حرب “إسرائيل” السرّية ضد المحكمة الجنائية الدولية.. سنوات من المراقبة والتدخل!
“المدارنت”..
مقدمة المترجم
بينما تواصل “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) عدوانها الوحشي ضد الفلسطينيين، تبرز معركة أخرى لا تقل أهمية وشراسة تخوضها على جبهة المحكمة الجنائية الدولية، حيث تتبع فيها سلسلة من التكتيكات لعرقلة التحقيقات المتعلقة بجرائم الحرب والانتهاكات ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. في المقالة المترجمة يكشف تحقيق مشترك عن عملية استخباراتية مديدة (امتدت نحو تسع سنوات من العام 2015) بإشراف كبار المسؤولين الحكوميين والأمنيين “الإسرائيليين” (الإرهابيين الصهاينة) للتصدي إلى إجراءات المحكمة الجنائية الدولية بدءً من الرصد المستمر للمدعية العامة السابقة للمحكمة فاتو بنسودا وفريق عملها بغرض معرفة تطورات التحقيقات والمعلومات التي يتم جمعها، والتحري عن اتصالاتها الخاصة مع بعض المسؤولين الفلسطينيين ومنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية وصولاً إلى تتبع نشاط و”تهديد” المدعي الحالي كريم خان للتعرف على نياته وتحركاته.
وشملت أعمال التجسّس مراقبة البريد الإلكتروني والاتصالات الهاتفية الخاصة ببنسودا وفريقها، كما كان أحد التكتيكات يركز على التشكيك في مصداقية التحقيقات عبر تقديم معلومات مضادة للأدلة المقدمة من قبل الفلسطينيين. فضلاً عن الضغط الديبلوماسي للتأثير على قرارات المحكمة. كما استغل الفريق القانوني “الإسرائيلي” ثغرات القانون الدولي والتفسيرات المتحملة لبنوده، لاسيما مبدأ التكاملية، بزعمهم توفر نظام قضائي “إسرائيلي” مستقل قادر على التحقيق في الجرائم المزعومة وبالتالي، لا حاجة لتدخل محكمة الجنايات الدولية. وقد ساعدت هذه الجهود “إسرائيل” في جمع معلومات استخبارية حساسة يمكن استخدامها للتأثير على مسار التحقيقات، وتعطيل التوجهات المبذولة لمحاسبتها على جرائمها ضد الفلسطينيين؛ بغية حماية قادتها السياسيين والعسكريين من الملاحقة القضائية الدولية والحفاظ على صورتها أمام المجتمع الدولي. (نهاية المقدمة).
نصّ التحقيق:
كشف تحقيق مشترك أجرته مجلة “+972” و “لوكال كول” و”الغارديان” عن عملية رصد ومراقبة إسرائيلية على مدار تسع سنوات (يعود تاريخها للعام2015) استهدفت مسؤولي محكمة الجنايات الدولية وجماعات حقوق الإنسان الفلسطينية، بإشراف مسؤولين حكوميين وأمنيين كبار، كجزء من عملية سرية بهدف إحباط أي تحقيق محتمل تقوم به المحكمة الجنائية الدولية للنظر في جرائم الحرب المزعومة ضد إسرائيل.
وشهدت العملية التي أشرفت عليها جهات متعددة، قيام مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بالمراقبة الروتينية للمدعي العام الحالي للمحكمة كريم خان، وسلفه فاتو بنسودا، وعشرات المسؤولين الآخرين العاملين في المحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة. كما رصدت المخابرات “الإسرائيلية” المواد التي قدمتها السلطة الفلسطينية إلى مكتب المدعي العام، فضلاً عن مراقبة أنشطة موظفين في أربع منظمات فلسطينية لحقوق الإنسان تعتبر تقاريرها ذات طابع أساسي في التحقيق. ووفقاً للمصادر، جندت العملية السرية أعلى فروع الحكومة الإسرائيلية، ومجتمع الاستخبارات، والنظامين القانونيين المدني والعسكري من أجل تعطيل التحقيق وإخراجه عن مساره.
وعملت الجهات المعنية على تمرير المعلومات الاستخباراتية المتحصل عليها بالمراقبة إلى فريق سري يتألف من كبار المحامين والديبلوماسيين الحكوميين “الإسرائيليين”، الذين قاموا برحلات متعددة إلى لاهاي لعقد اجتماعات سرية مع مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية في محاولة “لتزويد [المدعية العامة بنسودا] بمعلومات من شأنها توليد بذور شك لديها في الأساس الذي انبنى عليه أسباب تعاملها مع هذه القضية”. كما استخدم الجيش “الإسرائيلي” (الإرهابي الصهيوني) هذه المعلومات لفتح تحقيقات بأثر رجعي في حوادث كانت موضع اهتمام المحكمة الجنائية الدولية، لمحاولة إثبات قدرة النظام القانوني “الإسرائيلي” على محاسبة نفسه. بالإضافة إلى ذلك أدار الموساد (أي وكالة الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية) كما ذكرت صحيفة الغارديان -في وقت سابق-، عملية موازية بهدف المساومة على معلومات مسيئة متعلقة بالمدعية بنسودا وأفراد عائلتها المقربين كمحاولة واضحة لتقويض تحقيق المحكمة. وحاول الرئيس السابق للوكالة، يوسي كوهين، شخصياً “تجنيد” بنسودا والتلاعب بها للامتثال لرغبات “إسرائيل”، وذلك وفقاً لمصادر مطلعة على أنشطته، مما تسبب في خوف بنسودا على سلامتها الشخصية.
ويعتمد تحقيقنا على مقابلات مع أكثر من عشرين موظفاً من ضباط المخابرات الإسرائيلية حاليين وسابقين ومسؤولين حكوميين، ومسؤولين سابقين في المحكمة الجنائية الدولية، ودبلوماسيين، ومحامين مطلعين على قضية المحكمة وجهود إسرائيل لتقويضها. ووفقاً لهذه المصادر، حاولت العملية الإسرائيلية في البداية منع المحكمة من فتح تحقيق جنائي كامل. ولكن، بعد بدء التحقيق الكامل في العام 2021، سعت “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) إلى ضمان عدم توصل المحكمة إلى أي شيء يذكر.
علاوة على ذلك، ووفقاً لعدة مصادر، فإن جهود إسرائيل السرية للتدخل في التحقيق -والتي يمكن أن ترقى إلى حد الجرائم ضد تحقيق العدالة، والتي يعاقب عليها بالسجن- تمت إدارتها من أعلى المستويات السياسية في البلاد. وثمة من يردد بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أبدى اهتماماً كبيراً بالعملية، حتى أنه أرسل “تعليمات” و”مجالات اهتمام” لفرق الاستخبارات فيما يتعلق بمراقبتها لمسؤولي المحكمة الجنائية الدولية. وشدد أحد المصادر على أن نتنياهو كان “مهووساً، مهووساً، مهووساً” بمعرفة المواد التي تتلقاها المحكمة.
كان لدى رئيس الوزراء سبب وجيه للقلق: فقد أعلن [كريم] خان، الأسبوع الماضي، أن مكتبه يسعى للحصول على مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بالإضافة إلى ثلاثة قادة في الأجنحة السياسية والعسكرية لحماس، فيما يتعلق بجرائم الحرب وجرائم مزعومة ضد الإنسانية ارتكبت في أو منذ 7 تشرين الأول [الماضي]. وأوضح الإعلان أنه لا يزال من الممكن متابعة مذكرات توقيف إضافية -تعرض الأفراد الملاحقون قضائياً للاعتقال إذا زاروا أياً من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية البالغ عددها 124 دولة.
لم يكن إعلان خان مفاجئٌ للقيادة العليا في إسرائيل. فيذكر أحد المصادر تصاعدت حملة مراقبة المدعي العام في الأشهر الأخيرة إلى قمة الاهتمامات، مما أعطى الحكومة معرفة مسبقة بنواياه. وفي إشارة ذات دلالة، صدر عن [المدعي العام كريم] خان تصريحاً حمل في طياته الكثير من الغموض والتحذير بقوله: “أصر على أن جميع محاولات إعاقة أو تخويف أو التأثير غير المبرر على مسؤولي هذه المحكمة يجب أن تتوقف على الفور”.
ويمكن الكشف، الآن، عن تفاصيل جزء مما كان يحذر منه؛ أي “الحرب” التي شنتها إسرائيل منذ تسع سنوات، ومازالت تشنها، ضد المحكمة الجنائية الدولية. وتتعامل المحكمة الجنائية الدولية مع أفراد محددين يشتبه في ارتكابهم جرائم حرب؛ على عكس محكمة العدل الدولية، التي تتعامل مع الشرعية القانونية لتصرفات الدول، والتي أصدرت في الأسبوع الماضي حكماً ينظر إليه على أنه دعوة لإسرائيل إلى وقف هجومها على مدينة رفح جنوب قطاع غزة، في سياق التماس جنوب أفريقيا الذي يتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في القطاع.
وفي هذا السياق؛ لطالما اعتبرت إسرائيل أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لديها اختصاص مقاضاة القادة الإسرائيليين لأن إسرائيل، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة، وفلسطين ليست دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة. غير أن المحكمة الجنائية الدولية اعترفت بفلسطين كعضو فيها عند التوقيع على الاتفاقية في العام 2015، بعد أن تم قبولها في الجمعية العامة للأمم المتحدة كدولة بصفة عضو مراقب قبل ثلاث سنوات. وقد أدانت القيادة الإسرائيلية انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتباره شكلاً من أشكال “الإرهاب الدبلوماسي”.
واعتبر أحد المسؤولين الإسرائيليين هذا الانضمام “تجاوزاً لخط أحمر، وربما الأمر الأكثر عدوانية الذي قامت به السلطة الفلسطينية ضد إسرائيل على الساحة الدولية… من الجيد الاعتراف بك كدولة في الأمم المتحدة، لكن المحكمة الجنائية الدولية آلية ذات أنياب”. وحالما أصبحت فلسطين عضواً في المحكمة، طلبت السلطة الفلسطينية من مكتب المدعي العام التحقيق في الجرائم المرتكبة في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بدءً من 13 تموز 2014؛ تاريخ قبول دولة فلسطين اختصاص المحكمة.
فتحت فاتو بنسودا، المدعية العامة في ذلك الوقت، تحقيقاً أولياً لتحديد ما إذا كان يمكن استيفاء معايير التحقيق الكامل. وخوفاً من العواقب القانونية والسياسية للمحاكمات المحتملة، سارعت إسرائيل إلى إعداد فرق استخباراتية في الجيش والشاباك (المخابرات الداخلية) والموساد (المخابرات الأجنبية)، إلى جانب فريق سري من المحامين العسكريين والمدنيين، لقيادة الجهود الرامية لمنع قيام المحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق كامل. وتم تنسيق كل هذا تحت إشراف مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، الذي يستمد سلطته من مكتب رئيس الوزراء.
ويقول مصدر استخباراتي إن “الجميع؛ المؤسسة العسكرية والسياسية بأكملها، كانوا يبحثون عن الطرق التي تلحق الضرر بقضية السلطة الفلسطينية… وقد شاركوا جميعهم في ذلك: وزارة العدل، قسم القانون الدولي العسكري [جزء من مكتب المدعي العام العسكري]، الشاباك، مجلس الأمن القومي. ورأى [الجميع] في المحكمة الجنائية الدولية شيئاً مهماً للغاية، كحرب يجب شنها، ويجب الدفاع عن إسرائيل ضدها. حتى إن هذه الأمور وصفت بمصطلحات عسكرية”.
لم يكن الجيش مرشحاً واضحاً للانضمام إلى جهود الشاباك لجمع المعلومات الاستخباراتية، لكن كان لديه دافع قوي يتمثل في منع قادته من إجبارهم على المثول أمام المحكمة؛ ويوضح أحد المصادر الأمر قائلاً: “أولئك الذين أرادوا حقاً [الانضمام إلى الجهد] هم جنرالات الجيش الإسرائيلي أنفسهم -كان لديهم مصلحة شخصية كبيرة جداً… قيل لنا إن كبار الضباط يخشون تقلد مناصب في الضفة الغربية لخوفهم من الملاحقة القانونية في لاهاي”.
ووفقاً لمصادر عديدة، كانت وزارة الشؤون الاستراتيجية “الإسرائيلية”، متورطة في مراقبة منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية التي كانت تقدم تقارير إلى المحكمة الجنائية الدولية ، حيث كان الهدف المعلن للوزارة في ذلك الوقت مكافحة “نزع الشرعية” عن إسرائيل،. ووصف جلعاد إردان، رئيس الوزارة في ذلك الوقت وممثل إسرائيل الآن لدى الأمم المتحدة، مؤخراً سعي المحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال بحق القادة “الإسرائيليين” بأنه “مطاردة ساحرات مدفوعة بكراهية اليهود المحضة”. اعتمدت حرب “إسرائيل” السرية ضد المحكمة الجنائية الدولية بشكل مركزي على المراقبة، وكان المدعون العامون أهدافاً رئيسةً لعملية المراقبة هذه. وأكدت أربعة مصادر مختلفة أن التبادلات الخاصة التي أجرتها بنسودا مع مسؤولين فلسطينيين حول قضية السلطة الفلسطينية في لاهاي كانت تتم مراقبتها بشكل روتيني ومشاركتها على نطاق واسع داخل مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي. وأوضح أحد المصادر أن “المحادثات كانت عادة حول تقدم المحاكمة: تقديم وثائق أو شهادات أو الحديث عن حدث وقع… من قبيل: “هل رأيت كيف ذبحت إسرائيل الفلسطينيين في المظاهرة الأخيرة؟”.
ولم تكن المدعية السابقة الهدف الوحيد. فقد خضع العشرات من المسؤولين الدوليين الآخرين المرتبطين بالتحقيق للمراقبة بطريقة مشابهة. وقال أحد المصادر إن هناك لوحة بيضاء كبيرة تحمل أسماء نحو 60 شخصاً كانوا تحت المراقبة، نصفهم [على الأقل] من الفلسطينيين والنصف الآخر من دول أخرى، بمن فيهم مسؤولو الأمم المتحدة وموظفو المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
وأشار مصدر آخر إلى مراقبة الشخص الذي كتب تقرير المحكمة الجنائية الدولية عن حرب إسرائيل على غزة في العام 2014. وقال مصدر ثالث إن المخابرات الإسرائيلية راقبت لجنة تحقيق تابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في الأراضي المحتلة، من أجل تحديد المواد التي كانت تتلقاها من الفلسطينيين، “لأن نتائج لجان التحقيق من هذا النوع عادة ما تستخدمها المحكمة الجنائية الدولية”.
وفي لاهاي، تم تنبيه بنسودا وكبار موظفيها من قبل مستشارين أمنيين وعبر القنوات الدبلوماسية بأن “إسرائيل” تراقب عملهم، مما جعلهم يتوخون الحذر وعدم مناقشة بعض الأمور بالقرب من الهواتف. ويقول مسؤول كبير سابق في المحكمة الجنائية الدولية: “علمنا بنيتهم الحصول على معلومات حول موضعنا في التحري الأولي [قبل صياغة التقرير]”.
ووفقاً لمصادر أخرى، وجد البعض في اهتمام الجيش الإسرائيلي أمراً مثيراً للجدل كونه يكشف تعامل المخابرات العسكرية مع أمور سياسية لا تتعلق بتهديدات أمنية مباشرة. وقال مصدر آخر: “استخدمت موارد الجيش الإسرائيلي لمراقبة فاتو بنسودا -وهذا ليس بالأمر المشروع؛ كاستخبارات عسكرية”. وأوضح غيره كيف “كانت هذه المهمة غير عادية حقاً؛ بمعنى أنها كانت داخل الجيش، لكنها تعاملت مع أشياء غير عسكرية تماما”. لكن آخرين كانوا أقل تردداً؛ فقد زعم أحد المصادر المكلفة بمراقبة بنسودا أنها “كانت منحازة بدرجة عالية جداً… لقد كانت صديقة شخصية للفلسطينيين. لا يتصرف المدعون العامون عادة بهذه الطريقة. إنهم يبقون على مسافة بعيدة [من الجميع].
ونظراً لأن منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية كانت تقدم بصورة متكررة موادٌ لمكتب المدعي العام عن الهجمات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وتوثق -بالتفصيل- الحوادث التي تريد من المدعي العام النظر فيها كجزء من التحقيق، فقد أصبحت هذه المنظمات بحد ذاتها أهدافاً رئيسةً لعملية المراقبة “الإسرائيلية”. وهنا، أخذ الشاباك زمام المبادرة.
وبالإضافة إلى مراقبة المواد التي قدمتها السلطة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية، رصدت المخابرات “الإسرائيلية” أيضاً المناشدات والتقارير المقدمة من جماعات حقوق الإنسان التي تضمنت شهادات لفلسطينيين تعرضوا لهجمات المستوطنين والجنود الإسرائيليين. كما راقبت إسرائيل هؤلاء الشهود أيضاً.
وأوضح مصدر استخباراتي أن “إحدى [الأولويات] كانت معرفة من [في جماعات حقوق الإنسان] يشارك أو متورط في جمع هذه الشهادات، ومن هم الأشخاص المحددون -الضحايا الفلسطينيون- الذين يتم إقناعهم لتقديم شهاداتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية”.
ووفقاً للمصادر، كانت الأهداف الموضوعة تحت المراقبة الرئيسة أربع منظمات فلسطينية لحقوق الإنسان هي “الحق”، و”الضمير”، و”مركز الميزان”، و”المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان”. وأرسلت مؤسسة “الضمير” مناشدات إلى المحكمة الجنائية الدولية حول ممارسات تعذيب ضد السجناء والمحتجزين، بينما أرسلت المنظمات الثلاث الأخرى مناشدات متعددة على مر السنين عن مشروع الاستيطان “الإسرائيلي” في الضفة الغربية، وهدم المنازل كإجراء عقابي، وحملات القصف في غزة، وبيانات عن قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين بارزين محددين.
وقال مصدر استخباراتي إن الدافع وراء مراقبة المنظمات كان معلناً بشكل صريح: “إنهم يضرون بمكانة إسرائيل في الساحة الدولية”، فهذه المنظمات -تبعاً لأحد المصادر: “تنشط على المستوى الدولي وتشارك في حركة المقاطعة [BDS]، ولا تنفك تسعى لإلحاق الضرر بإسرائيل بطرق قانونية، لذلك تراقب أيضاً… ولهذا السبب نتعامل مع هذا الوضع. لأن [هذا النشاط] قد يلحق أذىً بالناس في “إسرائيل”؛ أي الضباط والسياسيين”.
ويتمثل أحد الأهداف الأخرى من مراقبة الجماعات الفلسطينية في محاولة نزع الشرعية عنها، وبالتالي تقويض تحقيق المحكمة الجنائية الدولية برمته. وكان بيني غانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي -آنذاك- قد أعلن في تشرين الأول 2021 أن مؤسستي “الحق” و”الضمير” وأربع منظمات حقوقية فلسطينية أخرى هي “منظمات إرهابية”؛ علماً أن اسم غانتس ورد في العديد من المناشدات التي قدمتها المنظمات الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية، بسبب دوره كرئيس للأركان خلال حرب غزة في العام 2014 فضلاً عن دوره كوزير للدفاع خلال حرب أيار في العام 2021.
وكشف تحقيقاً أجراه كل من +972 و Local Call(8)، ونشر بعد بضعة أسابيع، أن إعلان غانتس صدر دون أي دليل جدي يدعم ادعاءاته. ولم يكن ملف الشاباك، وملف متابعة آخر ظهر بعد بضعة أشهر يزعم بوجود دليل على صحة تلك التهم مقنعاً حتى لأقوى حلفاء إسرائيل. وفي غضون ذلك ظهرت تكهنات واسعة، بما في ذلك من قبل المنظمات ذاتها تشير إلى استهدافها -جزئياً على الأقل- بسبب أنشطتها المتعلقة بتحقيق المحكمة الجنائية الدولية. وحسب مصدر استخباراتي، قام الشاباك، الذي أعطى توصية أولية بحظر الجماعات الست، بمراقبة موظفي هذه المنظمات، واستخدم غانتس المعلومات التي تم جمعها ليعلن أنها منظمات إرهابية. وحدد تحقيق أجرته “سيتيزن لاب”، في ذلك الوقت عن تحميل برنامج التجسس بيغاسوس، الذي تنتجه شركة NSO Group الإسرائيلية، على هواتف العديد من الفلسطينيين العاملين في تلك المنظمات غير الحكومية. (لم يستجب الشاباك لطلبنا للتعليق على نتائج التحقيق).
كما اكتشف عمر عوض الله وعمّار حجازي، المسؤوليْن عن قضية المحكمة الجنائية الدولية في وزارة الشؤون الخارجية الفلسطينية، أن برنامج بيغاسوس قد تم تثبيته على هواتفهما. ووفقاً لمصادر استخباراتية، كان الاثنان مستهدفين معاً من قبل منظمات استخبارات إسرائيلية مختلفة، مما خلق “ارتباكا”. وقال أحد المصادر: “كلاهما يحمل شهادة دكتوراه، وكلاهما مثير بشدة للإعجاب ويتعاملان مع هذا الموضوع طوال اليوم، من الصباح حتى الليل- ولهذا السبب كان هناك عمل استخباراتي [وراء تتبعهما] بهدف الحصول على ما بحوزتهما من معلومات”. لم يشعر حجازي بالمفاجأة من مراقبته؛ وقال: “لا يهمنا إذا اطلعت إسرائيل على الأدلة التي قدمناها للمحكمة.. أدعوهم بالقول: تعالوا، افتحوا أعينكم، انظروا ما قدمناه”.
كما عملت المخابرات الإسرائيلية على مراقبة شعوان جبارين، المدير العام لمؤسسة “الحق”، الذي أشار إلى وجود مؤشرات تدل على اختراق الأنظمة الداخلية للمنظمة، وأن إعلان غانتس جاء -قبل أيام -فقط من اعتزام المؤسسة التصريح عن اكتشافها زرع برنامج تجسس بيغاسوس في هواتف موظفيها. وقال جبارين: “يقولون إنني أستخدم القانون كسلاح حرب… إذا كنتم لا تريدونني أن أستخدم القانون، فماذا تريدون مني أن أستخدم؟ القنابل مثلاً؟”.
ومع ذلك، أعربت جماعات حقوق الإنسان عن قلقها العميق على خصوصية الفلسطينيين الذين قدموا شهادات إلى المحكمة. فعلى سبيل المثال، أدرجت إحدى المجموعات الأحرف الأولى من أسماء الشهود فقط في مرافعاتها المقدمة إلى المحكمة الجنائية الدولية، خوفا من أن تتعرف إسرائيل عليهم. وأوضح حمدي شقورة، المحامي في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، أن “الناس يخشون من تقديم شكوى [إلى المحكمة الجنائية الدولية]، أو ذكر أسمائهم الحقيقية، لأنهم يخافون التعرض لاضطهاد الجيش، وفقدان تصاريح دخولهم… فعلى سبيل المثال هناك رجل في غزة لديه قريب مريض بالسرطان يخشى أن يسحب الجيش تصريحه ويمنعه من العلاج.. مثل هذه الأمور تحدث” .
وبحسب مصادر استخباراتية، كان الهدف من الاستخدام الإضافي للمعلومات الاستخباراتية التي تم الحصول عليها عن طريق المراقبة مساعدة المحامين المشاركين في محادثات سرية عبر القنوات الخلفية مع ممثلي مكتب المدعي العام في لاهاي. ومن الجدير ذكره، طلب نتنياهو تشكيل فريق سري من المحامين من وزارة العدل ووزارة الخارجية ومكتب المحامي العام العسكري (أعلى سلطة قانونية في الجيش الإسرائيلي)، بعد مدة وجيزة من إعلان بنسودا أن مكتبها سيفتح تحقيقا أولياً. وقام هذا الفريق بالسفر بشكل منتظم إلى لاهاي لعقد اجتماعات سرية مع مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية بين عامي 2017 و2019. (لم تستجب وزارة العدل الإسرائيلية لطلبات التعليق على هذا الخبر).
وتشير هذه العمليات إلى الجهود الحثيثة التي كانت تبذلها إسرائيل للتأثير على تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية ومحاولة إيقافها باستخدام مجموعة متنوعة من التكتيكات سواء بالمراقبة المكثفة أو بالضغوط السياسية والدبلوماسية.
وعلى الرغم من أن الفريق، بقيادة المستشار القانوني لوزارة الخارجية تال بيكر- كان يتألف من أفراد لم يكونوا جزءً من مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي، إلا أن وزارة العدل كانت مطلعة على المعلومات الاستخباراتية التي تم الحصول عليها من خلال المراقبة، وكان بإمكانها الوصول إلى تقارير من السلطة الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية غير الحكومية التي تفصّل حالات محددة من عنف المستوطنين والجيش.
ويشير مصدر استخباراتي إلى أن “المحامين الذين تعاملوا مع القضية في وزارة العدل كان لديهم تعطش كبير للحصول على المعلومات الاستخباراتية… وقد حصلوا على مبتغاهم من المخابرات العسكرية والشاباك -على حد سواء-. وكانوا يبنون قضية المبعوثين الإسرائيليين الذين ذهبوا سراً وتواصلوا مع المحكمة الجنائية الدولية”.
شرع المحامون الإسرائيليون، من خلال اجتماعاتهم الخاصة مع مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، والتي أكدتها ستة مصادر مطلعة على الاجتماعات، في إثبات أن إسرائيل لديها إجراءات قوية وفعالة لمحاسبة الجنود، رغم سجل الجيش الإسرائيلي السيئ في التحقيق في التجاوزات المزعومة داخل صفوفه. كما سعى المحامون إلى إثبات أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص التحقيق في تصرفات إسرائيل، لأن إسرائيل ليست دولةٌ عضوٌ في المحكمة وفلسطين ليست عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة. وطبقاً لمسؤول سابق في المحكمة الجنائية الدولية مطلع على مضمون الاجتماعات، قدم العاملون بالمحكمة الجنائية الدولية للمحامين الإسرائيليين تفاصيل عن حوادث تعرض فيها فلسطي/نيين للهجوم أو القتل، وكان المحامون يردون بمعلوماتهم الخاصة. ويستذكر المصدر كيف كانت الأجواء، في البداية، متوترة في تلك اللحظة.
في تلك المرحلة، كانت بنسودا لا تزال منهمكة في إجراءات تأسيس دراسة أولية قبل اتخاذ قرار بفتح تحقيق رسمي. وقال مصدر استخباراتي إن الغرض من المعلومات التي تم الحصول عليها من خلال المراقبة هو “جعل بنسودا تشعر بأن بياناتها القانونية غير موثوقة”. ووفقاً للمصدر نفسه، كان الهدف هو “تغذية [بنسودا] بمعلومات تجعلها تشك في أساس حقها في التعامل مع هذه القضية. فعندما تجمع مؤسسة مثل مؤسسة “الحق” معلومات عن عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في الأراضي المحتلة في العام الماضي وتنقلها إلى بنسودا، فمن مصلحة إسرائيل وسياستها تمرير معلومات مضادة لها ومحاولة هدم مصداقية هذه المعلومات”. وبالنظر إلى أن إسرائيل ترفض الاعتراف بسلطة المحكمة وشرعيتها، فقد كان من الأهمية بمكان -بالنسبة للوفد- بقاء هذه الاجتماعات قيد السرية. وقال مصدر مطلع على الاجتماعات إن المسؤولين الإسرائيليين أكدوا مراراً للمحكمة الجنائية الدولية أنه “لا يمكننا أبداً الإشهار العلني بتواصلنا معكم”.
انتهت اجتماعات القنوات الخلفية الإسرائيلية مع المحكمة الجنائية الدولية في كانون الأول 2019، عندما خلصت الدراسة الأولية التي أجرتها بنسودا على مدار خمس سنوات إلى أن هناك أساساً معقولاً للاعتقاد بأن كلاً من إسرائيل وحماس ارتكبتا جرائم حرب. ولكن بديلاً من الشروع الفوري في التحقيق الكامل، طلبت بنسودا من قضاة المحكمة البت فيما إذا كانت لديهم قوة اختصاص للنظر في الادعاءات بسبب “القضايا القانونية والواقعية الفريدة والمثيرة للجدل بشدة” ؛ وهو ما اعتبره البعض نتيجة مباشرة لنشاط إسرائيل.
ويقول روي شوندورف، عضو الوفد الإسرائيلي كرئيس لقسم وزارة العدل المسؤول عن التعامل مع الإجراءات القانونية الدولية ضد إسرائيل، خلال إحدى فعاليات معهد دراسات الأمن القومي في تموز 2022: “لا أستطيع القول أن الحجة القانونية لم يكن لها أي تأثير، هناك أيضاً أشخاص يمكن إقناعهم، وأعتقد أن دولة إسرائيل تمكنت إلى حد كبير من إقناع المدعية العامة السابقة [بنسودا] على الأقل، بأن هناك على الأقل شكاً كافياً بشأن مسألة الاختصاص يجعلها تتوجه إلى قضاة المحكمة”.
في العام 2021، حكم قضاة المحكمة بأن المحكمة الجنائية الدولية لديها اختصاص قضائي على جميع جرائم الحرب التي يرتكبها الإسرائيليون والفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك الجرائم التي يرتكبها الفلسطينيون في الأراضي الإسرائيلية. وعلى الرغم من الجهود الإسرائيلية على مدى ست سنوات لإحباط عمل بنسودا، إلا أن هذه الأخيرة أعلنت عن فتح تحقيق جنائي رسمي. لكنها لم تكن مسألة محسومة ومفروغاً منها. فقبل بضعة أشهر، قررت المدعية العامة التخلي عن التحقيق في جرائم الحرب البريطانية في العراق لأنها كانت مقتنعة بأن بريطانيا اتخذت إجراءات “حقيقية” للتحقيق فيها. ووفقاً لكبار الفقهاء القانونيين الإسرائيليين، تمسكت إسرائيل بهذه السابقة، وبدأت تعاوناً وثيقاً بين عملية جمع المعلومات الاستخباراتية ونظام القضاء العسكري.
وإلى جانب جهود الضغط والمراقبة، سعت إسرائيل لتقديم نفسها كجهة قادرة على التحقيق في تجاوزاتها بنفسها، في محاولة لإقناع المحكمة الجنائية الدولية بأن النظام القضائي الإسرائيلي يمكنه التعامل مع هذه المسائل، وبالتالي لا توجد حاجة لتدخل المحكمة الدولية. وفي هذا الصدد، ذكر أحد المصادر بأن الهدف الرئيس لعملية المراقبة الإسرائيلية هو تمكين الجيش من “فتح تحقيقات بأثر رجعي” في حالات العنف ضد الفلسطينيين التي تصل إلى مكتب المدعي العام في لاهاي. وبذلك، هدفت إسرائيل إلى استغلال “مبدأ التكاملية complementarity”**، الذي يؤكد أن القضية ليست من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، إذا كانت قيد التحقيق الشامل من قبل دولة لها اختصاص عليها.
وأكد مصدر آخر على أهمية مبدأ التكاملية بقوله” “إذا تم تمرير المواد إلى المحكمة الجنائية الدولية، فيجب أن يفهم بالضبط ماهيتها ونوعيتها ومضمونها، لضمان قيام الجيش الإسرائيلي بالتحقيق فيها بشكل مستقلٍ وكافٍ ليتمكنوا من ادعاء استغلال مبدأ التكاملية”. وتشير مصادر أخرى إلى أن الخبراء القانونيين المختصين ضمن آلية تقويم تقصي الحقائق التابعة لهيئة الأركان المشتركة وهي الهيئة العسكرية التي تحقق في جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون، كانوا مطلعين أيضاً على المعلومات الاستخباراتية.
ومن بين عشرات الحوادث التي تحقق فيها الهيئة حالياً التفجيرات التي أودت بحياة عشرات الفلسطينيين في مخيم جباليا للاجئين في تشرين الأول الماضي [2023]؛ مثل “مجزرة الدقيق” التي قتل فيها أكثر من 110 من الفلسطينيين في شمال غزة لدى وصول قافلة مساعدات في آذار الماضي؛ وضربات الطائرات المسيرة التي قتلت سبعة من موظفي المطبخ المركزي العالمي في نيسان؛ وكذلك الغارة الجوية على مخيم في رفح التي أدت إلى احتراق الخيام في وتسببت في قتل العشرات الأسبوع الماضي.
لكن بالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية غير الحكومية التي تقدم تقارير إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن آليات المساءلة العسكرية الداخلية في إسرائيل تعتبر مهزلة. ويردد الفلسطينيون وخبراء إسرائيليون ودوليون وجماعات حقوق الإنسان، بأن هذه الأنظمة -من محققي الشرطة والجيش إلى المحكمة العليا- تعمل بشكل روتيني بصفتها “ورقة توت” [للتغطية على سلوك وأفعال] الدولة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية، مما يساعد على “تبييض” الجرائم وتبرئة مرتكبيها؛ في الوقت الذي تمنح فيه الجنود والقادة ترخيصاً لمواصلة الأعمال الإجرامية والإفلات من العقاب.
وعلى سبيل المثال؛ عاش عصام يونس، الذي كان هدفاً للمراقبة الإسرائيلية بسبب دوره كمدير لمركز “الميزان”، معظم حياته المهنية في قطاع غزة، في مكاتب المنظمة التي تعرضت الآن للقصف الجزئي، حيث جمع وقدم “مئات” الشكاوى من الفلسطينيين إلى مكتب المدعي العام العسكري الإسرائيلي؛ لكنها أغلقت في معظمها وانتهت إلى لا شيء دون توجيه لوائح اتهام، مما جعله يقتنع بأن “الضحايا لا يمكنهم السعي لتحقيق العدالة من خلال هذا النظام”. وهذا ما دفع منظمته إلى التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية. ويضيف: “طبيعة ونطاق الجرائم المرتكبة في هذه الحرب لم يسبق لهما مثيلاً وهذا يعود ببساطة لغياب المساءلة”. لقد فرّ يونس من غزة مع عائلته في كانون الأول الماضي، وهو اليوم لاجئ في القاهرة.
في حزيران 2021، حل [كريم] خان محل بنسودا في منصب المدعي العام، وأمل الكثير في النظام القضائي الإسرائيلي في فتح صفحة جديدة [معه]. كان ينظر إلى خان على أنه أكثر حذراً من سلفه، وكانت هناك تكهنات بأنه سيختار عدم إعطاء الأولوية للتحقيق المتفجر الذي ورثه عن بنسودا. وكان قد كشف في مقابلة معه في أيلول 2022، عن بعض التفاصيل حول “الحوار غير الرسمي” بين إسرائيل والمحكمة الجنائية الدولية، وأشاد شوندورف من وزارة العدل الإسرائيلية بخان لأنه “غيّر مسار السفينة”، مضيفاً أنه يبدو توجه المدعي العام للتركيز على المزيد من “القضايا الأكثر شيوعاً” لأن “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أصبح قضية أقل إلحاحاً بالنسبة للمجتمع الدولي”. وفي غضون ذلك، أصبحت تقديرات خان الشخصية الهدف البحثي الرئيس لعملية المراقبة الإسرائيلية من أجل “فهم ما كان يفكر فيه خان”، على حد تعبير أحد مصادر الاستخبارات. وبينما لا يبدو في البداية أن فريق المدعي العام قد أظهر الكثير من الحماس لقضية فلسطين، وفقاً لمسؤول إسرائيلي كبير، فإن “7 تشرين الأول غير هذا الواقع”.
بحلول نهاية الأسبوع الثالث من القصف الإسرائيلي لغزة، الذي أعقب الهجوم الذي قادته حماس على جنوب إسرائيل، كان خان موجوداً -بالفعل- على الأرض عند معبر رفح. وقام بعد ذلك بزيارات إلى الضفة الغربية وجنوب إسرائيل في كانون الأول، حيث التقى بمسؤولين فلسطينيين وكذلك ناجون إسرائيليون من هجوم 7 تشرين الأول وأقارب الأشخاص الذين قتلوا. تابعت المخابرات الإسرائيلية عن كثب زيارة خان في محاولة “لفهم المواد التي كان الفلسطينيين يعطونه إياها”، كما قال مصدر إسرائيلي الذي أضاف أيضاً بأن: “خان هو الرجل الأكثر استعصاءً لجهة جمع المعلومات الاستخباراتية عنه في العالم ، لأنه مستقيم مثل مسطرة”.
في شباط الماضي، أصدر خان على منصة X بياناً شديد اللهجة حث فيه إسرائيل على عدم شن هجوم على رفح، حيث كان أكثر من مليون فلسطيني يبحثون -بالفعل- عن ملجأ لهم هناك. كما حذر من أن “أولئك الذين لا يمتثلون للقانون لا ينبغي لهم الشكوى فيما بعد عندما يتخذ مكتبي إجراءات”. -وكما هو الحال- مع سلفه، رصدت المخابرات الإسرائيلية أيضا أنشطة خان مع الفلسطينيين وغيرهم من المسؤولين في مكتبه. وأدت مراقبة شخصين فلسطينيين مطلعين على نيات خان إلى إبلاغ القادة الإسرائيليين بحقيقة أن المدعي العام كان يدرس طلباً وشيكاً لإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين، لكنه كان “تحت ضغط هائل من الولايات المتحدة” لعدم القيام بذلك.
في النهاية، في 20 أيار، واكب خان تهديده. وأعلن عن سعيه الحصول على مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، بعد أن وجد أن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد بأن هاتين الشخصيتين تتحملان المسؤولية عن جرائم تشمل الإبادة والتجويع والهجمات المتعمدة على المدنيين.
بالنسبة لجماعات حقوق الإنسان الفلسطينية التي راقبتها إسرائيل، فإن نتنياهو وغالانت هما مجرد قمة الجبل الجليدي وغيض من فيض. وقبل ثلاثة أيام من إعلان خان، أرسل رؤساء منظمات “الحق” و”الميزان” و”المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان” خطاباً مشتركاً إلى خان يطالبون فيه صراحة إصدار مذكرات اعتقال ضد جميع أعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي، بمن فيهم بيني غانتس، وكذلك قادة وجنود من الوحدات المشاركة حالياً في الهجوم على رفح.
ويتعين الآن على خان تقويم ما إذا كان ثمة إسرائيليون آخرون يقفون وراء العمليات التي تهدف إلى تقويض المحكمة الجنائية الدولية قد ارتكبوا جرائم ضد إقامة العدل. وحذر في إعلانه في 20 أيار الحالي من أن مكتبه “لن يتردد في التحرك” ضد التهديدات المستمرة ضد المحكمة وتحقيقاتها.
مثل هذه الجرائم، التي يمكن محاكمة القادة الإسرائيليين عليها بغض النظر عن حقيقة أن إسرائيل ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، يمكن أن تصل عقوبتها إلى السجن. وكان متحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية قد أخبر صحيفة الغارديان إنهم على علم بـ“أنشطة جمع المعلومات الاستخباراتية الاستباقية التي يقوم بها عدد من الجهات الوطنية المعادية للمحكمة”، لكنه شدد على أن “أيا من الهجمات الأخيرة ضدها من قبل جهات استخبارات وطنية” استطاعت اختراق المحكمة والوصول إلى الأدلة الأساسية التي تحتفظ بها المحكمة، والتي ظلت آمنة. وأضاف أن مكتب خان تعرض “لعدة أشكال من التهديدات والاتصالات التي يمكن اعتبارها محاولات للتأثير على أنشطته بشكل غير ملائم”.
ورداً على طلب للتعليق على ما ذكر، أفاد مكتب رئيس الوزراء “الإسرائيلي” فقط أن تقريرنا “مليء بالعديد من الادعاءات الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة والتي تهدف إلى الإضرار بدولة إسرائيل”. كما رد الجيش “الإسرائيلي” بإيجاز: “تقوم أجهزة الاستخبارات في الجيش “الإسرائيلي” بعمليات مراقبة وعمليات استخباراتية أخرى فقط ضد العناصر المعادية وعلى عكس ما يزعم، ليس ضد المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أو عناصر دولية أخرى”.