تربية وثقافة
دعــاء “الــغــــالــــي…
خاص “المدارنت”..
كان نهاري شاقّا؛ فالسفر من الريف البعلبكيّ الى بيروت في لهيب آب، ورطوبة المدينة الساحلية المشبعة بالتلوّث رحلة متعبة تثير القرف والاشمئزاز.
لم أكد أنهي زيارتي الى الطبيب المعالج في مشفى العيون التخصصيّ، حنى سارعت الى العودة من دون إبطاء هروباً من حمّام العرق الذي ينتظرني بلزوجته المزعجة.
كنت اقود سيارتي تاركا” المدينة لصخبها وزحمتها ولفحات اجوائها القائظة، مصعّداً في المرتفعات الجبلية، أطارد النسيمات المنعشة في فضائها الرحيب. كنت أجوب الطريق متنسّماً هواء الجبل المنعش النقيّ، فتنحدر بي الى “البقاع”، لأتوقّف استجابة لنداء الجوع عند أحد المطاعم.
اشتريت بعض الأطعمة متابعاً طريقي، وفي البال أن أوقف سيارتي في مكان ظليل، لأتناول طعامي براحة وهدوء.
ولم يكن المكان ببعيد؛ فما كدت أبرح احدى البلدات البقاعية، حنى وقعت منّي العين على صفّ من اشجار صنوبرية ظليلة باسقة، فانحرفت بسيارتي نحوها، استظلّ فيء إحداها، مخرجاً مشترياتي من الزاد، أتناولها بشهيّة.
كان نداء البطن، والطعام الشهيّ قد شغلا منّي الانتباه عن مشهد صادم مفاجئ:
عجوز تقدّمت بها السنّ، تقف بجوار حاوية نفايات، تخرج منها بعض قطع الخبز اليابس، تقضمها من دون انتباه لما يجري حولها.
كان منظرها رثّاً زريّاً، يثير الحزن والإشفاق، قامة قصيرة، وجسد نحيف. وجه قاتم البشرة عميق التجاعيد، وشعر وخطه الشيب تحت غطاء تقادم عهده، يستر جزءاً منه، ليخرج الباقي مشعثاً لم تلمسه يد العناية والإهتمام منذ زمن.
كانت المرأة مثالاً صارخاً للفقر المدقع، وقد عكست ثيابها صورة جليّة له؛ فالكنزة الصوفية البالية، والسروال الذي يمتدّ حتى الكاحلين، والمئزر (الداير-التنّورة) الذي يستر الجزء السفليّ من الجسد، والحذاء البلاستيكيّ في القدمين… مظاهر تحدّثك عن نفسها بفصاحة بالغة.
صدمني المشهد فعلاً. جمدت حركة فكّيّ عن مضغ المزيد من الطعام. تلبّدت عيناي، وبدأتا تتأهبان للإمطار.
ماذا تفعل هذه المرأة المسنّة؟! ما الذي يدفعها الى التقاط قوتها من حاوية القمامة؟! أليس لها في شيخوختها من معين؟! لا يبدو أنّها من تلك المتسوّلات اللواتي يستوقفن المارّة شاكيات يمددن يد الإستعطاء.
لم أتأخّر. تقدّمت من المرأة، وفي جعبتي اسئلة ملحّة تبحث عن جواب.
– حجّة، شو عمتعملي هون؟ مبيّن إنّك وحدك.
أجفلتها المفاجأة. لم تكن تتوقّع وجود أحد قربها، وهي تبحث في حاوية القمامة عن طعامها.
إلتفتت نحوي مدقّقة في محاولة لتبيّن ملامحي بوضوح. بدا لي، وهي تنظر إليّ هكذا أنّها تعاني شحّاً في النظر.
اقتربت منّي، وبصوت خافت: – لا يا بنيّ. “أحمد” هلّق بيجي. قللي نطريني هون. ما بتأخّر وبرجع باخدك، هيئته تأخّر، ماني عارفه شو صاير معه، خايفه يكون صار معه شي.
– ما عرفتِ لوين راح؟
– لا والله يابنيّ. اعطاني هالورقة، وقال إسألي عني على هالعنوان إذا تأخرت. أنا ما بقرأ. شوف لي شو كاتب فيها.
تناولت الورقة وقرأت: الله يبعت لك مين يوصّلك عا شي مأوى. أنا ما عدت قادر.
– “أحمد” بيكتب هيك؟! لا يابنيّ لا. “احمد” بيحبّ المزح. هوّي أكّدْلي إنّه بدّه يرجع. وأنا مصدّقته. هيدا “احمد” الغالي؛ ما بيتركني.
… لا أدري كيف كذّبت عينيّ وصدقتها. عدت إلى سيارتي. كان ما يزال لديّ بعض الطعام الذي صرفتني المفاجأة المذهلة عن نناوله. حملته الى جذع شجرة قريبة منها، ووضعته الى جانب قنينة ماء بارد لتشبع حاجتها من دون حرج.
أقلعت بي السيارة من جديد، وكانت وجهتها منزلي، وصلت إلى المنزل، واسلمت نفسي لقيلولة طويلة، امتدّت بي الى مساء ذلك اليوم، وصحوت على فكرة هزّت جوارحي بقوّة: ماذا لو كان “احمد” جادّاً وكان ما في الورقة صحيحاً؟ ماذا ستفعل هذه الأم مع حلول العتمة وشحّ البصر؟! ماذا سيحلّ بها وهي تواجه خيانة الإبن وفقدان الأمل؟!
قفزت الى السيارة، وأطلقت لعجلاتها العنان، يحملني الى موقع ذلك الغداء المشؤوم، قلق من وقوع مكروه ما، واحساس شديد بذنب لن يفارقني طيلة ما تبقّى لديّ من رصيد العمر.
وصلت. كان يخيّم على المكان صمت مريب، لا يعكّر هدوءه سوى صوت السيارات العابرة على نحو طببعيّ، لم أقع للعجوز على أثر. أمّا الطعام الذي وضعته عند جذع الشجرة، فما يزال على حاله لم يمسّ؛ لكنّ ما استرعى الإنتباه لديّ، هو وجود شرطيّ قرب سيارة مدنية، كانت متوقّفة قريباً منه، وعليها وعلى قارعة الطريق آثار لدماء لم تجفّ بعد.
لم يكن المشهد لينبئ بما يطمئن ويريح؛ فقد تملّكني القلق، وبادرت الشرطيّ سائلاً:
– مع مين الحادث؟
– مع “نوريّة” كانت عمتقطع الطريق، فصدمتها هيدي السيارة. ونقلناها على المستشفى.
اتّجهت نحو هذه المستشفى، وفي القلب يتردّد دعاء:
حماك الله، أمّ احمد!
ولكن… بئست ثمرة بطنك!