، لم يكن يشغلنا كثيرا أي كلية جامعية ندخل، فكل جامعات مصر مفتوحة لنا، حتى في قلب هزيمة يونيو 1967 كنا على يقين أنها مهما عظم أثرها مجرد نكسة سنتجاوزها، وكنا نرى ونعايش ما يؤكد صحة رؤيتنا وتطلعنا.
7 ـ نحن من هذا الجيل، الذي عايش أيضا وعلى مدى أكثر من خمسين عاما لاحقة سيطرة القوى والسياسات والانحيازات المناقضة لما كان زمن عبد الناصر، انطلقنا نحن وكوريا الجنوبية معا في سباق التنمية، وكنا نتقدم عليها بأشواط حتى بعد عدوان حزيران، وبعد خمسين عاما واضح أين أصبحت وأين أصبحنا.
وعاينا كيف تمت التضحية بكل عناصر القوة في مجتمعاتنا، كيف تم تدمير هذه المجتمعات، كيف أصبح الانتماء للأمة الواحدة خطيئة تستوجب الملاحقة، وفي أوقات معينة تستوجب سحب الجنسية، والاتهام بالإرهاب، وكيف أن إظهار العداء للكيان الصهيوني بات عند الكثير من النظم من المحرمات، بل إن لبس الكوفية الفلسطينية ـ في تعبير هادئ بسيط عن الانحياز إلى أهلنا في غزة في محنتهم الراهنة ـ بات عملا من الأعمال المدانة التي تلاحق بدون هوادة، بأكثر مما يلاحق صاحبها في أي مكان على أرض هذه المعمورة. وقد يوصم صاحبها بالإرهاب، ومعنى هذه الوصمة هنا شيء يعجز الكثيرون عن تحمل آثاره.
في أصعب أيام الهزيمة قال عبد الناصر: “إن المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى ولسوف تبقى حتى تعيد تأسيس وطنها الفلسطيني وحتى يمارس هذا الوطن دوره في النضال الشامل لأمته العربية”.
من يستطيع اليوم في معظم الأنظمة القائمة، ومن معظم القوى السياسية أن يردد هذا الشعار ويلتزمه.
في ظل سياسات الخمسين سنة الفائتة صرنا جميعا مهددون، أفرادا ومجتمعات، جغرافيتنا الوطنية مهددة، ثرواتنا ضائعة ومهددة، قيمنا مهددة، حتى ديننا بات يتقاذفه “علماء” يتزاحمون على “السوشيال ميديا” يتسابقون في التكفير والتفسيق والتبديع ليس إزاء بعضهم فقط، وإنما إزاء علماء الأمة على مدى عصورها السابقة، وأعلام مذاهبها، وإنتاجها الحضاري، وقادتها التاريخيين، وما كل ما اعتبر يوما من مقدساتها.
في ظل سياسات الخمسين سنة الماضية لم يبق للأمة وزن حقيقي، ضاعت البوصلة التي جلتها ثورة يوليو، وأبانت اتجاهها، وفاعليتها، وأدواتها، واعتبرتها من ثوابت الأمة التي لا يجوز أن تحيد عنها، وكانت فلسطين في القلب من هذه البوصلة.
وكان البدء في كل هذه المسيرة من مصر التي خرجت عن ذلك الثوب، وما استطاعت أن تجد لها ثوبا آخر، ولن تستطيع، فكل ثوب لا يقده التاريخ، وتصنعه جدليته الخاصة لا يمكن أن يؤدي الى أي نتيجة إيجابية.
نحن من هذا الجيل، عيوننا دائما على مصر، كي تقوم بدورها، وعيوننا دائما على فلسطين بوصلة تحدد صحة الاتجاه، وعيوننا دائما على أوطانا لتكون دائما في المكان الصحيح.
8 ـ في ختام حديثنا عن ثورة يوليو، ليس بيننا من يتوقع أو يتطلع إلى عودة التجربة الناصرية، بما في ذلك نموذج قيادتها التاريخية، فهذا لن يكون، إذ لكل تجربة ظرفها التاريخي.
لكننا جميعا لم نر ـ حتى الآن ـ بعد سبيلا غير ذلك السبيل الذي اختطه جمال عبد الناصر لخروج الأمة مما وقعت فيه، من حالة الضياع والذل الراهنة، لم يقدم أحد للأمة رؤية استراتيجية ولا برنامج عمل يمكنها من تجاوز حالها الراهن، لذلك نحن ناصريون كنا وما زلنا:
** نحن نتمسك بهدف وحدة هذه الأمة وقوتها، وتنميتها، ومسؤوليتها تجاه محيطها الإسلامي، وتجاه القوى الحية في افريقيا وآسيا. ونعتبر الدم الوطني دم مقدس لا يجوز أن يراق إلا دفاعا عن الوطن ضد العدوان الخارجي، وإلا دفاعا عن مقدسات الأمة.
** نحن نتمسك بهدف أن يكون لهذه الأمة وجود على خارطة القوى الفاعلة في العالم، وأن تساهم في صوغ المشترك في القيم بين المجتمعات الإنسانية، المشترك المتسق مع عقيدة الأمة، وسنن الخالق في خلقه، أي تساهم في صوغ نظام عالمي جديد، لا يقوم على القوة الغاشمة وإنما على الحق والعدل وعلى قوة تحميهما.
** نحن نتمسك بالحرية السياسية والاجتماعية وبالديموقراطية باعتبارها حق مكتسب للمواطن داخل دولته، في أقاليمنا العربية، وفي كل دول المعمورة، لذلك نلتزم بالنضال المشترك ضد الاستعمار والعنصرية، وسياسات التمييز أيا كان دافعها، وضد سيطرة الشركات العملاقة على مقادير الشعوب.
** نحن نتمسك بالوحدة الجغرافية لكل إقليم عربي، وبالوحدة الوطنية في كل إقليم عربي، وندافع عنها، وندفع عنها الطائفية والاستبداد والتمييز العرقي والعقدي والثقافي، ونعتبر موقفنا هذا وجها أصيلا من ووجوه الالتزام الناصري، ونعمل وننمي كل عوامل التنوع الثقافي والروحي التي يضمها كل إقليم عربي، باعتبار ذلك من عوامل القوة والغنى في هذه الأقاليم، وهو كذلك من طبيعة حضارتنا العربية الإسلامية.
** نحن نتمسك بأن يكون العلم والعمل قيمة وشرف تتحدد على أساسه مكانة المواطن في مجتمعه، دون أي أساس آخر، وأن تكون الدولة بكل مؤسساتها في خدمة هذا المواطن، وفي تمكينه من ممارسة دوره في التوجيه والتنفيذ والقيادة.
** نحن نعتبر أن جوهر الاستقلال العربي يكمن في استقلال “فلسطين”، وما لم يتحقق ذلك فإن كل انجاز عربي مهدد بالزوال، وكل انجاز تحرري على مستوى العالم مهدد بالنكوص، ذلك أن الصهيونية العالمية التي أقامت هذا الكيان وتحميه تمثل أعتى أشكال العدوان على الانسان والإنسانية، وأسوأ أنواع التعدي على حقوق الانسان وقيمه وحضوره.
** ونحن ننظر إلى ثورة 23 يوليو من خلال هذه المبادئ والمواقف والرؤى العامة، وكل برنامج سياسي، وكل دعوة، وكل عمل يمضي على هذا الطريق، يمثل خطوة حقيقية إلى الأمام، وطموحا حقيقيا نتطلع إليه، ولا يهمنا هنا تحت أي راية تمت تلك الدعوة، أو تحقق ذلك الإنجاز.
بمثل هذه الروح ننظر ونتطلع ونعمل ونحيي ذكرى ثورة 23 يوليو ونلتزم بها، وهي عندنا في مكان عزيز، نستمد منه العزيمة والقوة والقدرة على التفاؤل بالمستقبل مهما بدا الواقع مظلمًا وكئيبًا.