مقالات

حين يفكّر المعدن.. الذكاء الاصطناعي بين نعمة التقدّم ونقمة الانفصال عن الذات!

وليد حسين الخطيب/ لبنان

خاص “المدارنت”..
لم يكن يخطر ببال أحد قبل عقود، أن تصل الآلات إلى هذا الحدّ من “الذكاء”، حيث تكتب وتُبدع، تتعلّم وتُقرّر، بل وتحاور وتُقنع. الذكاء الاصطناعي، الذي بدأ مشروعًا علميًّا جريئًا، صار اليوم واقعًا يتسلّل إلى تفاصيل الحياة، من الهاتف في الجيب، إلى السيارة، إلى المدرسة، والمستشفى، وحتى إلى قاعات صنع القرار.
ففي زمن تسارُع الخوارزميات أكثر من الخُطى، وتطوّر عقل الآلة على مرأى من الإنسان، نقف وجهًا لوجه أمام سؤال لم يعُد ترفًا، وهو: هل الذكاء الاصطناعي شريكنا في الحضارة، أم منافسنا في المعنى؟
هذه المقالة محاولة لالتقاط المشهد من طرفيه، لا تهويلًا ولا تهوينًا، بل بعين الباحث عن التوازن، وقلق المحبّ على مستقبل الأجيال.
لا شكّ في أنّ لمعظم الأشياء في الحياة وجهين: سلبي وإيجابي، من هذا المنطلق سنحاول أن نبيّن بعضًا منهما.
لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي سهّل حياة البشر بطرائق مذهلة، وهنا يكمن الوجه المشرق بما فيه من رفاه وتطوّر.
ففي الطب، صار يشخّص الأمراض بدقة متناهية. وفي التعليم، وفّر أدوات تفاعلية تساعد على تعلّم أسرع وأشمل. وفي الحياة اليومية، جعل الخدمات أسرع، وأكثر تخصيصًا وراحة. وفي الاقتصاد، فتح مجالات عمل جديدة، ورفع كفاءة الإنتاج… لكأن البشرية قد وضعت عقلًا ثانيًا في خدمتها، يُنجز ما كان يحتاج أيامًا في ثوانٍ، ويحلل ما يعجز عنه البشر في لحظة.
أما الوجه المظلم فقد أدّى إلى بطالة رقمية وعزلة وجدانية، من هنا فإن الذكاء الاصطناعي يُهدّد بتغيير جذري في طبيعة الإنسان نفسه.
فقد بدأت البطالة التكنولوجية تُطلّ برأسها، حيث تُستبدَل الأيدي العاملة بالخوارزميات. وأخذت الفجوة الرقمية تتسع بين من يملك أدوات الذكاء الاصطناعي ومن يُحرَم منها. وصارت المعايير الأخلاقية على المحك، مَن يقرّر ما “يجب” على الآلة فعله؟ ومن يُحاسبها؟ وأصبحت الخصوصية تُنتهك بصمت، والبيانات تُجمع لتُستخدَم في رسم قرارات لا نعلم عنها شيئًا..
إنّ أكثر ما يخيف في الذكاء الاصطناعي هو خطره المحدق على الجيل الجديد؛ هذا الجيل الذي يربّيه هذا الذكاء بكل ما للكلمة من معنى. هذا الجيل لم يعرف عالمًا بلا شاشات، ولا حياةً من دون مساعد ذكي، وصار أكثر التصاقًا بالعالم الرقمي، وأقل صبرًا على الواقع. واختُزِلَ الإبداع عند الغالبية العظمى في “ماذا أطلب من الذكاء الاصطناعي؟” لا في “ماذا أُبدِع أنا؟”.
لقد بات الحوار مع الآلة أكثر منه مع الآخر. وبدأ المخيال يُصاغ وفق ما تقترحه الخوارزميات، لا وفق ما ينسجه الخيال الحرّ.
من هنا، يجب ألّا يغيب عن بالنا أنّ الإنسان أولًا… ودائمًا.
إن الذكاء الاصطناعي ليس شرًّا ولا خيرًا في ذاته، بل هو أداة في يد الإنسان. فالخطر لا يكمن في وجوده، بل في انفلات استخدامه من دون وعي ولا ضوابط. والفرصة فيه عظيمة، إذا ما اقترنت بحكمة أخلاقية، وتعليم يحصّن الجيل من التبعية المطلقة لما تصنعه الآلة.
لذا، فلنربِّ أبناءنا على أن الآلة أداة لا عقل بديل، وأن القيمة الإنسانية لا تُقاس بمدى ما تعرفه الآلة، بل بما يحتفظ به الإنسان من ضمير وفكر وحرية قلب. ففي خضمّ الطفرة الرقمية التي يقودها الذكاء الاصطناعي، تبرز الحاجة الملحّة إلى وعي تربوي متين. على المربّين والأهلين أن يحتضنوا هذا التحوّل بعين البصيرة، لا بعين الخوف أو الانبهار.
فالذكاء الاصطناعي ليس بديلًا من العقل الإنساني، بل هو أداة، يُحسن استعمالها مَن أحسن فهمها. من هنا، علينا أن نوجّه الناشئة إلى استخدام هذه التقنيات لتعزيز التفكير النقدي، لا للاتكالية؛ وللإبداع، لا للكسل؛ وللوعي، لا للهروب من المسؤولية. وينبغي غرس قيم التحقق من المعلومات، وصون الخصوصية، واحترام حقوق الإنسان، لتظلّ التكنولوجيا في خدمة البشر، لا العكس. إنّ التربية على الذكاء الاصطناعي تبدأ بغرس الحكمة في القلب، لا في البرمجة وحدها.
أنا، كاتب هذه السطور، لا أخاف من الآلة، بل أخاف من أن ننسى أنفسنا ونحن نصادقها.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى