“دليل اجتماعي للجالية الناطقة بالعربية في كولومبيا”.. الكتاب الذي ينتظره الأبناء والأحفاد من مغتربي كولومبيا
“المدارنت”
كتاب: “دليل اجتماعي للجالية العربية في كولومبيا”.. للكاتب العربي من القطر السوداني أحمد حسن مطر، الذي أطلق على نفسه لقب: “سندباد السودان”، وهو بحق يستحق هذا اللقب. قام بترجمة الكتاب من اللغة اللاتينية الى العربية (قيد الطبع)، كلّ من المغتربين الكاتبَين: الزميل عبد الناصر علي طه، والزميل مروان محمد درويش، يختصر الكاتب سيرة حياته كمغترب جال في بقاع الأرض، باحثا عن الحرية والحياة الكريمة، وأدرج بين دفّتيّ كتابه، سيرته الذاتية، وسلسلة من الأحداث التي واجهته، والمواقف التي وجد نفسه أمامها، وأبرزها معاناة المغترب القادم من بلاد العرب الى أميركا اللاتينية، وكيفية معالجة المشكلات والعثرات التي اعترضته. كتاب ينتظره ملايين من المغتربين، بخاصة في كولومبيا، وفي غيرها من دول أميركا اللاتينية، كونه يسلّط الضوء على تجاربهم الخاصة من دون تسميتها، أو الإشارة اليها مباشرة، حيث يجد المغترب العربي نفسه في صلب الكتاب وقصصه.
أ- توثيق الجاليات العربية
قام الصحافي أحمد حسن مطر، بإحصاء الجاليات العربية في كلِّ مكان زاره في جنوب أمريكا وأواسطها. ولا ريب أنَّه عملٌ شاق لم يتسنَّ تحقيقه إلا على يدي شخصٍ على شاكلته، ولأنه لم يجد أي صعوبة في الإتصال بكلِّ شخصٍ عربي في تلك الأنحاء، قاصداً الحصول منه على أدق المعلومات التي يريدها.
وتعتبر مصنّفاته التي قام بإصدارها عن الجاليات العربية في دول الأمريكيّتين (الشماليّة والجنوبيّة) ودول جزر الكاريبي، ذات قيمة فريدة في تصنيفها الأسماء والعناوين، وتوضيح نوع العمل الذي يقوم به كل فردٍ منهم، إضافة إلى تسمية الدول وأحياناً تسمية المدن والقرى التي هاجر منها، معتمداً على مشاهداته الشخصيّة المهنيّة، كمراسل صحافي متجوِّل في دولة تشيلي، ثمَّ مراسلاً حربيّاً في دولٍ مختلفة: أهمّها تغطية حرب “التشاكو” بين دولتيّ بوليفيا والبراغواي، والحرب الثانية بين دولتي كولومبيا والبيرو في التنازع على مدينة ليتيسيا الحدوديّة على ضفاف نهر الأمازون.
ولعلَّ أحمد حسن مطر هو السبّاق في إحصاء الجاليات العربية في دول أمريكا اللاتينيّة، إذ لا تذكر المصادر غيره مؤلِّفاً وصحافيّاً اهتمَّ بتوثيق الاغتراب العربي هناك، ما اعتبره الباحثون رائداً في مجال بحوث السير الذاتيّة والعملية لإحدى المجموعات المهاجرة في تلك البلاد، وكانت البداية في كتاب توثيقي للجالية العربية في تشيلي، حيث أعطى مؤلفه مكانة واسعة واعترافاً دوليّاً لدرجة استدعائه من هيئات عربية في دول اغترابية أخرى للكتابة عن ماضيها ونشأتها وحضورها في مختلف البلدان الأمريكيّة، وكان كتابه بعنوان “دليل اجتماعي للجالية العربية في تشيلي”.
ويشير إلى ذلك الكتاب، في مؤلَّفه الشهير “سندباد من السودان”، بقوله: “وصلت مدينة سانتياغو (عاصمة تشيلي)، وهي مدينة عظيمة تقع على السفح الغربي لجبال الأندس (الأنديز)، وفيها جالية عربية كبيرة من رجال المال والأعمال، وبها صحيفة وحيدة تصدر باللغة العربية يملكها ويُحرّرها السيد جورج الياس أبو صباح، عملتُ معه وقمت بجولة صحافية للوقوف على الجاليات العربية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، فزُرت 500 قرية ومدينة لموافاة الصحيفة بأخبار نشاطهم الاجتماعي والعلمي، وبالتالي، تسجيلهم لإصدار أول دليل إحصائي اجتماعي تجاري يضمهم، كنت أزمعتُ عمله. كما أصدرتُ أوَّل دليل إحصائي عن الجاليات العربية في البلاد في حجمٍ مصغَّر” .
ويضيف: “وأصدرتُ دليلاً جديداً سنة 1941، يحتوي على معلومات وافية عن كل المهاجرين العرب في تشيلي، تحت رعاية النادي الفلسطيني، بعد أن قمتُ بجولة أخرى من شمال البلاد إلى جنوبها، وقد لقي إقبالاً عظيماً” .
“وفي العام 1945، أصدرتُ دليلي الثاني عن دول أمريكا اللاتينية: بوليفيا- كولومبيا- إكوادور- فنزويلا- كوراساو- أَوربا (آروبا)- بيرو. وقد اقتضاني ذلك السفر والتجوال في كلِّ هذه الدول مدينةً مدينة، حيث يوجد المهاجر العربي، واستعملتُ فيها كل وسائل النقل المعروفة لإنجاز هذه المهمة” .
ويشير إلى دليل ثالث تفرَّغ لإصداره بعد سنتين بقوله: “وبعد عودتي من رحلة نيويورك، تفرَّغتُ لإصدار دليلي الثالث عن باقي دول أمريكا الوسطى وجزر خليج الكاريبيان (مُعدِّداً دول البحر الكاريبي وجُزره)، وطبعته في نيويورك عام 1947، ولقي إقبالاً عظيماً”.
الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم، هو دليل إحصائي للجالية العربية في كولومبيا فقط عام 1945، قال فيه الباحث الأرجنتيني دانيال كرسفلد في دراسته الأدبية- التاريخيّة “هناك بعيداً عن الحدود، أحمد حسن مطر وتفاعله بين أفريقيا وجنوب أمريكا”: “أثناء إقامته في ولاية أتلانتيكو (كولومبيا) نيسان 1945، أصدر كتابه “دليل اجتماعي للجالية العربية في كولومبيا”، وفيه وصف الصحافي أحمد حسن مطر المهاجرين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين القاطنين في بارّانكيا، بويرتو كولومبيا، سابانا لارغا، وسوليداد (الوحدة)” . والكتاب عبارة عن توثيق سكّاني جغرافي للجالية العربية الموجودة في كولومبيا حتى العام 1945، في مدن وقرى كولومبية حسب ترتيب أحرفها الأبجديّة، وبدون أدنى تفاصيل عن مواقعها الجغرافيّة أو أي شروحات عنها، وذلك ما فصَّلناه في تحقيق الكتاب، الذي هو وثيقة تاريخيّة لمن أراد البحث العلمي والتوسُّع في دراسة تلك الجالية وتوزُّعها في الجغرافيا الكولومبية ومواقع تأثيرها.
ب- مراحل التحقيق:
كانت البداية في مدينة فالنسيا في فنزويلا، حيث ضمَّتنا جلسة في نادي بعلول، مع أصدقاء طيّبين، حين أشار الصديق المُحب فريد سعيد درويش إلى اقتنائه لصفحات من كتاب توثيقي عن الجالية العربية في كولومبيا عام 1945، فيها أسماءٌ لامعة من قريته بعلول، من المهاجرين الأوائل إلى أمريكا الجنوبية، ما أثار فضولي للسؤال عن الكتاب في مدينة بارّانكيّا الكولومبية، عن طريق أحد أصدقاء شقيقي الأصغر محمد طه. ولكن الرياح جرت بما لم تشتهِ سُفُني، حين اجتاح فيروس كورونا العالم، واضطررت للمغادرة دون اللقاء مع الصديق المؤرِّخ الكولومبي من أصلٍ عربي بنيامين شلالا إبن مدينة بيت جالا الفلسطينيّة.
منذ ذلك الحين، بدأت كرة البحث عن الكتاب تكبر، إلى أن أرشدني فريد إلى فتاة من بعلول تقيم في جزيرة مرغريتا- فنزويلا إسمها لينا محمد قاسم عيسى تحتفظ بنسخة من الكتاب. وكان ذلك إيذاناً ببدء العمل، حيث سمحت لنا تلك الفتاة بتصوير الكتاب بنسخته الإسبانية، ووطَّنتُ نفسي على ضرورة تحقيق الكتاب بالإشتراك مع الأخ مروان درويش الخبير في شؤون الاغتراب اللبناني عامةً والبقاعي بشكلٍ خاص، وذلك بعد عودتي إلى الوطن من رحلة إلى فنزويلا عامي 2023-2024. ومن هنا كانت البداية.
ج- طريقة التحقيق وصعوباته:
بدأنا سويّة بالإتفاق على ترجمة النص إلى اللغة العربية بعد ترجمة المقدِّمات، ثم اعتمدنا على منهجٍ واحد للتعامل مع النص وتوحيد المصطلحات، من حيث الاختلاف بالأسماء بين الإسبانيّة والعربية، والتدقيق الجغرافي في أسماء المدن والقرى العربية التي غادرها المهاجرون، والتأكد من أسمائها ومواقعها، إضافة إلى تحديد مدن وقرى التواجد العربي في كولومبيا (وضعنا تصنيفها في فهارس الكتاب).
العمل كان شاقّاً، والعقبات جمّة، لا سيما في أسماء المغتربين التي ترجم بعضها بالحرف والآخر بالمعنى مثل: Guerra التي معناها بالعربية حرب، وهي ترمز إلى عائلات: غرّة، حرب وفارس. وهي أسماءٌ يشملها جميعها المجتمع العربي. ومنها تحوير الأسماء مثل: أنطونيو- أنطوان، خوسيه- يوسف وجوزيف وموسى، ميغيل- ميشال وسواها، ومنها الإختلاف بأسماء القرى والبلدات في دول المنبت مثل: دايدون- بدادون، ترمسعيّا التي هي في فلسطين وليس في لبنان. وتغيير أسماء العائلات، وخلط اللبنانية منها بالسورية والفلسطينية. ذلك ما استغرق منّا وقتاً طويلاً للتحقُّق من الأسماء الصحيحة، وأخذ منّا جهداً متواصلاً ومضنياً حتى استطعنا تذليل كافة العقبات.

د- عملنا في الكتاب
الرحلة ابتدأت يوم التقيت بالأخ عبد الناصر طه “السندباد الكامدي”، في مناسبةٍ أدبية، فأبلغني باستحواذه على نسخة مصوَّرة عن إحصاء أحمد مطر للجالية العربية في كولومبيا عام 1945، ودعاني للتباحث في تنفيذ عملٍ توثيقيٍّ حوله. وأنا كنت قد اطَّلعت على بضع صفحاتٍ منه أرسلها لي أحد الأصدقاء، والفضول يعتريني لاستكشاف محتوى هذا الإحصاء.
أثناء جلسة التشاور، كانت الفكرة الأوليّة أن نقوم بالترجمة الحرفيّة للكتاب من الإسبانيّة إلى العربية، والتحقيق في الأسماء الواردة فيه من أبناء قريتي بعلول بعد مرور ثلاثة أرباع قرنٍ عليها، نزولاً عند رغبة أحد شبابها المغتربين، لا سيما وأن بعلول هي القرية الوحيدة في محيطها التي شمل الإحصاء أسماءً من مهاجريها، وإن لم يشملهم جميعاً، فيما لم يرد من غالبيّة جوارها إسمٌ واحد.
عملية الترجمة لم تكن ذات مشقَّة، فالمفردات ذاتها تتكرَّر مع كافة الأسماء. ولم تستغرق زمناً طويلاً، وإن كانت قد أخذت جهداً متواصلاً لأكثر من خمس ساعاتٍ يوميّاً على مدار أسبوعين، كنّا خلالها نواصل الترجمة الحرفيّة، ونضع علامات إستفهامٍ عند أي إسمٍ لشخصٍ أو مكان أشكلت ترجمته أو لم تقنعنا، سيما وأنَّ بعضها قد اختلفت أحرف لفظه بين العربية والإسبانية، والبعض استبدل كليّاً أو أخذ معناه حسب اللغة.
رحلة التدقيق بالأسماء كانت مرهقة جدّاً، استوجبت في غالب الأحيان التفتيش والتحرّي في بيوتات القرى والمدن الكولومبية التي استضافت المهاجرين العرب، لمعرفة ما إذا كانت هذه العائلة بين جنبيها، ونبش أغوار الشبكة العنكبوتية لاستكشاف الأسماء الأصلية للعائلات التي استبدلت كنيتها في اللاتينية إلى أسماءٍ أخرى. فعلى سبيل المثال، لقد أخذ منّا الجهد كلَّ مأخذ حتى تثبَّتنا أن عائلة “ديكاريت” اللاتينية، هي ذاتها عائلة “زخاريا” الفلسطينية، وعائلة “كوبو” الكولومبيّة هي عائلة “مبارك” اللبنانيّة، وعائلة “كريستو” هي عائلة “صليبي”، وعائلة “غِرّة” هي عائلة “حرب”، وعائلة “عيدي” هي عائلة “الجدي”.
خلال الترجمة، عبرت أمام أعيننا أسماءٌ عدّة لمهاجرين عرب لهم في ميادين الإقتصاد والثقافة والرياضة والفنون والسياسة وسواها في مهجرهم، صولاتٌ وجولات غفل عنها أحمد مطر في مصنَّفه هذا، واكتفى بذكر الإسم فقط، وفي أحسن الحالات تحديد العمر وزمان الوصول. ليس عن إهمالٍ أو تقصير، بل ربّما وهو القادم إلى كولومبيا من عالمٍ آخر ولهدفٍ وحيدٍ، لم يكن يعلم ما تمثِّل هذه الأسماء، فيما نحن لا يمكننا أن نغفل عنها ونحن نعلم من تكون.
فكيف لنا أن يعبر إسم أولغا شمس “مايرا ديل مار” شاعرة كولومبيا الأولى من أمام أبصارنا مرور الكرام، دون أن نفي هذه الأرزة التي غرسها لبنان على ساحل الأطلسي حقَّها بالإرواء من سلسبيل الوفاء. وكذلك غبريال طربيه، الياس مفدي، عائلة شعّار والعديد غيرهم. فكان لا بدَّ من تعديلٍ في إستراتيجيّة التحقيق ومنهجيّته، وانطلقنا في رحلةٍ جديدة فيها من الإرهاق بمقدار ما فيها من المتعة والتشويق والمعرفة، والهدف كان إبراز كافة الأسماء التي يمنحنا الحال إلى إبرازها سبيلا.
عبرنا فيافي كولومبيا وأدغالها ونحن على مقاعدنا، فتَّشنا في زواريب قراها وناطحات مدنها ورمال شواطئها، اتَّصلنا، قابلنا، بحثنا في عشرات الدراسات اللاتينيّة، وغالبيّتها لباحثين كولومبيين تناولوا ظاهرة الهجرة العربية إلى بلادهم بالدرس والتحقيق، في سبيل الحصول على أيّة معلومةٍ عن أيِّ إسمٍ جاء في إحصاء أحمد مطر. عثرنا على بعضها فنقلناه، ومن كان خارج أسماء بحثنا تركناه، وربما كان أكثر ممّا بين أيدينا وحضوره أقوى، وجديرٌ أن يرجع المرء إليه وأن يدرسه. والحقُّ نقول لكم: إنَّ ظاهرة الهجرة العربية إلى كافة دول أمريكا اللاتينيّة وسواها وليس إلى كولومبيا فحسب، جديرةٌ أن يكرِّس لها الباحثون جهدهم، لما فيها من عبرٍ وحكاياتٍ قد لا تخطر على بال بشر. وما يؤسف له أن عشرات الباحثين الأجانب قد تناولوا موضوع الهجرة العربية وأحاطوا جوانبها بكلِّ شفافيّة وتجرُّد وأوفوا لها حقوقها، بينما في العالم العربي “أم الصبي” لم يتجاوز عدد الذين أقدموا على هذه الخطوة أصابع اليد الواحدة، ومعظمهم من السالفين.
هـ- ملاحظات حول الإحصاء:
السندباد السوداني، أحمد حسن مطر، وضع لنا مشكوراً مأجوراً، أسُساً رفعنا فوقها مداميك عملنا. وبالرغم من هذا، فإنَّ ثمّة ملاحظاتٍ حول العمل يجب الإشارة إليها، فهي ظاهرة للعيان، ولا بد أن تستوقف القاريء، وكي لا نلام في بعضها إذا لم نشر إليها، ومنها:
يقول جواكين فيلوريا: “في عمله الرائد “الدليل الاجتماعي للجالية الناطقة بالعربية في كولومبيا، بارانكيا 1945″، قام أحمد مطر بتقدير الجالية الناطقة بالعربية في كولومبيا بـ 900 رب أسرة، يمكن أن تعطي حوالي 5000 إلى 6000 من أصول لبنانية وفلسطينية وسورية في البلاد. ويقول أحمد مطر في المقدمة: “نحن نقدِّر أنه بسبب نقص الإتصالات، فقد أغفلنا ربما 20% من أعضاء الجاليات في الأماكن المختلفة”. وبهذا المعنى، يمكن للمرء أن يفكر في حوالي 1100 عائلة يبلغ عدد سكانها حوالي 7000 فرد من أصل عربي” .
من أغفلهم أحمد مطر في إحصائه أكثر من 20%، وفي مختلف الأمكنة، بما فيها الأمكنة ذاتها التي شملها، فدوَّن بعض مهاجريها وأغفل عن بعض.
يقول أحمد مطر: “وفي العام 1945، أصدرتُ دليلي الثاني عن دول أمريكا اللاتينية: بوليفيا- كولومبيا- إكوادور- فنزويلا- كوراساو- أَوربا (آروبا)- بيرو. وقد اقتضاني ذلك السفر والتجوال في كلِّ هذه الدول مدينةً مدينة، حيث يوجد المهاجر العربي، واستعملتُ فيها كل وسائل النقل المعروفة لإنجاز هذه المهمة” . فهل تجوَّل أحمد مطر في دولة كولومبيا مدينةً مدينة؟. ربما يكون قد جال في بعضها، بيد أنَّه وهذا الأغلب الذي يبرز من خلال عمله، أنَّه اتَّخذ من مدينة بارّانكيّا مقرّاً له ومركزاً أدار من خلاله عملية البحث والتقصّي ضمن فريقٍ لم يكن بالحد الأقصى مهنيّاً أو أميناً له في الإحصاء فجاءت مدوَّناته مبتورةً بعض الشيء حتى في مدينة بارّانكيا التي كانت مقّره الرئيس، والتي قال فيها في مقدِّمة الطبعة الأولى “1945”: “المدينة التي تضم أكبر عدد من السوريين- اللبنانيين”. فنرى أن هذا الإحصاء لم يشمل جميع المقيمين فيها، ومن شملهم واجهتنا حالاتٌ منهم ظاهرة للقارئ في التحقيق، تؤكد أنَّه ربّما حاز على معلوماته عنها من خلال السمع أو عن طريق الغير، ودون الإتصال المباشر بصاحب الإسم.
يظهر من خلال بعض الدراسات اللاتينيّة التي نقَّبنا في متونها أثناء عملية التحقيق، وألمحنا إلى شيءٍ منها آنفاً، أنَّ أحمد حسن مطر وضع مقدِّمةً لكتابه الذي أصدره عام 1945. ولا ريب أنه قد يكون تطرَّق فيها إلى المنهجية والأساليب التي اتَّبعها والعوائق التي واجهته أثناء إعداده لهذا الإحصاء. ولذلك ثمَّة لومٌ وعتب على الجهة التي أعادت طبعه عام 1982، ولم تلحظ إدراج مقدِّمة المؤلف ضمن النسخة التي أعيد إصدارها، واكتفت بمقدِّمتين قصيرتين لا تفيان بالطلب. وبرغم ضعفها وعدم جدواها، قمنا بترجمتها وإدراجها ضمن عملنا هذا إيفاءً منّا للأمانة الأدبيّة والأخلاقية. وإذا كان لومنا نابعاً من حرصنا على مصداقية العمل ورسالته، فإننا لا ننكر لها مساهمتها في درء عامل الضياع عن هذا الإحصاء بإعادة طباعتها له، حيث أن طبعته الأولى مفقودةٌ تماماً ولا سبيل إليها، وتعذَّر بلوغ مكانها رغم التحري والسؤال. وتقول في مطلع مقدِّمتها الأولى أنَّ عملها كان “تحيّة رسمية لجميع أعضاء الجالية الناطقة بالعربية” في كولومبيا.
الهجرة اللبنانية إلى كولومبيا حتى منتصف القرن العشرين، إقتصرت بغالبيّتها على بعض قرى الأرياف المنسيّة ولا سيما البقاع الغربي، راشيا، عكّار وكسروان. إضافة إلى زحلة، بعلبك، جبل لبنان وطرابلس، ولم نلحظ أي إسمٍ لمهاجرٍ من محافظة الجنوب اللبناني. مع الإشارة إلى أنَّ أكثر قريةٍ لبنانية سجِّل مغتربون من أبنائها في هذا الإحصاء، كانت بلدة رحبة العكّاريّة، تليها في المرتبة الثانية بلدة بعلول البقاعيّة, ولمّا كانت غالبيّة تلك الهجرات لأفرادٍ من قرى ريفيّة نائية، كان من البديهي أن تظهر أمامنا أسماء قرىً لبنانيّة، أو فلسطينية وسورية لم نسمع بها من قبل، وأحياناً صادفتنا إشكالاتٌ في تعريب أسمائها، وكذلك الأمر بالنسبة للأماكن الكولومبيّة. فقمنا بإعداد فهرسين منفصلين، أحدهما للأماكن الكولومبية، وآخر للعربية، حدَّدنا فيهما مراكز كافة الأماكن الواردة في الإحصاء وخصائصها، وأضفناهما إلى الدراسة، تسهيلاً للقارئ في معرفة الأماكن التي غادرها مهاجرونا الأوائل، والتي حطّوا رحالهم بها، ولكي تكون الدراسة شاملة لكلِّ أبواب المعرفة.
المهاجرون الأوائل كانوا روّاداً بكل ما للكلمة من معنى، بلغوا مهاجرهم بجيوبٍ خاوية، ملأتها العقول المستنيرة، التي وبالإضافة إلى ذلك فرضت إحترامها حيث حطَّت رحالها، وحازت في العديد من الحالات على سيرةٍ بديعة ومكانةِ رفيعة غيَّرت شيئاً من ملامح المجتمع المستضيف ونظرته، وهنا يكمن الجوهر النفيس والسبب الرئيس الذي فرض وضع العشرات من الدراسات عن الهجرة العربية من أبناء تلك المجتمعات.
هذه الملاحظات كان لا بدَّ منها كي نعطي جهدنا حقه، وكي نقول أنَّ هذا العمل نفِّذ بشغفٍ تام، وأمانة أدبيّة خالصة وصادقة، وما بذلناه قل نظيره، وكل ذلك في سبيل أن يظهر هذا العمل بأبهى حلله وأصدق رسائله، فعسى أن نكون قد بلغنا المرام، وعسى أن يخلف هذا البحث أبحاث.