ذكريات موجعة!
خاص “المدارنت”..
عندما أستحضر صورته، ينهال عليّ وابل من ذكريات موجعة. ذكريات تحملني الى سيرة حياته الحافلة بالمشقّات والآلام. لكأنني حيال رجل يمثّل صورة حيّة للشقاء من لحم ودم.
منذ بلغ مبلغ شبابه الأوّل، كانت الحقول والبساتين مسرح نشاطه الذي يمتدّ في العادة من مشرقها حتى المغيب، حيث يعود الى منزله، تكلّل جبينه قطرات التعب الشريف.
وعندما يبلغ داره بعد ساعة أو يزيد، يتناول مع العائلة عشاء الفقراء من طيّبات البيت، ثمّ يلقي، بعد سهر قصير، أتعابه على فراش الراحة، ليستيقظ قبيل مشرقها، مواصلًا رحلة الكدّ والتعب من جديد.
إتّخذ من نباتات القمح والشعير وأشجار المشمش والتين والعنب، صحبًا أعزّاء أخلص لهم الجهد والودّ، فبادلوه بالعطاء والوفاء.
لطالما شوهد يبذر أو يغرس أو يحرث بلا كلل أو ملل. لطالما شوهد يدفع المحراث خلف دابتيه، أو في الساقية يجرّدها من الأتربة لتسهيل ريّ حبيباته من الأشجار والخضار والحبوب، أو في حقلة القمح والشعير، يحصدها تحت شمس حزيران الحارقة، أو على البيدر، يدرس السنابل ليؤمّن للبيت، إنسانه وحيوانه، حاجته من القمح والتبن والشعير.
سل المجرفة والمعول، سل المسحاة والمنجل، سل البيدر والمذراة والنورج، سل هذه الأدوات وغيرها، تخبرك عن فلّاح فقير، كرّم الله وجهه بالخير والبركة.
لكنّه في أخريات أيّامه، وهو يتسلّق هضبات السبعين، ألمّت به طائفة من أمراض نفسيّة وجسديّة، شلّت قدميه، فبات على كرسيّه كئيبًا، يجرجره المرض الى القبر.
مات الرجل، ولم يبقَ منه على لسان عارفيه سوى كلمات طيّبة، تترحّم على فقيد، كان على خشونة وشظف حياته، يمثّل الطيبة والبساطة بأنقى صورهما. صور الإلفة والمحبة والتواضع والقرب من الناس، بعيدًا عن أيّ عصبيّة عائليّة أو طائفية أو مذهبيّة؛ فالناس عنده أقرباء وجيران وإخوان، عرف حقوقهم فقدّسها، وأدرك واجباته تجاههم، فالتزم بها خير التزام.
هذا هو أبي “أبو محمود”، الذي ما كان لذلك الولد الشقيّ أن يعصي له أمرًا، أو لينكر واجبه تجاهه.
لكنّه يعترف، يعترف الآن بمرارة، أنّه لم يكن آنذاك ليقدّر حجم متاعبه ومعاناته وآلامه حقّ قدرها..
فيا أيّها الرجل الذي لم تنصفك الحياة بشقائها ومرارتها؛ إنّ في السماء عدالة لا تظلم…
رحمك الله !