مقالات

حكومة سورية انتقالية.. هل تضمن الانتقال السياسي؟

الرئيس السوري أحمد الشرع يترأس أول جلسة للحكومة السورية الجديدة

“المدارنت”..
استقبل السوريون حكومتهم الانتقالية التي أعلنها الرئيس أحمد الشرع، في ساعة متأخّرة منذ عدة أيّام بمشاعر مختلطة عموماً، ولكن يغلب عليها التفاؤل النسبي. فقد كان لتلك الحكومة بعض السمات، وفيها بعض الأعضاء المتميّزين ممّن يُغلّبون الإيجابية لدى معظم الذين تلقّوها، إلّا أن التأمّل المتأنّي فيها قد يعود بالمرء إلى حذره الموروث.

تؤكّد أدبيّات معارضة حكم آل الأسد تاريخياً، وخلال الثورة السورية، كذلك الأمم المتّحدة والعالم الحر والقوى المعنيّة في المنطقة منذ زمن بعيد، أن هذه الحكومة لا بدّ أن تكون «شاملة، وذات مصداقية، ولا طائفية»، وقد استقبلت جميع تلك القوى الحكومة بالترحيب، بعضها أسرع من بعضها الآخر، ولكنّ من الضرورة فحص هذه الحكومة على تلك المعايير الثلاثة، وهذه الضرورة تحتّم حتى السلطة نفسها أن تقوم بذلك أيضاً.
انتعش مفهوم الحوكمة الشاملة مع تحوّلات العصر الحديث، ودخول دولٍ ذات سمات مختلفة بتنوّع بنيتها واختلافها عن تلك الدول القديمة، ومن ثمْ أصبح يشار إليها كحوكمة تدمج ولا تقصي، أو تنبذ أيّ شريحة اجتماعية مختلفة باتّجاه الهامش. يتعلّق ذلك – من ثمَّ- بالمجتمعات الغضّة وذات التعدّدية والتنوّع، أو مجتمعات الموزاييك.
أصبح ذلك جزءاً من فلسفة الملاحقة الغربية للعالم الثالث خصوصاً، والمتعلّقة بالأقليْات بكلْ أنواعها. في سوريا: يقصدون الكرد خصوصاً كأٍقّلية إثنية أكبر، ويقصدون المسيحيين والعلويين والدروز كأقليّات ذات وضع أكثر تعقيداً. وكان لذلك أثرٌ- في سوريا أيضاً- على عمق استيعاب التجمّعات والقوى السياسية والاقتصادية، وكذلك المهنيّة والأكاديمية والثقافية.. وتفهم السلطات السائدة ذلك النمط الغربي – الذي يسهل ردّه إلى العقلية الاستشراقية- وتعمل على تسويقه كسلاح دفاعي، لكنّها من جهة أخرى تعتني بتقديم نماذج مختارة ليّنة هيّنة من تلك الأقلّيات، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى أيّة عملية تمكين وإحساس بالمشاركة الحقيقية لديها.

بعد خلاص السوريين من استبداد لا يمكن على الإطلاق وصفه باللاطائفية
لا بدّ للسوريين من التحقق من كون سلطاتهم الانتقالية لا طائفية

قرْرت السلطة السائدة – التي حرّرت البلاد كما يرى معظم الناس- شكل وحجم وطريقة «الشمول» و»الإدماج»، وعيّنت ممثّلة للطوائف المسيحية لتكون في الوقت ذاته ممثّلة للمرأة بين اثنين وعشرين رجلاً؛ كما اختارت ممثّلاً واحداً لكلّ من الطائفتين العلوية والدرزية، وممثّلاً للكرد كلّهم. تلك «قسمة ضيزى»، إذا نظرنا إلى الأمر بالنسبة والتناسب، وهي «منتظمة» الحواف بحيث يظهر افتعالها أيضاً. لم تستطع السلطة الجديدة بذلك أن تقنع تلك» المكوّنات» بأنها شريكة في الحكومة، وفي بناء سوريا الجديدة.
قال الرئيس الشرع إنه لم يأخذ بعين الاعتبار أيّ تمثيل سياسي في تشكيل الحكومة – أو ما في ذلك المعنى- وإنه لم يكن فيها محاصصة بل مشاركة، لكنّ هذه الحكومة قد احتوت على أربعين في المئة من خيرة وأرفع كوادر “هيئة تحرير الشام”، وحكومة إدلب، منهم رئيسها ووزير خارجيته ودفاعه وداخليّته وعدله، إضافة إلى وزراء الطاقة والإدارة المحلية والأشغال والتنمية. على عكس «الشمول» و»الإدماج» والتكنوقراطية.
ذلك احتكار وتفرّد سياسي، واحتكار للعنف داخل جسم الدولة نفسها، التي ينبغي أن تحتكر العنف والسلاح، وإقصاء للسياسة، من حيث هي تفاعل مع سياسات أخرى وسياسيين آخرين، ما يزال النظام الجديد يرفض التعامل معهم، أو مع القوى التي يمثّلونها، ذلك امتداد لمنع نظام الأسدين للسياسة، لا يمكن تجميله بالكلمات المعسولة.
قاد الرئيس الشرع شخصياً عملية إسقاط النظام، وتصدّى لتلك المهمة واستكمالها. وهنا يغلب أنها قرار استراتيجي عند إدراك ذوبان النظام السابق مع استكمال دخول حلب، وتلك – المبادرة إلى استكمال الزحف- سمة قيادية لا شكّ بتميّزها، وكان موضوعياً حين قال إن الشعب هو الذي حرّر وقرّر بتضحياته ونضاله طويل الأمد، في الوقت الذي تفشْت فيه جملة «من يحرّر يقرّر»، واستفزّت أهل التضحيات لعقد أو لعقود.

بالتركيبة الأيديولوجية والسياسية للحكومة، لا يمكن اعتبارها «لا طائفية» تماماً كمّا عبْرت الأمم المتحدة والغرب وبيان العقبة، بل إنها بعناصرها الرئيسية ونقاط ارتكازها وقوّتها ترجع إلى الأكثريّة، وإن احتوت على البعض ممّن هم أقرب إلى الاعتدال. وحتّى في تلك الأكثريّة نفسها، تعبّر مراكز القوة في الحكومة، عن طرف واحد في تلك الأكثرية وليس عن «كلّ» أطرافها. وبعد خلاص السوريين من استبداد لا يمكن على الإطلاق وصفه باللاطائفية، لا بدّ للسوريين من التحقق من كون سلطاتهم الانتقالية لا طائفية.
المسألة الثالثة في توصيف سمات الحكومة الواجب التحقيق لتنفيذ مهمّتها في الانتقال السياسي، هي في كونها «ذات مصداقية»: أي أنها تمتلك رصيداً كافياً لتصديقها وتصديق برامجها وحسن نواياها. هنا يمكن أن نتوقّف ويتوقّف الكثيرون ولا يحكمون بسرعة وارتجال، رغم كلّ ما ورد أعلاه. لماذا؟ لأن السوريين شهدوا على أيدي أهل الحكم الجدد، أولئك معجزة العصر بالنسبة إليهم في سقوط النظام الاستبدادي، الذي احتكر الحكم والقرار، واستبدّ وافتقد إلى أي مصداقية، وأقصى الشعب معظمه، بل قمعه وقتله ودمّر مساكنه وبلاده!
يبدو أيضاً أن ذلك ما دفع الأمم المتحدة والغرب والقوى الإقليمية الفاعلة إلى الترحيب بتشكيل الحكومة، مع الأخذ بالاعتبار تأخّر الولايات المتحدة عن غيرها بثلاثة أيّام، وتسلسل ترحيب الدول المحيطة، منذ الإعلان عن الحكومة حسب واقع الحال. ليس من اعتراض على أن تكون الحكومة من التكنوقراط، وتنكبّ على انتشال السوريين وبلادهم من الحفرة الواقعين فيها، لكنّ الاعتراض على الانفراد بالقرار، ونفي السياسة والسياسيين، والتجمعات المهنية، والمدنية، والاقتصادية وغيرها، ذلك الانفراد يمكن له أن يفتح طريقاً جديداً لاستبدادٍ جديد.. يقود طريقه المكتب السياسي/ الأمني للحكومة، ذو الصبغة الواحدة.
نشير هنا إلى الضرر المتراكم بسبب تأخير البدء بإجراءات العدالة الانتقالية، التي أسعف غيابها من نفّذ المجازر الأخيرة، وكان قد حسب بعضنا أنه ستتمّ تسمية وزارة رئيسة لها مع الوزارات، للتسريع بتأسيس هيئة عليا ومؤسسة مستقلّة ذات صلاحيات واسعة في ميدان عملها. تجاهل تلك المسألة، والتعويض بذكرها بين فينة وأخرى، أو خطاب وآخر، لا ينبئ بالخير، ويؤكّد تشاؤم المتشائمين، كما يضيف قوائم جديدة للإفلات من العقاب، يُخشى أن تصبح من أسباب تشريع إفلات النظام المنهار أيضاً من العقاب. وإن ذلك التجاهل والتأخّر يمكن أن يُترجم دماً إضافياً في ما بعد، بعد أن فجّر الدماء خلال الشهر الماضي.

لقد تمّ في يوم واحد وقرار واحد، حلّ الجيش والأمن والشرطة والجبهة الوطنية وكلّ المؤسسات العسكرية والسياسية والإدارية، ولم يبق في الوجه بعد ذلك إلّا «الأمن العام»، الذي يجهد للقيام بكلّ المهام المطلوبة على مساحة البلاد – بكفاءة مشهودة- ولا طاقة لديه لذلك، كما بقيت «الإدارة السياسية» التي ظلّت من مهام السيد الشيباني، ولحقت به إلى وزارة الخارجية، لتصبح لديه هناك مهمة أخرى تشبه الأمن السياسي، أو الاستثنائي الذي يتحكّم بحرّية العمل السياسي سلباً أو إيجاباً.
ويا للغرابة! لا يُمكن أيضاً العودة إلى نهج «المكرمات» الذي اعتدناه في أيّام الأسد والأسد، لنكتفي بمنحة هنا، والتفاتة شعبية هناك، أو استقبال كريم لأبناء الشهداء، وحتى تحويل قصر الشعب من حالة الهيبة والغموض إلى حالة عادية يصل إليها الناس – وكلّ ذلك جيّد ومطلوب، لكنّه ليس الجوهر والأساس.

لا بأس بالتركيبة الوزارية من حيث أفرادها المستقلّين خصوصاً، أمّا من حيث إمكانية تحقيق مهمّتها الانتقالية فهنالك بأس شديد، حيث يبدو أن» الطبل ما زال في دوما، والزَمرَ في حرستا» كما يُقال في المأثور الشعبي.. والعالم سئم انشغاله بتلك البلاد وذلك الشعب، لكنّ الخطير هو سأم السوريين أيضاً من قضيّتهم، وانكبابهم على أيّ طبق يوضع أمامهم. أم لعلّه بالفعل ليس بالإمكان أفضل ممّا كان!؟

موفق نيربية/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى