مقالات
(حكي بلدي).. عصفور الدوري..!

خاص “المدارنت”..
عندما كنت صغيراً، أحفظ الأمثلة التي تردّدها أمّي، وتُطبعُ في ذاكرة الحدث، لم اكن أعرف معناها، ولكني كنت احفظها (تغدّى عند الدرزي، ونام عند المسيحي)… (وعصفور الدوري ما “بيجوّي”).
أمّي لم تكن عالمة نفس، وليست من خرّيجي جامعة اكسفورد، ولا تعرف شيئا عن فرويد، حتى أنّها لا تعرف القراءة والكتابة، وهي حفظت هذه الامثله عن جدّتي، وجدّتي حفظتها عن أمّها، لم أكن اعرف ماذا تعني عبارة درزي، وماذا تعني عبارة مسيحي، فقط كان هناك مسجدًا خلف البيت، يوقظني كلّ فجر، يدعوني الى الصلاة، حتى قبل ان تصحى الدّيكة في قنّ الدّجاج.
إمام الجامع، بصوته الجهوري، يُذكّرني كل خطبة جمعة، ألّا أسرق، لا اقتل، لا أزني، وذلك تحت الفصل السابع من العقوبات الالهية، والذي يقضي بإحراقي في نار جهنّم، والتي حجمها بحجم السموات والارض، وجسدي الهزيل واجساد الفقراء المستمعين، حطباً ووقوداً مستعراً، حتى لا تنطفئ هذه المحرقة الالهية، وفوق كل هذا، يجب ان اخضع الى استجواب في القبر من محققين محترفين (انكر ونكير)، واثناء الاستجواب، وان كنتُ بريئاً، سوف أُضغط ضغطة القبر، مع عذاب البرزخ، وهم غير آبهين بحالي من كل ضغوطات الحياة التي اوصلتني الى القبر، منهكاً، اتناول سبعة أنواع من الادوية.
… هذه النظريات، صوّرت لي الانسان، حيواناً مفترساً في الفرز الجغرافي، وحدّدت لي الأماكن، أين يجب أن تأكل، وأين تنام، وانّ امام المسجد، يعمل على ترويض هذا الانسان المفترس، ولجمه، وانّ هذه الحياة غابة من الضباع والاسود، تنقضّ على طرائدها، لمجرد ان تغفو عين الفريسة…
كلّ هذه الذكريات والافكار، حين كنتُ في إحدى حدائق فيينا، واقتربَ منّا عصفور الدوري، واخذ يأكل من كفّ يديّ بقايا الخبز، دونما خوفٍ، ناسفاً النظرية التاريخية (عصفور الدوري ما “بيجوّي”، لأن زوار الحديقة العامة، عَوّدوا العصافير على الأمان…