حــديـــث الـنـعـــــوش..!
خاص “المدارنت”/
وقف قريباً من النعوش المتراصّة في مقبرة البلْدة، تأمّلها طويلاً بعد أن أحْضَر مسْتلْزمات الحفْر. خُيِّلَ إليْهِ أنّه يسمع أصواتاً غير عادية تملأ المكان.. فرك أذُنَيْه، أمال رأسه قليلاً وكأنّه يُريد أن يتأكّد… رفرف طائرٌ صغير فوق رأسه المائل، تابعهُ لِوَهلةٍ بِعيْنيْهِ الوَاسِعتيْن وقدْ شدّتْهُ الألوان ُ العجيبة وهي تُسَرْبِلُ ريش هذا المخلوق الصّغير…
عادت الأصواتُ إلى سمْعه… ألْهَتْهُ عن الطائر العجيب، انحنى أكثر… جحظتْ عيْناهُ… النُّعوشُ تهتزُّ برِفْق…الضّجّة تعْلو شيْئا فشيْئاً…
أحد النُّعوش
– “بيْن جنبيّ يرقد رضيعٌ كالقمر؛ غسلتْه الدّماء… كفّنتْه السّماء، أهْرقتْ عليْه خوَابيَ عِطرٍ مُعَتّق.. على ثغْرِهِ بقايا حليبِ أمِّه…”.
نعْشٌ آخر
– “تسْكُنُني رضيعة؛ بيْن أناِملها الرّقيقة؛ الْتفّتْ خصلة طويلة منْ شعر أمّها.. على جَبِينِها رِباطٌ مِن حرير، انْتظمَتْ رُسوماتُهُ على طِرازِ أعْلام صغيرة، رشَّتْها قطراتُ دمٍ…. عِطْرُها ضمّخَ الكفن؛ فأغْدَقَني طيباً وأغْرَقَني مِسْكـــــا….”.
استمرّ الحفّارُ في الاستماع إلى بقية النّعوش وهو يكبحُ جماح خياله، حتّى إذا وصلَ مُنْتَهاها؛ واستعدّ لإنْزالها في قبورها؛ إذا بالطائر الملوّن؛ يُحلّق فوق رأسه من جديد ثمّ ينقر النّعوش نقرات خفيفة، ويستقرّ فوق أحد الأغصان المزْهرة…. تتصاعد روائحُ القُرُنْفُل والعنْبر والكافور والريحان…! يسْبَح المكان في عبق أريجٍ لا يوصَف… يُغْمض الحفّارُ عيْنيْه، يملأ رئتيْهِ بهذا الدّفَق العجيب.. يتمنى لو أنّهُ كان داخلَ واحدٍ منْ هذه النُّعُوش.
مع حلول المساء؛ يُضيءُ الحفّارُ شُموعاً في كوخه البائس… الرّائحة تسْكنُ أنْفَه.. تنتشر في أرْجاء الكوخ، تغْسِلُ بُؤسَه… أصوات النّعوش؛ تسْكنُ المَكان…
يأخذ الحفّارُ لوْحة وقلَماً عثر عليْهما في إحْدى الخَرابات بجانب الكوخ… يتأمّلُهُما… تُغافِلُهُ دمْعة، تنزلُ فوق اللوحة، تغْسِلُها مِنْ بقايا دمٍ لِتِلْميـــــــــــــذٍ؛ مَزَّقَتْ أحْلامَهُ وُحوش البرّية…
يُنظِّفُ اللوحة، يتجهّزُ للكتابة….القلم بيْن أصابعهِ بمِدَادِه الأحمر المُعَتّق؛ يسيحُ على اللوحة: “هلْ هذه جَثاميـــــنُ؛ أمْ صَنادِيقُ رَياحِيـــــن…؟!”
يترك اللوحة تجِفُّ… يحملُها في الغد، يُثَبِّتُها على رؤوس قبور البارحة… إنها “الشاهدة” تُوثّقُ لِنُعوشِ الرّيْحان وتحكي عن أزِمِنة الخذْلان…!