رحل ناصر وبقيت الناصرية!
كتب علي بن مسعود المعشني
“المدارنت”..
في مِثْلِ هذا اليوم 28 سبتمبر/ أيلول 1970، رحل عن دنيانا الزعيم العربي جمال عبد الناصر، وبرحيله تيتم العرب كأمة وشعب وحكام وأفراد ولغاية يومنا هذا.
لا يشعر بهذا الفقد، من لم يعش تفاصيل سنوات التحدي والكبرياء العربي 1952- 1970، تلك السنين التي تحولت فيها أنظار العالم قاطبة من النظر إلى قوى عظمي تقليدية، إلى قاهرة المُعز وزعيمها الشاب جمال عبد الناصر، الزعيم الذي قاد طموح العرب في التحرر والانعتاق من أغلال المستعمر، وتسلح بكبريائهم وتاريخهم وحضارتهم ليبعث المشروع العربي الحضاري بعد غياب قسري امتد لقرون طويلة بفعل الاحتلالين التركي الرجعي والغربي المسعور؛ لاضطهاد العرب ومحو حضارتهم وتاريخهم وتكريس التخلف والفرقة والشتات والتناحر بينهم.
بعثَ الزعيم عبدالناصر مجد العرب وشرفهم وكبريائهم، فأيقظ العالم من حوله ممن كان العرب قناديل هدى وضياء لهم عبر التاريخ البشري وفصول ومراحل وأطوار الحضارة العربية الإسلامية، فرحب بمجيئه وفرح البوذي في الصين والأرثوذكسي في روسيا والهندوسي في الهند والكاثوليكي في شرق أوروبا وأمريكا الجنوبية والوثني في أفريقيا، فكان زعيمًا للعرب بالداخل وأملهم وحلمهم وزعيما لحركة عدم الانحياز وقبلة للأحرار في العالم، وأبًا روحيًا لحركات التحرر من الاستعمار الغربي في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
من أسباب كاريزما الزعيم عبدالناصر وطغيان شخصيته هو كونه شخصا قارئا نهما وذا فكر ومشروع معًا، وكل زعيم ذي فكر ومشروع لابُدّ أن يكون قارئًا نهمًا، وله مؤلفات تحمل وتُعبر عن فكره ورؤيته، لهذا كان للزعيم ناصر مجموعة تحتوي على ثلاثة كتب قام بكتابتها وهي “فلسفة الثورة” و”يوميات الرئيس جمال عبد الناصر عن حرب فلسطين”، و”في سبيل الحرية”، وهي القصة التي بدأها وهو طالب بالمدرسة الثانوية عن معركة رشيد وفازت بالجائزة الأولى في المسابقة التي أجراها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.
لهذا عُرف الزعيم ناصر من قبل المقربين منه بأنه الشخص الذي يقرأ كل شيء يقع تحت عينيه، فكان موسوعيًا في طرحه ونظرته للعالم من حوله ومستقلًا في فكره وموقفه، بينما الكثير من قادة اليوم لا يقرأون أي شيء، فكانوا أتباعًا لأهواء المستشارين وضحايا لأقوال الصحف ووسائل الإعلام الغربية التي لم يدركوا يومًا أنها سيوف مسلولة بأيدي الخصوم وإن بانت وسوقت نفسها كالحية الرقطاء الناعمة أو كالحرباء الفاتنة بألوانها الزاهية.
شخصية الزعيم جمال عبدالناصر المشُبعة بقيم العروبة الأصيلة وصدقه وتبسطه وعفويته جعلته صديقًا ومحببًا للجميع في الوطن العربي من مختلف الأطياف العرقية والدينية والمذهبية وخارج الوطن العربي؛ بل وحتى من خالفوه أو اختلفوا معه بالفكر أو بالسلاح لجأوا إليه في لحظات ضعفهم فآواهم وأكرمهم.
قدر الزعيم ناصر حين قاد ثورة 23 يوليو 1952، أن يقاتل على عشرات الجبهات في وقت واحد بداخل مصر وخارجها في الوطن العربي والعالم، ففي مصر كان لابُد له من محاربة نفوذ الإنجليز وسيطرتهم على مفاصل الدولة المصرية بمقدراتها ومؤسساتها الحرجة وعلى رأسها مؤسستا الحكم والجيش، والإقطاع والبشوية التي جعلت غالبية الشعب المصري مجرد سُخرة وعبيد لدى فئة صغيرة جدًا من الإقطاعيين والبشوات مُلاك الأرض والمصير!! وكان الوطن العربي من شرقه إلى غربه يرزح تحت نير الاستعمار الإنجليزي والفرنسي؛ حيث لم تكن سوى اليمن والعراق وسوريا ولبنان والسعودية والمغرب والأردن خارج تصنيف الاحتلال بالمفهوم القانوني، ولكنها في المقابل تحت رحمة وتأثير ونفوذ الغرب بشكل أو بآخر.
التحولات التي شهدتها الأمة بعد رحيل زعيمها والعودة القوية للنفوذ والتبعية للغرب وصولًا إلى “الإبراهيمية” اليوم ومرورًا بالتطبيع وبسط ثقافة كامب ديفيد ووادي عربة، واستنسار البغاث الحبشي والتركي وتجاسرهم على الأمة، والتلويح بتجديد وعد بلفور وسايكس بيكو عبر مشروع الشرق الأوسط الجديد، وفصول الربيع العبري البائس، وتجفيف الناصرية والتجاسر على مكوناتها من عروبة وقومية عربية ودعوات للوحدة والتضامن العربي، والتسويق للقُطرية، وإطلاق العنان لأبواق “الإخوان” وأخيلتهم المريضة والطابور الخامس للنيل من الناصرية وعبدالناصر ودعاة الوحدة والتضامن العربي جميعها تشير وبقوة إلى حجم تأثير الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، وإلى مدى حضوره في زمنه وإقلاقه لراحة جميع هؤلاء ممن هبَّت رياحهم اليوم بفعل تمكين ودعم الغرب لهم بوعي وبلا وعي، ويشير كذلك إلى حجم فقد الأمة العربية لزعامة وقيادة بحجم وتأثير الزعيم جمال. وبالشكر تدوم النعم..