رسالة مفتوحة إلى أصحاب القرار في سوريا!
“المدارنت”..
إن حماية الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين دون تمييز على أساس الدين، أو العرق، أو الجنس، أو المعتقدات السياسية، هي حجر الزاوية لأي مجتمع عادل ومستقر. والعدل هو أساس قيام الدول، والمطلب الأول للمجتمعات على اختلاف المعتقدات السائدة فيها، اليوم وعبر التاريخ. ويمكن للعدل أن يتحقّق في ظل أي دولة، بصرف النظر عن معتقدات شعوبها، طالما وجدت الإرادة السياسية لذلك، فلا علاقة للعدل بعقيدة المرء. وكما روى أحد أئمة الإسلام: «اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً.» فليكن تحقيق العدل هدفنا إذن، فوحده العدل قادر على جمعنا، على الرغم من اختلاف عقائدنا ومذاهبنا وآرائنا.
ومن هذا المنطلق، لا يضير سوريا أن يكون رئيسها مسلماً محافظاً أو ليبرالياً، أو أن يكون مسيحياً أو علوياً، عربياً أو كردياً. المهم أن تكون سوريا دولة عدل فيها دستور يضمن الحقوق الأساسية لكل أفرادها ومكوناتها ويتساوى فيها الجميع أمام القانون. فالقانون العادل هو الملجأ الآمن الحقيقي لكل المواطنين، وهو الحامي الطبيعي للأغلبية وللأقليات، والضامن الأمثل لحقوقهم جميعاً.
إن نجاح السلطة الحالية في قيادة المسار الانتقالي لا يعتمد فقط على قدرتها على كسب ثقة جميع أطياف الشعب السوري في هذه اللحظة الحاسمة، بل في قدرتها على الحفاظ عليها على مرّ الأيام
ولا ننسى أن سوريا بلد يتميز بتنوع المشارب السياسية، ففيه انتعشت العقائد الاشتراكية، والشيوعية، والليبرالية، والإسلامية، ونشأت أحزاب قومية وفكرية مختلفة، أثرت الحراك الثقافي والسياسي، عندما تُرك لها المجال للتفاعل فيما بينها بحرية في الفترة التالية للاستقلال، وحتى استيلاء حزب البعث على السلطة. ما يزال لهذه الفترة، على علاتها، وقعها الإيجابي في الذاكرة السورية، ولعلها تشكّل مصدر إلهام حيوي لنا في مسعانا لإعادة بناء دولتنا على أسس مدنية جامعة.
ولكي تكون الدولة جامعة بالفعل، ينبغي لها أن لا تنحاز لعقيدة بعينها، فهي ليست فرداً ولا طائفة ولا حزباً، بل مجموعة من الأفراد والطوائف والأحزاب، وبالتالي سيكون في انحيازها، أو تبنيها لعقيدة بعينها ظلماً لمن آمن بغيرها، والظلم ظلم لا يهم عند وقوعه إن كانت ضحيته أغلبية أم أقلية، فالدولة ليست ملكية حصرية لفئة بعينها، بصرف النظر عن حجمها الديموغرافي وعقيدتها الدينية أو السياسية، أو قوتها العسكرية. لذا، لا بد من التأكيد على ضرورة صيانة جميع الحريات والحقوق الأساسية المتعارف عليها في المواثيق الدولية، التي تشكّل خلاصة الحكمة البشرية وساهمت شعوب العالم أجمع في صياغتها بأشكال مختلفة. وأخصّ بالذكر المفاهيم التالية:
حرية الضمير والمعتقد: ينبغي للدولة أن لا تنصّب نفسها رقيباً وحسيباً على ضمائر المواطنين، بل يجب عليها أن تحترم خياراتهم في المعتقد، دون قيود أو اضطهاد. ولا يتوقف الأمر على احترام حقوق الأقليات الدينية فحسب، بل ينبغي أن تُصان حقوق جميع المواطنين في تبني آراء قد يرفضها أغلبيتهم.
والواقع يدل على أن الكثير من المفكرين والفنانين والشخصيات العامة في وطننا، سبق لهم أن عبروا على مدار العقود الماضية عن آراء متعددة من هذا النوع، دون أن تمنعهم هذه الآراء من المشاركة في الثورة، ومن الدفاع عن حقوق من اختلف عنهم في الرأي والمعتقد من شركائهم في الوطن. إن تبني الأغلبية لمعتقد أو رأي أو موقف ما، مهما بدا مقدساً بالنسبة لهم، لا يلغي حق الآخرين من أقليات وأفراد في أن يكون لهم معتقد أو رأي أو موقف مخالف تماماً.
ضمان حرية العبادة: يتوجب على الدولة ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية لجميع الطوائف والمجتمعات، دون فرض أي قيود أو تمييز، ودون إجبار أحد على ممارستها في حال اختار عدم الالتزام بها. فينبغي للدولة مثلاً أن لا تفرض الصلاة والصيام على الناس، أو أن تستخدم رفضهم الالتزام بالشعائر كمعيار لتقييم أهليتهم وولائهم، أو كمبرر لتهميشهم أو اضطهادهم.
حرية التعبير في الفكر والسلوك: يجب أن يتمكن جميع المواطنين من التعبير عن آرائهم بكل الوسائل المتاحة. والتعبير لا يتم فقط بالكلام، بل أيضاً بالخيارات المتعلقة في المشرب والمأكل والملبس، علاوة على الرموز التي قد يختار المرء أن يحتفي أو يتزين بها. فينبغي على الدولة مثلاً أن لا تفرض زياً معيناً على المرأة، أو أن تمنع المسيحيين من ارتداء الصلبان، أو من وضع أشجار عيد الميلاد في أحيائهم وكنائسهم.
حماية الحق في الخصوصية: يجب احترام حقوق المواطنين في الخصوصية وحمايتهم من التفتيش والمصادرة غير المبررة، وعدم التدخّل في الشؤون العائلية، إلا في الأطر الضيقة المتعارف عليها في المواثيق الدولية، كمنع العنف ضد المرأة والطفل.
احترام حرية التعبير والصحافة: ينبغي على الدولة عدم التدخّل في عمل الصحافيين ووسائل الإعلام العامة أو الخاصة، بل عليها أن تمكنهم من التعبير عن آرائهم ونقل المعلومات بحرية، ودون خوف من الانتقام أو القمع. كما يحق للصحافيين الحفاظ على سرية مصادرهم.
حرية التجمع وعدم التدخل في شؤون المجتمع المدني: يجب أن تحترم الدولة حقوق المواطنين في الاجتماع والتنظيم بشكل سلمي. ويجب أن تسمح للمنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية بممارسة أنشطتها دون تدخل أو مضايقة، طالما أنها تعمل ضمن إطار القوانين والمواثيق الدولية المتعارف عليها.
ضمان الشفافية والمساءلة: ينبغي على الدولة أن تنهج مبدأ الشفافية في صنع القرارات وتتبنى إجراءات تسهّل المساءلة الشعبية لضمان احترام حقوق المواطنين ومنع استغلال السلطة، بما في ذلك السماح لوسائل الإعلام بتغطية الاجتماعات الوزارية، وبث الحوارات البرلمانية، والسماح للمواطنين بحضور اجتماعات المجالس المحلية وطرح الأسئلة على ممثليهم، وغيرها من التدابير.
استقلالية القضاء: يجب أن يكون القضاء مستقلاً وغير خاضع لأي تأثير سياسي أو ديني لضمان العدالة والمساواة للجميع، ذكوراً وإناثاً، بصرف النظر عن خلفياتهم الإثنية، والقومية، والدينية، والطائفية، والمناطقية، والاجتماعية، والمهنية.
الحق في محاكمة عادلة والتمثيل القانوني: يتعين على السلطات ضمان حصول جميع المواطنين على محاكمة عادلة، بما في ذلك حقهم في التمثيل القانوني المناسب والدفاع عن أنفسهم، بصرف النظر عن طبيعة التهم الموجهة إليهم.
حرية المؤسسات التعليمية والتربوية: الامتناع عن إلزام المؤسسات التعليمية والمناهج التربوية باتباع نهج عقائدي معين تحدده الدولة، بصرف النظر إن كان هذا النهج سياسياً (الاشتراكية مثلاً) أو دينياً.
هذه بعض من المفاهيم الأساسية التي ينبغي أن تحظى باهتمام السلطات لما لها من انعكاسات عميقة على حياة المواطنين، أفراداً وجماعات.
في الختام، لا مفر من التذكير أنني أدرك تماماً حجم التحديات الهائل الذي يواجه سوريا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها المعاصر، وأقدر بصدق الدور الكبير الذي لعبته الفصائل العسكرية، على اختلاف توجهاتها، في تحرير الوطن من النظام البائد. لكني أدرك أيضا أهمية بناء دولة تستند إلى سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان لصون المنجزات التي تم تحقيقها لكيلا تذهب دماء شهدائنا سدى، ولكيلا تكون المرحلة المقبلة مجرد هدنة مؤقتة في صراع مستمر..
لذلك، أود كمواطن سوري، لا أكثر ولا أقل، أن أحثّ السلطة الحالية في الوطن على اتخاذ موقف رسمي من النقاط التي أثرتها هنا، لأنها لا تمثل مجرد رأي شخصي، بل تطلعات شرائح كبيرة من المواطنين. إن استعداد السلطة الحالية للتفاعل بتواضع ووضوح واحترام مع مبادرات من هذا النوع هو طريقة سهلة وفعالة لبناء الثقة ومد جسور مهمة للتواصل مع هذه الشرائح التي كان لها دور كبير في قيادة الثورة منذ اندلاعها، ولا يقل انتماؤها للوطن قوة عن انتماء أعضاء السلطة الحالية إليه.
إن نجاح السلطة الحالية في قيادة المسار الانتقالي لا يعتمد فقط على قدرتها على كسب ثقة جميع أطياف الشعب السوري في هذه اللحظة الحاسمة، بل في قدرتها على الحفاظ عليها على مر الأيام. ويتطلب تحقيق ذلك التزاما واضحا بمبادئ العدالة والمساواة والتشارك واحترام الحقوق، علاوة على الاستعداد لتبادل السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة.