“حرب الآخرين على أرضنا”!
“المدارنت”..
رحم الله، الأستاذ الكبير غسان تويني، صاحب شعار: “أوقفوا حرب الآخرين على أرضي”، الذي استعرته بتصرّف، وعملاً بالقواعد الأدبية والصحافية الأساسية كان لا بد من توجيه التحية إلى روحه، لأن “حقوق المؤلف محفوظة”، ولأن ما قاله قبل خمسة عقود تقريباً يصحّ اليوم ومن دون أدنى شك، ذلك أن “إسرائيل” وإيران تتحاربان على أرضنا ولبنان واللبنانيين يدفعون الثمن دماء ودماراً.
في الأول من نيسان الماضي، شنّت طائرات العدو الصهيوني غارة على مبنى القنصلية الايرانية في دمشق، مستهدفة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اللواء محمد رضا زاهدي، فحبس العالم أنفاسه بعد تصريح المرشد الأعلى السيد علي خامنئي الذي توعّد بردّ مزلزل يهزّ فيه أركان الدولة العبرية، وكان الردّ المنتظر الذي هاجمت فيه مُسيّرات وصواريخ “باليستية” إيرانية في الرابع عشر من نيسان “إسرائيل”، عبارة عن فيلم “بوليوودي”، لم يرتقِ إلى مصاف الأفلام “الهوليودية”، وساد بعدها هدوء “ديبلوماسي” بين البلدين.
غير أن دموية رئيس حكومة العدو (الإرهابي الصهيوني) بنيامين نتنياهو، فعلت فعلها مرة جديدة، عندما قرّر في اليوم الأخير من شهر تموز الماضي، اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، الذي كان يقوم بزيارة رسمية إلى طهران، للمشاركة في تنصيب رئيس الجمهورية الاسلامية المنتخب مسعود بزشكيان، وحلّ في ضيافة الرئاسة الايرانية في أحد مقراتها التي تحظى بـ”حماية أمنية” رفيعة المستوى.
ومرّة جديدة، أيضاً توعّد خامنئي العدو الصهيوني بعظائم الأمور، والتهديد بمحوه عن الخريطة لتجرؤه على استباحة السيادة الايرانية، واغتيال هنية على أرضها، فوقف العالم على رجل ونصف بانتظار الرد الايراني الذي إذا صدق المرشد سيغيّر مجرى التاريخ والحرب التي يشنها نتنياهو على غزة.
وعلى ما بدا، فإن نتنياهو، لم يأخذ الردّ الايراني على محمل الجدّ، فصعّد من استهدافاته باتجاه “حزب الله”، حيث شنّ في السابع عشر من أيلول الماضي من خلال عملية استخباراتية غير مسبوقة، هجوماً تقنياً عبر تفجير أجهزة التواصل “البايجر” التي يستخدمها الفريق اللوجيستي في “حزب الله”، مستهدفاً حوالي أربعة آلاف “مقاوم” أتبعه في اليوم التالي، بتفجير أجهزة لاسلكية، يستخدمها قادة الحزب ومقاتلوه، موقعاً اصابات في صفوف أكثر من ألف وخمسماية “مقاوم”.
ولم تتوقف عنجهية نتنياهو، عند هذا الحد، فأمر جيشه وهو على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، في السابع والعشرين من الشهر نفسه بتنفيذ خطة كان قد وضعها لاغتيال الأمين العام لـ“حزب الله” السيد حسن نصر الله، معتبراً أن نجاحه في هذه “المغامرة”، سيهزّ أركان الحزب ويضعضع صفوفه، ما يجعل انتصاره عليه حتمياً.
واستشاط المسؤولون الايرانيون غضباً، واعتبروا أن اغتيال نصر الله هو “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”، وبدأت التحضيرات لردّ إيراني على هاتين “الانتكاستين” في الوقت الذي جنّ فيه جنون “الاسرائيليين” و”حزب الله” على السواء، فبدأت العملية “الاسرائيلية” التدميرية الممنهجة على قرى الجنوب والبقاع وبلداتهما، في الوقت الذي بدأت فيه المقاومة استخدام مخزونها من الأسلحة الاستراتيجية التي تملكها من صواريخ ومسيرات انقضاضية، وصلت إلى “ما بعد بعد حيفا”، حتى ان إحدى هجمات الحزب طالت “غرفة نوم” نتنياهو، على ما أشارت التقارير الاعلامية الدورية التي يصدرها الحزب حول عملياته.
وفي خضم التحضيرات للردّ الايراني “المزلزل” كما كان متوقعاً، بدأت المفاوضات الديبلوماسية الأميركية/ الايرانية، بحيث انشغل الأميركيون في إقناع الايرانيين بأن يكون الرد محدوداً، وأن لا يؤدي إلى تدهور الأوضاع وتوسيع الحرب، إذ انهم “مجبرون” على الدفاع عن “إسرائيل” في حال خرج الرد الايراني عن الحدود التي رسمها الأميركي لهم.
واستغرقت المفاوضات وقتاً طويلاً، حتى حلّ اليوم الأول من تشرين الأول، وأرسلت إيران أكثر من “مائتيّ” صاروخ باتجاه “إسرائيل”، بعضها أصاب أهدافاً حيوية على ما زعم الاعلام الايراني، في حين تولت الدفاعات “الاسرائيلية” والأميركية، وحتى الأردنية، إسقاط البعض الآخر، لكن هذا الهجوم أعطى نتنياهو مجدداً جرعة جديدة من الوحشية والدموية، إذ توعد بأن لا يكون “الاعتداء” الايراني بلا عقاب.
وحاولت واشنطن إقناع نتنياهو، بأن لا يستهدف في ردّه “المشروع” على إيران المنشآت الحيوية النفطية والنووية، وأن يكون منسقاً معها، إذ أرسل البنتاغون مجدداً حاملة طائرات إلى المتوسط، كما نقلت من قواعدها الأوروبية، أسراب من طائرات أف 16 الهجومية، وهبطت في مطارات “إسرائيل”، طائرات تزويد بالوقود في الجوّ، في مؤشر على جدية الرد “الاسرايلي” والوعد الأميركي بالدفاع عن الدولة العبرية.
لكن المفاوضات نجحت على ما بدا في إقناع إيران باحتواء الرد “الاسرائيلي” الذي أيضاً وعلى غرار الرد الايراني في نيسان الماضي كان فيلماً “بوليوودياً”، إذ ان الطائرات “الاسرائيلية” التي هاجمت إيران، وفقاً لتقارير إعلامية استهدفت مواقع عسكرية زعمت “إسرائيل” أنها قوّضت قدرة إيران على انتاج الصواريخ في حين يؤكد المسؤولون الايرانيون أنها لم تحدث ضرراً كبيراً.
إذاً، أفلام متبادلة بين إيران و”إسرائيل” من إخراج أميركي يدفع نتيجته لبنان الثمن، إذ بعد اغتيال السيد نصر الله، لم يتوقف الناطق باسم جيش العدو الصهوني أفيخاي أدرعي، عن توجيه الانذارات تلو الانذارات إلى سكان الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، بضرورة إخلاء منازلهم والتوجه إلى شمال الأولي، ثم يلحقها بتعليمات إضافية ينصح فيها الأهالي بعدم العودة إلى منازلهم لأن “إسرائيل” لم تنهِ مهمتها بعد.
أكثر من مليون ونصف المليون مواطن “شيعي”، نزحوا من منازلهم، والعدو يمعن في تفخيخ المنازل وتفجيرها على طول الشريط الحدودي، في الوقت الذي تتكفل فيه طائراته بغارات تدمّر أحياء سكنية بكاملها، سواء في النبطية وصور أو بعلبك وضواحيها، بعدما أجهزت على ما بقي من بنيان قائم في الضاحية الجنوبية لبيروت.
طهران وتل أبيب، تتحاربان على أرض لبنان، واللبنانيون، يدفعون الثمن من حياتهم وأرزاقهم، ما يجعل صرخة: “أوقفوا حرب الآخرين على أرضي”، تصحّ اليوم، كما كانت تصحّ قبل أكثر من خمسة عقود.