رائدات من مجتمعنا رسمْن بالريشة والحرف أحلامهنّ المبعثرة.. الجزء “2 ـ 2”
كتبت سارة مطر*… خترن الحياة، كافحن وقاومن شتّى المعوّقات والصعاب، فانسابت أحلامهنّ وآمالهنّ إبداعاتٍ أدبية، نثرية وشعرية، وفنونًا تشكيلية، رسمت جسر العبور إلى حيث النور والأمل. شاعرات وروائيات ورسّامات، اجتمعن حول المعاناة والعذاب، تسلّحن بالإيمان والإرادة، آمنّ بقدراتهنّ ومواهبهنّ، فكان لهنّ “حقُّ التوقيع” وأشعلن نورًا في غياهب الظلام.
اخترن الحياة، كافحن وقاومن شتّى المعوّقات والصعاب، فانسابت أحلامهنّ وآمالهنّ إبداعاتٍ أدبية، نثرية وشعرية، وفنونًا تشكيلية، رسمت جسر العبور إلى حيث النور والأمل. شاعرات وروائيات ورسّامات، اجتمعن حول المعاناة والعذاب، تسلّحن بالإيمان والإرادة، آمنّ بقدراتهنّ ومواهبهنّ، فكان لهنّ “حقُّ التوقيع” وأشعلن نورًا في غياهب الظلام.
جنان اسماعيل سعيد: نفتقد للثقافة وهذه بحد ذاتها إعاقة
“في سكينتي دموع صارخة، وفي وجهي ابتسامات قاهرة، وفي جسدي حركات تتمايل متحدّية صامدة”، تستهلّ الشاعرة والكاتبة جنان اسماعيل سعيد، كلامها لمجلة “الضحى”، لتختصر معاناتها مع الشلل الدماغي الذي أصابها منذ ولادتها عام ١٩٨٩، نتيجة خطأ طبي، وما رافقه من تداعيات صحية ونفسية وخيمة، لولا تحلّي جنان بالإصرار والعزيمة.
كان أقصى طموحها أن تجد مدرسة تلبّي احتياجاتها الخاصة، لكنّها لم تجد مدرسة تستقبلها، ما اضطرّها إلى الالتحاق بمركز “شعاع الأمل” الطبي النفسي التربوي الذي يُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة في زحلة، والذي خصّصها بصف يراعي حالتها الصحية. حملت أحلامها من بلدتها البقاعية، مكسة، وانطلقت ملؤها الشغف لتلقّي المعرفة والعلوم. تحدّت نفسها وتحدّت المرض، “فأنا إنسانة واقعية، أعشق الحياة والعمل والإرادة”، تقول جنان.
الشابّة الثلاثينية التي دخلت قلوب مَن حولها وشقّت طريق نجاحها وتألقها، وُلدت وسط بيئة متميّزة احتضنت أحلامها، فتمكّنت من متابعة دراستها لغاية مرحلة التعليم المتوسط، قبل أن تخضع لدوراتٍ مهنية عديدة في الكمبيوتر واللغة الإنجليزية والـ PowerPoint والـ AutoCAD والـ Adobe والـ Graphic Design. هي مسيرة محفوفة بالصعاب، واجهتها جنان بطموحٍ وإيمانٍ، إلى أن أصبحت فردًا من أفراد الكادر التعليمي في مدرسة “شعاع الأمل”، نظرًا لأسلوبها الشيّق وحسن تعاملها مع التلامذة الذين يعانون صعوبات تعلّمية، فانطلقت منذ سبعة أعوام في تعليم الكمبيوتر واللغة الانجليزية.
“دخلتُ معهد اتحاد المقعدين في بر الياس، وأصبحتُ اليوم ناشطة حقوقية في اتحاد المقعدين اللبنانيين”، تضيف سعيد، التي تروي رحلتها مع كتابة القصص القصيرة والخواطر، “فقد اكتشفتُ موهبتي من خلال ما كنتُ أكتبه من مذكرات، جمعتها في كتابي الأول بعنوان “أنوار في الظلام”، الذي جرى توقيعه خلال حفلٍ أُقيم برعاية وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك سليم الصايغ، وسط حضور حاشد، وكنتُ حينها لا أتجاوز العشرين عامًا”.
همسات جنان لم تتوقّف عند حدّ الكتاب الأول، بل بادرت إلى إصدار كتابها الثاني بعنوان “همسات الروح…جنان والأمل”، وهي في سن الرابعة والعشرين. كما أنّها تحضّر حاليًا لمسرحية حول التحديات التي يواجهها أصحاب الاحتياجات الخاصة، قصصهم وصرخاتهم، بالإضافة إلى رواية تعمل على حبك تفاصيلها ووقائعها. “طموحي لا ينتهي، لطالما حلمتُ بالتخصّص في مجال الأدب العربي، وسأثابر لتحقيق ذلك الحلم”.
وتضيف جنان: “كلّنا نشكو من احتياجات خاصة، فالكمال لله وحده، والأهم أنّنا نفتقد أحيانًا للثقافة، وهذه بحد ذاتها إعاقة. أمّا نحن كحالة خاصة، فإنّنا نفتقد إلى الكلمة “الحلوة”، ولقد كتبتُ مرة: “نعم هكذا خُلقْت، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني الأكثر منك إكرامًا، نعم بهذا نجحتُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني الأقوى منك إرادة، نعم صرختُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني تحدّيتُ نخر الجراح في العظام، نعم حلمتُ ورجوتُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنّني الأعند منك حياة…”.
وتتابع سعيد: “لعلّ كتاباتي تعبّر عمّا أودّ أن أختم به، حين أقول: شعور شارد تستكين به الدموع، هناك عشق دفين، هناك نظرات مشرقة، هناك أمل يصارع بتحدٍ وتصميم، هناك فرحة لا زالت بعيدة، هناك جرح صارخ، هناك خيبة منتظرة، وهناك شوق عظيم، هناك حزن يختبئ خلف الابتسامة، وهناك نبض يتكلم عن خفايا الروح…في كلّ هذا أسكن أنا، وبين الأنا والأنا هناك أحلام بريئة وإرادة عنيدة وهناك رجاء يؤمن بالله العظيم، وهناك جنان والأمل”.
تغريد يوسف ضو: بين التخاذل والعزلة…اخترتُ الحياة
“لعلّ من أصعب الأمور أن نكون في الضوء، ونجد أنفسنا فجأة في الظلام الحالك”، بهذه الكلمات تصف الشاعرة تغريد يوسف ضو معاناتها، وتختزل طفولتها القاسية، بدءًا من مأساة الحرب الأهلية وما رافقها من أحداثٍ انتهكت براءتها كما غيرها من أبناء جيلها، وصولًا إلى فقدانها نظرها بشكل كامل.
“وُلدتُ عام ١٩٧٧ في بلدة القريّة، المتن الأعلى، من دون أي مشاكل صحية تُذكر، قبل أن تفاجئني الحياة بالتهابات في شبكة العين، ولم أكن أتجاوز حينها عشرة أعوام، غير أنّني واظبتُ على تحصيلي الأكاديمي، فكنتُ أدرس على السمع، وتمكّنتُ من التفوّق، فحجزتُ مقعدًا بين الأوائل”، تقول تغريد التي تروي معاناتها مع المياه الزرقاء في العين اليسرى، واضطرارها إلى إجراء عملية جراحية وهي في الثالثة عشر من عمرها، وهنا كانت عتبة الانتقال إلى الظلام الجزئي، حيث فقدت نظرها فورًا بعد العملية.
“واصلتُ الحياة بعينٍ واحدة”، بهذه الجملة تسرد تغريد حياتها المرّة، وتقول لمجلة “الضحى”: “كافحتُ وتابعتُ دراستي، غير أنّ مشكلات عينيّ تطورت وبسبب خضوعي لعمليات متكررة ونتيجة ارتفاع ضغط العين، تركتُ الدراسة عند مرحلة الشهادة المتوسطة (البروفيه)، والتزمتُ المنزل لمتابعة علاجي الطويل، إلى أن انتقلت المياه الزرقاء للعين اليمنى، وأنا في الثانية والعشرين من عمري. عندها خضعتُ لعملية جراحية في روسيا، أعادت لي نظري، قبل أن أُصاب بعد نحو عام بنزيفٍ، تكرّر ثلاث مرات، وكان في كل مرة يفقدني نظري لمدة ١٥يومًا، إلى أن فقدتُ النظر بشكلٍ نهائي”.
تغريد، الشابة الوحيدة بين إخوتها الأربعة، والتي فقدت والديها، وقفتْ أمام خيارين إما الاستسلام أو المقاومة ومواصلة العيش، “ففي أوج المعاناة كان لا بدّ من قرار، إمّا التخاذل والعزلة أو المواجهة والحياة، وأنا طبعًا اخترتُ الحياة، واجهتُ معاناتي بالضحك، لأنّ “الزعل” لا فائدة منه”، كما تقول. وتضيف: “لقد وقف الأهل والأصدقاء بجانبي، فكانوا الداعم الرئيسي لمسيرتي، لكن الحافز الأكبر هو الإيمان بالله والثقة بالنفس والتمسك بإرادة الحياة”.
منذ صغرها، عشقتْ اللغة العربية وكتابة القصائد، وكان طموحها أن تتخصّص في اللغة العربية وآدابها، لو أنّها وصلت إلى المرحلة الجامعية. وقد دفعها هذا الشغف إلى كتابة مقال عن المعلم الشهيد كمال جنبلاط، ساعدها في نشره الصحافي أنور ضو، الذي شجّعها على تنمية روح الكتابة لديها. فانطلقت تغريد من صفحةٍ على الفيسبوك نشرت عبرها خواطر نثرية قصيرة، أو ما يُسمّى “ومضات”، قبل أن تجمعها في كتابٍ صدر مؤخرًا عن دار “الفارابي”، بعنوان “تغريد الروح”، جرى توقيعه خلال حفلٍ أقامته جمعية “الأيادي المتكاتفة” في بلدة القريّة برعاية وزير الثقافة محمد داوود داوود، وحضور العديد من الفعاليات الاجتماعية والثقافية والفنية. كما من المحتمل أن يشهد الكتاب حفل توقيع ثانٍ في معرض الكتاب الدولي في بيروت.
وتقول ضو: “هذا الكتاب هو عصارة روحي وشهيقي وزفيري، هو جهد ثلاثة أعوام، أعبّر خلالها ليس فقط عن معاناتي وأوجاعي بصدقٍ وتجرّد، إنّما أيضًا عن الحب والأحاسيس والمشاعر، فكلّ فردٍ منّا هو إنسان عاشق، وأنا من الأشخاص الذين يجمّلون الوجع. لم أكتب مرة عن وجعي بحزنٍ، بل طرحت تساؤلاتٍ من مثال “أيها الضوء، هل من ثأرٍ لكَ عندي؟!”، وكتبتُ كذلك للحب، فقلتُ: “عندي من الشوق ما يحملك إليّ دون سفر”. كما كتبتُ عن الأمومة والذات البشرية، ونهلتُ من أسلوب الشاعر الكبير محمود درويش، الذي عشقتُ كتاباته وقصائده”.
تستخدم تغريد تطبيق “قارئ الشاشة الناطق (voice over)” الذي يسعفها في القراءة والكتابة، وهي تحضّر حاليًا لكتابٍ ثانٍ، من المتوقع أن يتضمّن قصصًا قصيرة وخواطر طويلة ومقتطفات من الشعر الحر. وربّما يأتي يوم تكتب فيه قصة حياتها، وفق قولها، “حيث أنّ الكثير من الأشخاص بحاجة لأن يقرأوا ويتعلّموا ويقتدوا بتجارب الآخرين وإرادتهم، لأنّنا جميعًا معرّضون”.
عتبها على المجتمع أنّه بجزئه الأكبر “ينظر إلى ذوي الاحتياجات الخاصة بعين الشفقة والعطف، وليس بعين التضامن، وهذه نظرة تذبحنا، غير أنّني ومن خلال كتابي نجحتُ في سحب نظرة الشفقة من عيون الناس”، تقول تغريد، خاتمةً ببضع كلمات: “أتشبّث بما تبقى مني، كي أكمل بين مد الحياة وجزرها حياة. أحمد الله أن في قلبي قلبًا يحبني، فالحب يمنحني هذا الدافع للتمسّك أكثر بالحياة، لرؤيتها بعينٍ أفضل”.
هيفاء سليم معضاد: قادرون على تحقيق المستحيل
رسمَتْ بالألوان وجع الحياة، آلامها وآمالها، فاختصرت تسعة وعشرين عامًا من الصراع مع الحياة، بحلوها ومرّها. أعوامٌ ارتأت الفنانة التشكيلية هيفاء سليم معضاد، أن تجسّدها من خلال لوحاتٍ ورسوماتٍ مضيئة، فجعلت من الريشة رفيقة دربٍ ومن الفن أداة للتعبير عن مكنوناتها ومشاعرها، وكانت أن روت حكاية طفلة بريئة لم تنطق حروفها الأولى ولم تُمنح فرصة سماع أصوات ذويها ومحبّيها، ولا حتى صخب الطبيعة بغاباتها وطيورها وجريان مياهها.
هيفاء، الشابّة المتنية التي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، شاء القدر أن تفقد حاسّتي السمع والنطق على عمر صغير، بعد أن تعرّضت لحالاتٍ متكررة من مرض “الإنفلونزا” والالتهابات ودرجات الحرارة المرتفعة.
“فقدتُ سمعي على عمر السنة، وبدأتْ منذ ذلك الحين معاناة أهلي ومن ثمّ معاناتي”، تسرد إبنة بلدة بزبدين تفاصيل حياتها لمجلة “الضحى”، من خلال الكتابة، فتذكر الصدمة التي أصابتْ أهلها عند اكتشفاهم فقدان ابنتهم للسمع، خصوصًا أنّها أولى أبنائهم، حيث حاولوا جاهدًا علاجها، فخضعت لعمليّتين جراحيّتين، وهي في السابعة من عمرها، لكن من دون أي جدوى تُذكر.
وتضيف معضاد: “تعرّضتُ للكثير من المواقف الصعبة، لعلّ أبرزها التنمر اللفظي والنفسي، ما دفع بأهلي إلى النهوض ومواجهة القدر والمجتمع بأسره، من منطلق أنّ مستقبل ابنتهم أهم من كلام الناس وذرف الدموع، وأن الاستسلام لا يعدو كونه لغة الضعفاء. هكذا، احتضنتني عائلتي الصغيرة، رغم وضعنا المعيشي الصعب، حيث بادر والديّ إلى تسجيلي في “مدرسة رفيق الحريري”- دوحة عرمون، وأنا في الثامنة من عمري”.
وتتابع: “تعلمتُ القراءة والكتابة باللّغتين العربية والانكليزية، كما أتقنتُ لغة الإشارات التي أتاحت لي التواصل مع الآخرين، لا سيّما مع أخي وأختي. غير أنّ حكايتي مع الرسم والفن التشكيلي بدأت قبل ذلك بكثير، فقد برزت موهبتي وأنا في الخامسة من عمري، وتطوّرت على مقاعد الدراسة، حتى باتت وسيلتي الوحيدة للتعبير عمّا يختلجني من مشاعر وأحاسيس ومن آلامٍ رافقتني منذ نعومة أظافري”.
لم تكن هيفاء بمنأى عن التنمّروالمضايقات، حتى بعد عودتها من المدرسة إلى بلدتها، ما أدّى إلى تراجع وضعها النفسي، فما كان من ذويها إلا أن قصدوا معالجًا نفسيًا أشرف على حالتها، فكان الداعم والمحفّز لنجاحها وتحوّلها إلى شابّة طموحة تثق بنفسها وبقدراتها، ترسم أحلامها وتستشعر نبض الطبيعة بألوانٍ متناغمة كسرت جدار الصمت وقساوة العذاب.
ولعلّ تسلّح معضاد بالإيمان والسلام الداخلي، كان العامل الأساسي لانطلاقها وتفوّقها في مجال الرسم، حيث احتفلت مؤخرًا بأكثر من مئة لوحة ضمن معرضٍ خاص تضمّن كذلك زاوية للأعمال اليدوية، وهي بصدد إنجاز لوحاتٍ جديدة، تشارك عبرها في معارض للرسم والفن التشكيلي. كما أنّها تعمل لدى جمعية “حلمنا” للمسنّين، في بلدتها بزبدين، حيث ترسم لكبار السن عبق الحياة والطبيعة، ليضفوا بدورهم لمستهم، معبّرين عن واقعهم ومشاعرهم وأحلامهم من خلال الريشة والألوان.
وتختم هيفاء بعبارة خطتها أناملها، لتقول: “ليست الإعاقة أن نكون من أفراد ذوي الاحتياجات الخاصة، إنّما عندما نستسلم للمصيبة ونخضع للأمر الواقع، مع العلم أنّنا قادرون على تحقيق المستحيل”.
*المصدر: مجلة الضحى