مقالات

خصائص ومزايا الإنسانية في التصوّر الإسلامي/ ميزة الضرورية والخاتمة/ الجزء (6)/ رابعًا

أديب الحاج عمر/ لبنان

خاص”المدارنت”
 ميزة الضرورية
يتوجه الإنسان وبقوة الإيمان للسيطرة على الوجود، وما هذا إلا نزوع فطري. كما أن من المالوف أن تجد جماعات بشرية، ناقدة وجود العلوم والفنون والفلسفات، أي عديمة الحضارات، ورغم ذلك لا يمكن أن تجد جماعات من دون عقيدة دينية، أو تشريع ديانة، لأن ذلك اصل فطري لدى جميع الناس، سواء يعلمون أو لا يعلمون، متدينون أو غير متدينين، وهذا الأصل الفطري سيبقى داخل الإنسـان كاحسـاس دينـي وجـودي ما بقيـت الإنسانيـة.
وللبيان، فإن الله تعالى قد خلق الإنسان__ فطريا__ على عقيدة الاسلام، مقرونة بعديد من الغرائز والرغبات والميول. وبين هذه وتلك، أي بين الشهوات والايمان، يذهب الإنسان بفطرته إلى ما يحفظ نقاء معدنه وصفاء جوهره، إلى أن يصل مرتبة سمو الاستقامة، فيصبح سوي المنهج وقويم السبيل.
ولكي يستقر الإنسان في الاكوان والعوالم المحيطة، لا بد له من رابط قوي متين، يضمن له ذلك الاستقرار، ثم يعرٍفه مكانته ودوره فيها. من هنا كان لا بد من وجود عقيدة تحفظ وتضمن ذلك الوجود، على المستوى الإنساني والكوني، إضافة إلى وجوب حتمية الوجود الفطري للشعور والنزوع لدى الانسان.
فالرابط الجدلي بين الإنسان، ذلك المخلوق المميز وبين علاقاته بكل ما يحيط به ، كونه سبدها، إنما يفرض الضرورية الوجودية كي تنظم وتقنن تلك العلاقات. وهذا يعني بيان أن الإنسان بحاجة إلى عقيدة من اصل فطرته، أي مغروسة في ذاته وشعوره ووجدانه. أي ليس احساس طارئ ولا مكتسب. وللبيان، فإن أي انحراف عن سبيل إدراك هذه الحقيقة، فإن الإنسان سيحيا قلقا، مضطربا فيشقى ثم يفقد الاستقرار والاطمئنان. وهكذا فحاجة الإنسان إلى عقيدة، حاجة ضرورية، كي يحقق مكانته الكونية، ثم دوره ومقامه في هذه الحياة الدنيوية، إضافة إلى تحديد معالم رسالته وعمله واهدافه.

كل انسان يولد على الفطرة ، فالضرورة الفطرية تلزم المولود عقيدة دينية. لقوله تعالى: “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..” الاعراف/ 172_173.
من هنا، تبدأ حركة الإنسان الايمانية، بالعلاقة مع الله الواحد الاحد، وتنتقل إلى الاكوان المحيطة به لاكتشاف ما فيها، وما تكنه، فيتعرف عليها عن قصد وتصميم وبكل دقة وابداع، ثم ينتهي بذلك إلى إدراك مكانة ذاته في الوجود مع تحديد سلوكياته وتصرفاته في كل ما أدركه وتعرف عليه.
وهكذا فالضرورة، تفرض وجود انسان متدين (صاحب عقيدة)، والسبب يرجع الى ضرورة وجود نظم وقوانين ترسم للانسان سبل سلوك تلك الحياة التي يحياها، ومن جهة ثانية، تضمن (العقيدة) للقوانين أسباب نهوضها وتقدمها التي تحقق للانسان استقامته على أسس من الحق والعدالة والامن والسلام.
فالتدين ضرورة فطرية غريزية، مع الإشارة إلى أنه تعالى قد ارتضى السلام، دين حق للناس جميعا. لقوله تعالى:”إن الدين عند الله الإسلام”. آلعمران/ 19. وننوه ايضا، إلى أن اختيار الاسلام، كدين حق للناس جميعا، إنما يعود لأسباب ما مرت به الفطرة من مراحل تطورية، حتى انتهت إلى مرحلة الكمال والتكامل، متمثلة برسالة محمد (ص)، والتي جاءت إلى البشرية جمعاء، تحقيقا لما حملته من تشريع انساني عالمي. لقوله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”، المائدة/2.
إنه دليل ما اشتمل عليه الإسلام من تطور رسالات سماوية، من يهودية ونصرانية، والتي قد تشكلت عبر امتداد زماني ،في العقيدة والمعتقد.

لقد عرض الإسلام القضية البشرية منذ نشأتها حتى غايتها. وان تعددت الديانات في الفروع والتكاليف والاعمال، فقد اتحدت في المصدر، أي أنها جميعها قد صدرت عنه، كجوهر تمثل في التوحيد الإلهي. الدليل في أن تلك الاديان قد اشتركت في العقيدة (عبادة الخالق العظيم)، ثم اُمِرت في معالجة الأمراض الأخلاقية والاجتماعية كي تستقيم على طريق الحق والعدل والمساواة والحرية.. الخ. لقوله تعالى:
“شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ” الشورى/
13.
لقوله تعالى: “وما ارسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه انه لا اله الا انا فاعبدون”/
الانبياء/ 25.
الإسلام منهج وتشريع شامل لامور الدنيا والآخرة، بحيث يحقق صالح الفرد والجماعة، على السواء، فهو عقيدة دين، وايضا، فهو نظام حياة، من ان العلاقة بين الإنسان وبين خالقه، لا تنفصل عن تلك العلاقة بين الإنسان وبين اخيه الانسان، فالإسلام هو الذي ينظم ويوجه ويراقب ويسدد ثم يقدم الاجر والثواب في الدنيا والآخرة. فالعقيدة الإسلامية ضرورة انسانية، ترفع مستوى الإنسان وتكرمه، وتحافظ عليه من الانزلاق والانحراف المادي والمعنوي، إذ من خلالها، تقوم وتنشأ مجتمعات نظيفة، متعاونة
متكافلة، مستقيمة، لأن العقيدة الصحيحة السليمة، إنما هي التي تدعو وتأمر، بالتقوى والإيمان والاحسان، وتنهى عن الاساءة والتعدي والعدوان، يعني أنها هي التي تقدم الخير العام بعد تحقق الطاعات، قولا وعملا، وبكل هذا يترسخ الأمن وتطمئن القلوب.
وهنا يمكن القول، إذ لا وجود لقوة، مادية أو معنوية، تعادل قوة التدين (بما شرع الله) في ضمان وتماسك المجتمعات والمنظومات والمؤسسات، إذ لا تكفي قوة السلطات الحاكمة مع قوة تطبيق القوانين الوضعية، من إقامة مدينة فاضلة ،أو وطن مستقر متقدم، تحترم الحقوق وتؤدي الواجبات على أكمل وجه، إلا إذا ارتكز على قوة العامل الروحاني، الذي اسمه العقيدة، والمحملة بالقيم والأخلاق والمثل العليا، والتي تكفل عدم انتهاك الحريات وتقديسها لسمو النفوس البشرية
ختاما، تجدر الاشارة، إنه ليس بمقدور العلم وحده، يؤمن ضمان السلام والرخاء الإنساني العالمي، فالعلم سلاح ذو حدّين، سبيل الارتقاء السوي، وفي الوقت نفسه، ادات قتل وتدمير، إذ لا يمكن للانسان، ومهما ارتقى بفكره وعلمه ونضج عقله، أن يحيط بكل ما يوفر للانسانية من امان واستقرار . فالله الخالق، وحده القادر الفاعل، والذي بيٌن ووضح للانسان العاقل، سبل الاستقامة الانسانية، ثم وضعه على الجادة الصحيحة، جراء التزاماته الكاملة والسليمة، مع خالقه وتشريعاته، عقيدة وعلاقات وسلوكا وتصرفات، لأنه، كانسان لم يُخْلَقْ سدى. لأن التدين نبتة فطرية اصيلة، فُطِر عليها الانسان، فتجذرت في ذاته وفي نفسه. فالدين رقيب ذاتي، يزكي النفس ويطهرها، ويحول بين الإنسان ونوازعه وشهواته، وهذا هو ما ينبغي أن تسعى الإنسانية إلى تحقيقه. ونلفت النظر إلى أن العقيدة الإسلامية، تحفظ النفس والمال والعرض، وهي ضرورية من ضروريات الإنسانية الراشدة.

خاتمة المقالة
في الختام، نخلص إلى أن كل ما اختصت به الإنسانية من مزايا الاستقامة والفضيلة، إنما هي اصول انبثقت من جوهر العقيدة الاسلامية، ثم ارتكزت على قواعد تطبيق منهجها وتشريعاتها، وسبيله مرتبط على الإيمان السليم، انطلاقا من مقولة أن يحب الإنسان لأخيه ما يحبه لنفسه. والإنسان المؤمن مرآة اخيه الانسان.

وهكذا، فالانسانية، وبالمنظور الإسلامي، إنما تبدأ بالفرد وتنتهي بالمجتمع الإنساني العام، أي العالمية، كما أنها تبدأ بالدنيا وتنتهي بالاخرة، ضمن منهج متكامل وتشريع متناسق مقنن، من أجل تحقيق:
1/ تعريف الإنسان بخالقه، وبناء علاقة ودية بينهما، على قاعدة : آله خالق معبود، وإنسان مخلوق عابد.لقوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، الاعراف/ 158.
2/ تطوير سلوك الفرد وتوجيهه نحو الاستقامة والخير العام. لقوله تعالى: “قد أفلح من تزكى..” الاعلى/ 14.
3/ تدريب وتمرين الفرد على مواجهة متطلبات الحياة المادية
4/ قيام منظومات إنسانية، يخاف أفرادها (رؤساء ومرؤسين) الله، فيحققون تشريعاته العادلة والحقة، فيما بينهم
5/ الدعوة الحقة إلى نشر العقيدة عالميا. (فهما وممارسة). لقوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس..”، آل عمران/ 110.
6/ غرس الإيمان واستنباته، مفهوما وممارسة، بالوحدة الإنسانية والمساواة بين البشر. لقوله تعالى: “وأن هذه امتكم أمة واحدة وانا ربكم فاتقون”، المؤمنون/ 52.
(إنتهى)

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى