حرب المجتمع الدولي في السودان!
“المدارنت”..
من المهم أن ندرك أن أحد أسباب الابتلاء، الذي عاشه السودانيون خلال العامين الماضيين، كان استسهال النخبة المتحكمة في القرار السياسي المضي في طريق معاداة «المجتمع الدولي». صحيح أنه كانت هناك تفاعلات محلية، وعوامل داخلية أفضت لنشوب الحرب، بالشكل المدمر الذي ما نزال نتابعه، إلا أن ما يمكن أن يتفق عليه الجميع هو، أن هناك دورا لا يمكن إنكاره للأطراف الخارجية، التي لولاها لما كانت الحرب قد استعرت واستمرت.
النظر من أعلى إلى خيوط الصراع لن يدفعنا بأي حال لتجاهل دور المحرضين والداعمين الإقليميين، الذين كانت لهم أدوار مباشرة في الدعم والتحشيد وتقديم الخدمات اللوجستية للجنرال المنشق محمد حمدان دقلو «حميدتي» ومجموعته المتمردة. في المقابل، فإن مثل هذه النظرة سوف تجعلنا نتأكد من أن المحرك الفعلي لهذه الخيوط ليس هذه أو تلك من الدول ذات الإمكانيات المتواضعة، والثقل الجيوسياسي المحدود في الجوار القريب أو البعيد، وإنما فاعلون دوليون آخرون يوظفون هذه الدول من أجل التحكم في مآلات الصراع. بهذا المعنى، فإن أولئك الفاعلين الدوليين، يستخدمون هؤلاء الوكلاء المحليين، الذين يشرفون بدورهم على الوكيل الصغير، المتمثل في الميليشيا، التي يمكن للمرء أن يدرك ببساطة أن أيديولوجيتها وأفكارها وخططها العسكرية، التي أظهرتها من خلال خطاباتها وأدائها على الأرض، هي أكبر بكثير من قدرات الجنرال حميدتي المحدودة وطموحاته المتواضعة.
من المهم التأكيد مرة أخرى على أن الغرض من هذه التوطئة، ليس إعفاء الميليشيا ولا داعميها المباشرين من إثم ما ارتكبوه من جرائم ترقى لتوصيف «الإبادة الجماعية»، وإنما المراد هو لفت الانتباه إلى أنه يجب عدم حصر منظورنا في المجرم المباشر، لأن ذلك يشبه التركيز في جريمة قتل على معاقبة قاتل مأجور ونسيان من دفعه لارتكاب الجريمة. اشتباك الوكلاء المحليين وارتباطهم بالمظلة الدولية له مظاهر كثيرة. أهم هذه المظاهر هو تباطؤ الإعلام الإقليمي والدولي، وتلكؤه في تقديم توصيف حقيقي لما يجري في السودان، ما خلق صورة غائمة ومشوشة عند كثير ممن كانوا يودون متابعة الأحداث.
نذكر في هذا أنه، وعلى مدى شهور طويلة، كان التوصيف السائد للحالة السودانية، هو أنها حرب بين جنرالين يملك كلاهما قوات مسلحة تحت يديه، وأن هذه القوات تتقاتل في ما بينها من أجل كسب أراضٍ ومواقع جديدة، وأنها بسبب ذلك ترتكب بشكل متساو جرائم وانتهاكات. من هنا جاءت العبارة الأثيرة لدى الكتاب والسياسيين، وهي «طرفا الصراع»، التي كانت كثيرا ما تحشر في البيانات السياسية والتحليل، وهي عبارة في ظاهرها الحياد، لكن باطنها هو غير ذلك، حيث تعتبر أن جرائم ميليشيا حميدتي المروعة والموثقة، والتي تتنوع ما بين القتل على الهوية والتعذيب والاغتصاب الجماعي، هي مجرد انتهاكات، فيما توحي، بقصد أو حتى من دون قصد، بأن الجيش يرتكب هو الآخر انتهاكات موازية مهددة لسلامة المواطنين.
المظهر الثاني، الذي يؤكد حجم الارتباط بالمظلة الدولية، هو إحجام الدول والمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وبمعاقبة الذين يعملون على تهديد الأمن والسلم الدوليين، عن تقديم إدانات جادة أو فرض عقوبات رادعة، أو حتى التجرؤ على تسمية المتورطين المباشرين في توريد ما يستخدم لتهديد المدنيين، بل إن الذي يحدث، حتى حينما تضطر دولة، أو منظمة ما للخروج بموقف، هو أنها تعمد لتقديم إدانات سائلة، تدين فيها جميع المتورطين وتنتقد فيها بالتساوي الجميع، داعية كل الأطراف الخارجية إلى وقف تقديم السلاح للطرفين. يدخل في هذه السيولة المتواطئة القرارات الأمريكية، التي كانت تستهدف أشخاصا ومؤسسات مقربة للجيش ولقوات حميدتي بشكل متواز.
هذا كله يجب أخذه بالاعتبار ونحن نعمد إلى تحليل الواقع والمستقبل، إن محاولة شرح ما يحدث في السودان للمسؤولين في إحدى دول الشمال المهمة، طمعا في كسب بلادهم إلى صف الحقيقة هو فعل مهم، لكن علينا أن نضع في الاعتبار أن هذه الدول، أعني الكيانات المعنية بمتابعة الشؤون الدولية فيها، ليست جاهلة بتفاصيل الصراع، فإذا كانت الدوريات المتخصصة ومعاهد البحث الأكاديمية الغربية تقدم دراسات تتناول تفاصيل المعادلات الاجتماعية والسياسية في البلاد، بما يحوي معلومات يجهلها بعض أبناء البلد، فمن التبسيط القول، إن تلك الدول لم تستطع أن تتبنى موقفا يحمي مصالحها. قبيل الحرب كانت هناك خشية من تدخل عسكري دولي في السودان بغرض سياسي معلن هو، المساعدة في تهيئة الأوضاع للانتقال، وغرض آخر جانبي هو تفكيك الجيش السوداني، الذي كان قد نما خلال العشرية السابقة، من ناحية تنويع التسليح والتصنيع، بشكل لا يتناسب مع حجم السودان، لدرجة أصبح فيها أمره مقلقا، خاصة مع الاتهامات، التي كانت تربطه بدوائر إسلامية وجهادية محلية وإقليمية.
في حين كانت الجهود منصبة لصد محاولة هذا التدخل وإبعاد المجموعة الحاكمة، التي كانت ترى أن مثل هذه العسكرة الدولية تحقق مصلحة مزدوجة للداعمين الغربيين ولها أيضا، خاصة أنها لا تملك قوة عسكرية تستطيع أن تثبت بها مكانتها السياسية، فإن الذي حدث هو أن «المجتمع الدولي»، ومن خلال المساعدة على انفجار هذا التمرد، أثبت أن بإمكانه تحقيق هدفه من دون التورط في تدخل عسكري أجنبي مفضوح، أو حتى من دون بعثة أممية قد يتعامل معها المواطنون كحملة غزو. بجانب خسائر المدنيين التي تفوق كل التقديرات، فإن ما تحقق هو خسارة عسكرية غير مسبوقة لأسلحة نادرة ومراكز تصنيع وعدد كبير من خيرة العسكريين، الذين يجمعون بين المهارتين العلمية والعسكرية، والذين فقدوا في هذا الصراع. من الناحية الأخرى قضت الحرب على القوة الصلبة لما كان يعرف بقوات «الدعم السريع»، التي كان يرأسها حميدتي، فتم استهداف معسكراتها منذ أول يوم، كما تم القضاء بالكامل تقريبا على العناصر، التي تلقت تدريبات عسكرية متقدمة، حتى لم يبق مع حميدتي إلا أنصاره من مقاتلي الصحراء والقبيلة. الوعي بدور القوى الدولية في تحريك الأحداث لا يعني بالطبع الاستلام لشروط المتحكمين في القرار الدولي والإذعان لمطالبهم بشكل مفتوح، ولكنه يقود للتفكير بعقلانية والكف عن الدخول في عداءات واستفزاز يمكن أن تدفع الدولة ثمنا باهظا له.
إن الخطوة الأولى هي التحرر من طريقة التفكير العدمية، التي تختصرها مقولة «فلترق كل الدماء»، فليس من الحكمة في شيء أن ندخل البلاد، التي هي في أضعف حالاتها اليوم، في أتون صراعات لن تقود في الأخير إلا إلى تعميق مأساتها. إن الناظر في خريطة السياسة الدولية يعلم أن الدول، بما فيها من هي أكثر استقرارا وقوة اقتصادية من السودان، لا تعمد إلى شراء عداوة الأطراف المؤثرة على القرار الدولي. يدخل في هذا الدول، التي تبدو لنا في كثير من تحركاتها متحدية ومستقلة. تلك جميعها تعي حجم قدراتها وتعرف الخطوط الحمر، التي يجب عليها أن تتوقف عندها. في سوريا تعلن الإدارة الجديدة أنها لا ترغب في الدخول في صراع مع أحد، بما في ذلك الكيان، الذي يتعدى على البلاد في استفزاز، وفي قطاع غزة يعيد المواطنون تقييم ما حدث والسؤال، الذي يشغلهم، بعد ما شهده القطاع من مجازر هو: هل كان الأمر يستحق؟ وفي كل هذا دروس وعبر.