مقالات

رسالة مفتوحة إلى وزير الخارجية السوري!

د. مخلص الصيادي/ دُبيّ

خاص “المدارنت”..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
تابعت باهتمام ـ كما الكثير من السوريين ـ حديثكم في “منتدى دافوس الاقتصادي”، والحوار الذي أداره رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وكيف عرضت الموضوعات التي أردت، وأجبت على الأسئلة التي طرحها المحاور، فكنت في الموقفين مقتدرًا، لغة ومنطقًا، ومظهرًا، فاستطعت أن تعطي الدولة والسلطة التي تمثلها مكانتها اللائقة.
ولا شك أنك قبل أن تتجه إلى الاجتماع السنوي لهذا المنتدى الاقتصادي الأهم عالميا، قد أعددت وطاقم وزارتك الموضوعات التي ستطرحها، والإجابات على الأسئلة المتوقعة من المحاور أو المحاورين.
ولا اشك أن جميع من في المنتدى الذين حضروا لمناقشة “التعاون من أجل العالم الذكي”، كانوا يتطلعون بشغف إلى هذا الوجه الجديد القادم من سلطة جديدة بزغت من ثنايا “تنظيم، أو تنظيمات” كانت تصنف من “المجتمع الدولي” بكونها كيانات إرهابية ـ ولعلها ما تزال ـ، واستطاعت بالقوة أن تحسم الأمر في سوريا، وتطوي صفحة نظام أقل ما يقال فيه بأنه نظام “إرهابي، قاتل، فاسد، ومستبد”، رمى في وجه المجتمع الدولي أخطر ثلاث ظواهر روعته: ظاهرة الهجرة الجماعية لملايين السكان، وظاهرة رعاية الإرهاب، وظاهرة تصنيع المخدرات والاتجار بها.
وتابع العالم كيف هرب رئيس هذا النظام في جنح الظلام، وبرعاية من روسيا إلى موسكو، وكيف انهارت أعمدة النظام تباعا في ظاهرة قلّ أن تتكرر في تاريخ أنظمة الحكم المعاصرة.

ولأن هذه المنصة ليست لإلقاء الكلمات المعدة مسبقا، وإنما للحوار أصلا، فإنه من الطبيعي أن تأتي أسئلة واستفسارات من خارج السياق المتوقع، أو أن تأتي بتركيز ومساحة أوسع مما تم الاعداد لها، لذا ليس مما يُعيب مثل هذه المنتديات ألا تأخذ قضايا معينة حقها في العرض والبحث، وهنا تكون لقدرة المتحدث في التركيز على القضايا التي يبتغيها دورا رئيسيا في تصويب اتجاه الحوار، وإعادته إلى السياق المستهدف.
وإذا كان لي أن أضع ملاحظات على بعض النقاط التي تناولها وزير خارجيتنا “أسعد الشيباني” في هذا المنتدى، أو لنقل بدقة أكبر، في الحوار الذي أداره بلير، ونقل إلينا عبر العديد من وسائط الأنباء بالصوت والصورة، فإنني أضع الملاحظات:
1/ مهم جدا العرض الذي قدم للحالة المزرية التي ترك فيها النظام البائد البلاد، والبنى التحتية، من صحية، وتعليمية، وخدمية، ومن تدهور اقتصادي، ومن تخريب اجتماعي، وكذلك تشديده الموضوعي على أهمية رفع العقوبات التي فرضت على سوريا في ذلك العهد كي تتمكن الدولة الجديدة من مواجهة هذا الواقع.
ولا شك أن العرض والاستشهاد الذي قدم في هذا الجانب كان مهما، وعلى نفس الدرجة من الأهمية كان مطلوبا من “السيد الشيباني” إظهار العلاقة بين استتباب “السلام والتقدم والأمن العالمي”، وبين زوال النظام الأسدي، وبأن صون الدول الأوربية ودول الإقليم على وجه الخصوص من تكرار تلك الأخطار يستدعي منها ومن المجتمع الدولي التعاون الإيجابي والفعال لمنع تكرار الظروف التي سمحت بوجود مثل ذلك النظام.
إن علينا أن نوضح للجميع أن مساعدة سوريا على الخروج من المأزق الحالي، ودعم السلطة الجديدة في مواجهتها لواقع سوريا المزري، وأن دعم اقتصاد وأمن واستقرار سوريا هو استثمار مباشر منهم في أمن وسلامة دولهم نفسها، أي أنها ليست مساهمات في دعم سوريا فحسب، وإنما هي من قبيل “وقاية النفس” من تكرار مثل هذه المخاطر.
لقد أدت موجة “الإرهاب، والمخدرات، والنزوح” إلى خلخلة أمن النظام الدولي اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وكان لهذا الأمر تكاليف مادية عالية، والاستثمار في نهوض سوريا وصون النظام الجديد يغلق هذا الباب نهائيا.
2/ هذا الاجتماع العالمي الذي عقد في العشرين من يناير الجاري وعلى مدى أربعة أيام، في حضور ستين رئيس دولة ورئيس حكومة، وأكثر من 350 مسؤول حكومي، ومئات من كبار مسؤولي الشركات الكبرى والمبتكرين والمؤثرين، كان فرصة ذهبية للقيادة السورية الجديدة، ليس لتقديم نفسها وما لديها، وإنما لتطلب من هذا الحشد المساعدة على أن تستعيد سوريا، ثرواتها المنهوبة والمودعة في الكثير من الشركات والبنوك الأجنبية أو المستترة وراء الكثير من الشركات الحقيقية أو الوهمية. أو تلك الأموال المحجوزة على خلفية العقوبات التي فرضت على أفراد النظام السابق وعلى مؤسساته وكياناته، وهي ليست قليلة، وسوريا الآن في أمس الحاجة إليها.
3/ وإذ عرض الشيباني، كيف أن القيادة في دمشق، اكتشفت أن النظام الأسدي حمًل سوريا ديونا لإيران وروسيا، بلغت ثلاثين مليار دولار، فإنه كان لزامًا أن يعرض موقفاً مبدئيا من هذه الديون، ويطالب من مكونات هذا المنتدى، “الدول والشركات والمؤسسات” المساندة والدعم في جهود إعادة النظر في هذه الديون على قواعد اقتصادية صحيحة، تفرق بين ما قدم لدعم النظام البائد، لتكريس سلطته المستبدة غير الشرعية، وما قدم لإقامة مشاريع حقيقية.
وكذلك يطالب دعم هذا التجمع الدولي، للجهود السورية المرتقبة التي يجب أن تستهدف طلب التعويض من إيران وروسيا على ما ارتكبته الدولتان بحق الشعب السوري، وما خلفه تدخلهما من آثار تدميرية في مختلف أنحاء ومظاهر الحياة في سوريا.
4/ واستنادا إلى كل ما طرحه الشيباني، فقد كان مهما الخلوص إلى نتيجة محددة مفادها أن الدولة السورية في عصرها الجديد باتت مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تأمين الحد الأدنى الضروري لحياة السوريين، السوريون المتواجدون الآن داخل سوريا، والمهجرون واللاجئون العائدون إلى بلادهم، وأنها تعتبر ذلك من أولويات مهامها، وأن الحكومة السورية، تدعو المجتمع الدولي لمساعدتها على تحقيق ذلك.
كان يجب أن يسمع المجتمعون في “دافوس”، وبشكل واضح أن المجتمع السوري يمر في مرحلة استثنائية غير مسبوقة، وأن الحكومة السورية ملتزمة بتأمين احتياجات الحياة الكريمة للسوريين في حدها الأدنى، كما هي ملتزمة بتأمين ضرورات الأمن والسلام الداخلي، وهذا لا يتحقق إلا من خلال تدخل الدولة لتعديل ميزان الحد الأدنى للأجور وربطه بتكاليف الحياة الكريمة، التي تتضمن تكاليف الاحتياجات “الغذائية والطبية والسكنية والتعليمية”، وأن تطلب من المجتمع الدولي دعم توجهات الحكومة في هذا الشأن، وتوفير هذه الاحتياجات لا يمكن أن يترك، وخصوصا في هذه المرحلة، إلى آليات السوق الحر، وإلا فإن سوريا لن تشهد استقرارا.
لا بد أن يستند جهد الحكومة إلى ما تختزنه سوريا، من ثروات وأصول ومؤسسات اقتصادية تمثل في مجموعها الملكية الوطنية العامة، صحيح أن في سوريا، فرص متنوعة وضخمة للاستثمار الخاص الوطني والاجنبي، وأن من خطط الحكومة فتح الباب للمستثمرين حتى يسهموا في نهوض المجتمع السوري. لكن ذلك كله يجب ان يكون منضبطا في إطار تثمير تلك الأصول الوطنية وتعزيزها، وتأمين مشاركة متكافئة تعلي شأن المصلحة الوطنية في جهود التنمية.
5/ يحتاج المجتمع الدولي وخصوصا الأوروبي، وتحتاج الشركات والمؤسسات الدولية أن تفهم بشكل أوضح معنى: “وحدة سوريا الجغرافية والاجتماعية”، وخطورة تشجيع وإغراء أي قوى محلية على محاولة تجزئة سوريا أو تقسيمها، وتبيان أن خطر ذلك لا يقتصر على المجتمع والدولة السورية، وإنما يعكس نفسه بالضرورة على استقرار المنطقة كلها، وعلى استقرار الاتحاد الأوروبي، وعلى نجاعة أيّ جهود لمحاربة الإرهاب.
كان مُهمًا أن يعطي السيد وزير الخارجية، حيزًا أكبرًا في كلمته وحواره لهذه المسألة، من زاوية خطورتها على أمن المنطقة كلها وبالتالي أمن أوروبا والعالم، وكيف أن الحديث عن أقليات وأكثريات في المجتمع السوري هو حديث فيه الكثير من الزيف.
كان مُهمًا أن يبيّن معنى المواطنة، وكيف أنها تتعارض إلى حد التناقض مع فكرة الأقلية والأكثرية، وهي الفكرة التي حركت على مدى قارب الستين عاما النظام الأسدي البائد، وكان من ثمارها هذا التشويه الذي أصاب الحياة الاجتماعية في سوريا. وأن يبيّن أن الدستور الجديد الذي نتطلع إليه سيبنى على مفهوم أصيل محدد للمواطنة حيث “جميع السوريين متساوون أمام القانون، وحيث جميع السوريين بغض النظر عن أصولهم، أو أعراقهم، أو دياناتهم، أو مذاهبهم، أو طوائفهم، أحرار في التملك والعمل والاستثمار والانتقال والإقامة في كل أنحاء الوطن”.
6/ وكان مهما في هذا المنتدى العالمي، أن يطرح الموقف الأمني الراهن في سوريا، وأن يطلب من مؤسسات المجتمع الدولي والعربي والإقليمي الإسهام في حفظ وصيانة أمن وسلامة الدولة السورية، وحدودها المعترف بها دوليا، ومنع أي جهة من التجاوز على هذا الأمن استغلالا لحالة الفراغ الذي ترك النظام البائد البلاد عليها.
إن حديث الشيباني عن تطلع القيادة السورية إلى السلام والأمن والتزامها بذلك لا يحقق الأمن والسلام، وليس من شأنه أن يبعث رسائل اطمئنان إلى أي جهة ـ إن كان إرسال مثل هذه الرسائل مقصود ـ فالضعف لا يطمئن أحدًا، والحديث عن الاهتمام بالتنمية والابتعاد عن الصراعات، كلام يصعب إن لم يستحل تسويقه.
إن هناك أراض سورية محتلة، القانون الدولي له موقف واضح منها، وهناك القضية الفلسطينية، ولا يمكن أن يقتنع أحد بأن سوريا، يمكن أن تغمض عينيها وتنسى أراضيها المحتلة من قبل الكيان الصهيوني، كذلك لا يمكن لأحد أن يقتنع بأن في مقدور قوة ما أن تعزل سوريا عن المسألة الفلسطينية.
كيف تصوغ القيادة السورية موقفها من المسألتين، هذه قضية رئيسية لا يصح معها ولا يصح فيها غضّ البصر، أو القفز من فوقها، أو تأجيل الموقف منها، لا بد من موقف مبدئي واضح لا لبس فيه، نقول موقف مبدئي، أما الموقف العملي فلهذا حديث آخر، ولقد كان ملفتا للانتباه أن توني بلير ـ وهو من هو ـ لم يأت على ذكر هذه المسألة بوجهيها الفلسطيني والسوري خلال حواره مع الشيباني.
7/ كان ملفتا للانتباه أن يختم وزير الخارجية السوري، حديثه بالإشارة الى كل من نموذج “سنغافورة، والسعودية 2030، وجنيف”، باعتبارها النموذج الذي تتطلع إليه القيادة السورية كهدف، وقد كان واضحا أن بلير تفاجأ أيضا من هذه الإشارة، حين اعتبرها وكأنها أجابت على سؤال ختامي كان يريد أن يسأل الشيباني عنه، وهو النموذج الذي يتطلع أن تكون سوريا على شاكلته مستقبلا.
والحق أن هذه الخاتمة تثير الحيرة، إذ يصعب تصور أن يكون تطلع القيادة السورية أن تكون سوريا على هذه الشاكلة أو تلك، وليس مرد هذه الحيرة موقفا من النماذج الثلاثة المطروح، وإنما مرد الحيرة أن سوريا بعيدة عن أن تكون على شاكلة هذه النماذج، لا ظروف النشأة وبيئتها، ولا الجغرافيا السياسية ومحيطها، ولا الثروات المتوفرة وتراكمها، فهل يقدم الوزير هنا الحلم/ الخيال، وهل تحتمل سوريا مثل هذه الأحلام، أم هل يحتمل مثل هذا المنتدى أحلاما على هذه الشاكلة، كان يمكن أن تكون كوريا الجنوبية، أو اليابان، أو ماليزيا، أو تركيا، مثالا وتطلعا، إن وَجدت سوريا من يعينها على ذلك، وحتى في مثل هذه النماذج فإن التحديات الأمنية المحيطة تعرقل بشدة هذا التطلع إن وَجدت عونًا، ما لم تجد دعمًا عربيًا حاسمًا، وفي إطار مشروع نهوض عربي لا يقتصر على سوريا وحدها..
8/ وفر منتدى دافوس فرصة “مبكرة ونادرة” للسلطة السورية، لعرض قضية رئيسية نحتاجها جميعا، بل ويحتاجها العالم، وهي تخصّ الدعوة للتوافق على تعريف محدد للإرهاب، تعريف تقف دول العالم ومؤسساته أمامه كمعيار وأداة للحكم على الدول والتنظيمات والهياكل والمؤسسات.
وإذا كان عنوان هذه الدورة من المنتدى: “التعاون من أجل العالم الذكي”، فإن هذا هو المكان المناسب لتناول هذه المسألة، ذلك أن “العالم الذكي”، ليس قضية “تكنولوجيا”، وذكاء اصطناعي فحسب، وإنما قضية قيم ومفاهيم تستند إلى “تكنولوجيا” العالم الذكي، والذي يتيح للدول والمؤسسات والأفراد أفق واسع من القدرة على السيطرة والتوجيه للآخرين للخير والنماء، أو للشر والإرهاب.
والشيباني، وهو يقف في “دافوس”، يقف وفي خلفيته “تنظيم كان يصفه المجتمع الدولي بالإرهابي”، فيما هو يمثل الآن دولة يتطلع لها المجتمع الدولي نفسه بكثير من التقدير، ويبدي الترحاب بها.
والشيباني، جاء بعد أن خلع النظام الأسدي الذي كان معتمدا عالميا لنحو ستة عقود، وهو نظام ما عاد أحد في العالم يجادل بأنه كان “نظاما إرهابيا”، الصورة من على منصة “دافوس” تبدلت، بل انقلبت جذريا، والسبب الرئيس في هذا التبدل أن المجتمع الدولي ليس لديه تعريف للإرهاب، ولا مقياس له، تلتزمه مؤسسات هذا المجتمع ودوله.
إن هناك دولا إرهابية، لكنها لا تعامل على هذه القاعدة، بل إن كثيرا منها يلقى رعاية استثنائية من المجتمع الدولي، وهناك منظمات وأحزاب وهياكل تعتبر إرهابية في بلاد، وغير ذلك في بلاد أخرى، وهناك الكثير من الدول تستسهل إتهام قوى المعارضة السياسية بالإرهاب، مما يجر عقوبات وإجراءات قاسية وغير مبررة. وفي ظل هذه الفوضى تعاني الشعوب من توحش النظم ومن استخدام مفرط لـ”التكنولوجيا” في قمع سجناء الرأي وفي إحكام القبضة الأمنية على الشعوب.
مهم إلى أقصى حدّ للتنمية وللتقدم، وللسلام الداخلي والإقليمي والعالمي، أن يكون هناك مفهوما واضحا محددا للإرهاب، وفي مقدور مثل هذا المنتدى ولأغراضه الاقتصادية والتنموية أن يسهم إسهامًا فعالًا من إنقاذ المجتمعات الإنسانية من الفوضى الناجمة عن افتقاد المفهوم المحدد للإرهاب، والانجاز السوري بوجهيه: المنتصر والمهزوم، “الثوار، والنظام الأسدي” يؤكد ويعزز أهمية وجود هذا المفهوم الملزم دوليا.
9/ وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن مجمل الإجابات التي تفضل بها الشيباني، لا تدل على أن حكومته حكومة مؤقتة، أو حكومة انتقالية، تنتهي مهمتها خلال فترة قصيرة أو محدودة، بل إن في حديثه عن مؤتمر الحوار والدستور المرتقب التي ستمثل فيه كل شرائح المجتمع السوري، ما يشير إلى اعتقاده ببقائه شخصيًا في منصبه لفترة أطول، إذ تواعد وبلير على اللقاء في دورة “دافوس” في العام القادم، وهذا مخالف لفحوى كل حديث سابق للقيادة السورية، أشار الى أن هذا التشكيل الوزاري مرحلي، مؤقت، وأنه جاء بمثابة توسيع لمهمة “حكومة إدلب”، إلى حين الانتهاء من الشهور الثلاثة التي حددت بمقدم شهر مارس.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى