دعوة إلى تعددية سلمية!
“المدارنت”..
يشكل الشلل الذي أصاب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مواجهة المذابح المستمرة في جميع أنحاء العالم دليلا على أننا يجب أن نعيد التفكير في الهياكل القائمة للحكم العالمي. بدلا من التنافس الشرير بين الدول، تتحدى فكرة التعددية السلمية دول العالم وتدعوها إلى التعاون والعمل من أجل توسيع حدود السلام والأمن وخلق عالم أكثر عدلا.
العالم في اضطراب، في حين أن هناك غيابا بالغ الوضوح للقيادة الاستراتيجية والأخلاقية على الساحة العالمية. وفي الحقيقة، ثمة ثلاثة أنواع من الحروب الجارية في وقت واحد في العالم اليوم.
الأولى هي الحرب بالوكالة بين روسيا ودول منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث أوكرانيا هي ساحة المعركة. والثانية هي الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين -حيث التعريفات العقابية، والقيود التجارية أحادية الجانب، والعمليات السرية في مضيق تايوان، والمناورات الحمائية التي تُستخدم كأدوات للحرب.
والثالثة، بطبيعة الحال، هي الحرب الساخنة في الشرق الأوسط بين “إسرائيل” وفلسطين وإيران وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية.
وفي أفريقيا، وتحت بريق شعار “الديموقراطية الليبرالية”، شهدنا عودة الأنظمة الشمولية والديماغوجيين القبليين، ورأيناهم وهم يركبون إلى السلطة السياسية على ذيول معاطف سياسات الهوية وتزوير الانتخابات.
في السودان، على سبيل المثال، أدى الصراع على السلطة غير المشروعة بين الجيش في البلاد و”قوات الدعم السريع” شبه العسكرية إلى نزوح وتشريد الملايين من الناس.
السؤال الذي يجري طرحه في جميع أنحاء العالم هو: إلى متى ستقف الأمم المتحدة -الهيئة العالمية التي تم تشكيلها لتعزيز الديبلوماسية بين الدول ومنع اندلاع الحرب- لتراقب في رعب بلا حول ولا قوة بينما تمطر القنابل العنقودية وغيرها من الذخائر الفتاكة على الرجال والنساء والأطفال الأبرياء في مسارح الحرب هذه؟
إن الشلل الذي أصاب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مواجهة المذبحة المستمرة في جميع أنحاء العالم هو دليل على أننا يجب أن نعيد التفكير في الهياكل القائمة للحكم العالمي.
في كل مكان في العالم -في الغرف الدراسية الجامعية، وجلسات مراكز أبحاث السياسة الخارجية، وافتتاحيات وسائل الإعلام و”البودكاست”، وحتى في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها- هناك محادثات نشطة حول الحاجة إلى نموذج جديد في العلاقات الدولية، وما الملامح التي ربما تميز العصر الجديد.
إن الاحتجاجات المستمرة في حرم الجامعات في الولايات المتحدة ضد المذبحة الجارية في قطاع غزة، في فلسطين، هي جزء من أطروحة عالمية متنامية من أجل جلب نظام عالمي جديد. وكنتُ قد انضممت إلى هذا النقاش في كلية هارفارد كينيدي في خريف العام 2022، خلال جلسات عشاء كبار الزملاء التنفيذيين حول حالة الحوكمة العالمية في القرن الحادي والعشرين. وقاد المحادثات الوزير آشتون كارتر، وزير الدفاع السابق للولايات المتحدة، وجوزيف ناي، أستاذ الخدمة المتميزة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد. وكثيرا ما يصنف جوزيف ناي على أنه الباحث الأكثر نفوذا في السياسة الخارجية الأميركية. وتتماشى اقتراحاتي بشأن إعادة صياغة العلاقات الدولية مع ما يمكن أن أسميه “التعددية السلمية”.
بكلمات بسيطة، تشير تعددية الأطراف السلمية إلى قدرة الدول ذات السيادة -ورغبتها في العمل معا لحل أصعب التحديات التي تواجه البشرية، مثل مشكلة الجوع العالمي، والأوبئة، وعدم الانتشار النووي، والاتجار بالأطفال في العالم، والحرب.
بدلا من التنافس الشرس بين الدول، تتحدى تعددية الأطراف السلمية بلدان العالم للاتجاه نحو التعاون والعمل من أجل توسيع حدود السلام والأمن وخلق عالم أكثر عدلا.
إن فكرة التعاون بين دول العالم ليست جديدة. بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، اجتمعت دول العالم لتشكيل “منظمة الأمم المتحدة” في العام 1945.
وتؤيد المادة 1 من ميثاق الأمم المتحدة الحاجة إلى التعاون بين الأمم. وتنص المادة على أن أحد المبادئ التأسيسية للأمم المتحدة هو “تحقيق التعاون الدولي في حل المشكلات الدولية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني، وفي تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع من دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين…”.
ومع ذلك، بعد 79 عاما من تأسيسها، يبدو أن الأمم المتحدة تقف على مفترق طرق، حيث تخوض الدول المسلحة نوويا حربا بالوكالة في قلب أوروبا.
وفي ما يلي ثلاث طرق لتحقيق تعددية الأطراف السلمية من خلال الإصلاح الهيكلي للأمم المتحدة واحترام القانون الدولي من جانب جميع دول العالم.
1/ إضفاء الطابع الديمقراطي على عملية صنع القرار في الأمم المتحدة:
على مدى عقود، أثيرت تساؤلات حول “طغيان” مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث يتمتع خمسة أعضاء دائمين -هم الولايات المتحدة، وروسيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة والصين- بحق النقض (الفيتو) الذي يتجاوز آراء بقية الدول الأعضاء في المنظمة العالمية البالغ عددها 185 دولة.
ولا ينظر إلى هذا الترتيب على أنه غير ديمقراطي فحسب، بل يعتقد أنه يشكل عائقا رئيسيا أمام بناء توافق للآراء متعدد الأطراف من أجل حل الأمم المتحدة للمشاكل العالمية.
لقد أظهر التكرار الأخير للصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني والحرب المستمرة بالوكالة في أوكرانيا كيف أن المصالح المتضاربة لأعضاء مجلس الأمن الذين يتمتعون بحق النقض في الحروب الإقليمية يمكن أن تشل مجلس الأمن، وتعرقل جهود حل الصراع التي يبذلها أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولذلك، قد يكون من الحاسم، لدى إصلاح آلية صنع القرار في الأمم المتحدة، التراجع عن سلطات حق النقض التي يتمتع بها مجلس الأمن وتخويل الجمعية العامة للأمم المتحدة سلطة اتخاذ القرار النهائي. ويجب أن تكون الجمعية العامة للأمم المتحدة معقلا للتعددية السلمية ومركز صنع القرار بشأن الشؤون العالمية.
2/ احترام القانون الدولي: قد تكون العلاقات بين الدول محفوفة بالخلافات أو صراع المصالح. لكنَّ اللجوء إلى الحرب أو الإجراءات الانفرادية قد يزيد من تدهور العلاقات ويخلق مناخا من الخروج على القانون والإفلات من العقاب على الساحة العالمية. ولا يمكن لتعددية الأطراف السلمية أن تزدهر إلا عندما تنخرط الدول في الحوار والدبلوماسية وتحترم السيادة القضائية للقانون الدولي.
3/ الالتزام بالديبلوماسية: أخيرا، في عصر يهيمن عليه خطاب الحرب و”استعراض القوة” في العلاقات الدولية، قد يبدو من السذاجة إعادة التأكيد على أهمية الديبلوماسية في حل النزاعات بين الدول.
لكنها القدرة على الاختلاف، والانخراط، وإعادة الانخراط، وحل النزاعات دبلوماسيًا هي التي تميزنا كبشر.
إن عالمًا حيث “القوة هي الحق” هو المبدأ المسيطر، وحيث يُنظر إلى الديبلوماسية على أنها علم الاستسلام، إنما يؤدي إلى مكان فوضوي وبربري وغير سعيد بشكل لا يصدق للعيش فيه –للجميع بلا استثناء.
من المرجح أن الدول التي تعطي الأولوية للدبلوماسية في علاقاتها مع الدول الأخرى هي التي ستكون الأكثر تعاونا لحل المشاكل الأكثر إلحاحا التي تواجه البشرية.