رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الحلقة “5”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “5”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.
سيل بعلبك
على مفترق طريق بينها وجلسة سابعة مفترض أن تمددني على سرير البوح الداخلي، انحزت إلى أن أكون في جوارها، على تماس مع أوراقها، حيث طالعتني كتابات بخط اليد عن الفتيات اللواتي كن يجمعن الأزهار في سلال ليقدمنها إلى معبد “فينوس” في مدينة الشمس بعلبك عربون سلام من معبد عشتار في مملكة “أرتوزيا” .
تتبعت الحكاية وكأن عينيّ تهرولان خلف الكلمات التي ما بين السطور. رحت أقرأ:
“حدث مباغت بعثر وجهة المئات من المستحمين العراة الذين كانوا يدخلون في طوابير من بوابة واسعة تأخذ إلى حمامات رومانية يرتفع سقفها على أعمدة طينية مستديرة، وتظهر النيران مشتعلة لتحمية أرضيتها الرخامية. فماذا جرى في ذلك اليوم الذي يحمل تاريخ السادس عشر من أيار من العام 1372 ميلادي؟
كان يوم ثلاثاء، حين غطّى سماء بعلبك غيم أسود قاتم اللون، أدى إلى حجب نور الشمس، ما أذهل السكان. وبدأ البرق والرعد يهزان المدينة الصغيرة. وبعد حوالى نصف ساعة خرج الأهالي ليستمعوا إلى مصدر صوت غريب يشبه صوت الرعد، حيث فاجأهم سيل بعلوّ 13 متراً، وقد أغرق البيوت والمحالّ التجارية، حاملاً معه الحجارة الكبيرة والطمي.
يقولون إنه غضب الشيطان أسمودي الذي هندس بعلبك وأسسها لقايين بن آدم بعدما قتل أخاه.
ويقولون إنه غضب الحوت الذي نقل هياكل بعلبك على ظهره قبل طوفان نوح، وهو يكبر الفيل بعشر مرات.
ويقولون إنه غضب مردة سليمان الذين شيّدوا هياكل بعلبك التي لا يمكن أن تكون من صنع البشر.
ويقولون إنه غضب جماعات هبطت من الفضاء الخارجي لتعليم أهل المدينة كيفية البناء قبل أن يقفلوا راجعين إلى كواكبهم ومن ثم يعودون ليدمروها..
ويقولون الكثير عن حجر المرأة الحبلى العملاق وشبه الأملس، حيث ولد طفل مكتوب على جبينه أن اللعنة تلاحق الأرض التي يدوسها بدءاً من ذلك المكان.
لكنّ أحداً لم يفهم أن الصوت الغريب كان زئيراً آتياً من جهة الغرب. زئير باغت العذارى بينما كن في الطريق لتقديم الزهور العطرة من النرجس والخزامى والبنفسج والأقحوان والزنبق وزهرة البرية، فإذا بهن يتفرقن كل في طريق واتجاه وزمان، وفي أراض بات لزاماً عليها أن تدفع ضريبة الغضب من جنون الطبيعة بالحريق والغريق والتصحر وانكسارات الأرض.
ولهذه الأسباب يا من تقرأ ، لم يكتمل بناء القلعة، وبقي في مقلع حجر الحبلى الروماني أكبر قطعة حجر غير مصقولة في العالم”.
الختم: في ذيل الورقة رسم يصور الشمس، وفي النصف الأعلى أضلاع متساوية من الأشعة، وفي الجزء السفلي كأنها حياة تحت الماء.
-3-
(النص الثالث والأطول بين النصوص يحكي عن ساعة بسلسلة وأخرى رملية..وكنت بالفعل شغوفا بلعبة الوقت وتضخم الظلال كلما تقدم النهار بها)
في صحة الوقت
أيتها الساعة المتسربلة بسلسلة جيبه، راقصيني عكس عقاربك، نتواعد مرة، نتقابل، نزدرد الوقت ونتكتك بطيئاً ، بطيئاً ، بطيئاً، عنه وعنك وعن واحات الانتظار المزروعة بالقلق والمسيجة بدزينة أرقام وكسر وضم وترجيحات في أن أتأخر أو يتأخر، في أن نحضر ولا يأتي الوقت، في أن تعقصنا المواعيد ولا تبارح العقارب أنفاسها الأخيرة، تلهث ونلهث ونطرد جميعاً من فردوس نجمة إلى قفر برارٍ تؤاخيها ساعة رمل، نركض والرمل بتوقيت والعيون بتوقيت والوجوه ما أكثرها شاخصة في الذرات الأخيرة تعلن انتهاء وصلة والبدء بالعد.
وأسأل الساعة: ما توقيتك الآن في مواعيده؟ في ملابسه؟ في تسريحة شعره؟ في عطره؟ في حركة عينيّه؟ في نعاسهما؟ في الوجه؟ في تورد وجنتيه؟ في الفك المطبق؟ في الجبين المرتفع؟ في حاجبيه المعقودين؟ في شفتيه تعانقان قهوة سادة؟ في خطواته؟ في علاقة مفاتيحه؟ في مفاتيح الصوت؟ في السلسلة الفضية المتدلية منك يا ساعة؟ في لون أيّامه؟ وفي لون انتظاري ساعة يغدو الكون كله ضحكة وغمزة وغمرة ولحظة من جزء من وقت يجمعنا معاً ونركض وتركضين.
وفيما السباق أنتِ والحكمُ، غرّدي عنا: لمَ هذه القلوب وقد دهمها الوقت، لمَ للمسافات تجاعيد، وللمواعيد شيخوخة، وللجسد معالم الفصول في تعاقبها من ربيع الملذات إلى شتاء بمظلة تحشرنا تحت سقف منزل مهجور، وأُعلمك: تأخرنا ودارت بنا الساعات مثل الروليت بدولابين وباتجاهين، نقفز بين المربعات من الأحمر إلى الأسود إلى الربح إلى الخسارة إلى إنذار الأخضر بانتهاء اللعبة إلى عتمة الليل في منتصفه تئنّ: الوقت صفر.
ومن الصفر نشكّل دوائر الزمن، نصنع كعكة العيد وإطاراً برونزياً لحكاية اسمها “الدوّيخة”، بطلها ولد يطارد بنتاً، يدوّخها، يسرق الساعة التي في يدها، وتسرق قلبه حين يكبران، ويرد الساعة ومعا يلعبان: حجر، ورقة ومقص، والاختيار يحدد الفائز بقوانين: الحجر يهزم المقص، والورق يهزم الحجر، والمقص يهزم الورق، والساعة تهزم الاثنين، تحزم مقص العقارب وتشرع تدور في الاتجاه نفسه، ولا العقرب الكبير يمسك بيد الصغير، ولا اللعبة تنتهي، تبقى تدور والأرض تدور والساعة في جيبه تتكتك أيّامه كحبيب يرجع من سفر، يحلق ذقنه ويطرق الباب في نزهة ليست أكثر من العمر المكتوب لهما.
وأفكّر: كل شيء بيننا بدأ عكس المواعيد، مثل عصفور وجد نفسه يقتنص الطريق، يحلّق، يغرّد، يرتجل، يتشظى، وبجناحيه يضرب الهواء وينطلق بلا سابق مؤشرات، يستدرج جناحين مرتبكين، يغمرهما برغبة قصوى، ويفتح حديثاً يطول العمر كله، وفي نسيج الروح يترك ريشة ولعثمة كلام واستحالة العودة من حالة جسد.
وعكس الريح تغني المواعيد لهشيم الوقت في مرآة الحقول، كما في زمن بعيد، حين كنا نطرد الهواء ونحبس الوجه في الوجه ونتلاقى في المدى وقد دست الغابة ضحكتها في جيوبنا. وانسحبت تخفق في الطرق البعيدة على ضفاف الانتظار، وبعض ظلالنا يتبعها ويناور، وبعض ظلالنا تتبعنا وتناور بأقدام لا تمس الأرض ولا تطال السماء. تبقى معلقة مثل القدر يأتي مرة، ويعود مرات، وعند كل زيارة يترك قعقعة على باب وطائرة ورقية تحلق إلى حيث يشاء القدر وينتفخ مثل طوق نجاة، ويجمعنا.
وليس القدر وحده الذي يجمع، ليست الصدفة، ليس قرع الأجراس، ليست مكعبات الثلج ولا جنية منتصف الليل ولا كل السحرة الخيّرين. الهالة تجمع أيضاً وتنادي وتلم وتتسلل خفيفاً في الغابات مثل إشارة وتفاحة على مائدة، وخيل تصهل وتعبر النور كالبرق، كالرمح وقد أثملها البلبل. والنداء الخفي زقزقة تجمعنا في رقعة القمر، وكل ما نملك أن يبعثرنا البدر مطرودين إلى هلاله، نتكوّر وتكون البدايات.
وفي النداء أقول: يعجبني صوتك الذي يتدلى من القمر، كقبعة في الغيم يسافر، يستدير ويرجع بلورة تهم بدحرجتي من السمع إلى الطرب إلى الروح التي تردها، وأنصت للصوت والصدى والعالم الواسع، وعلى الجدران العارية أجرب صوتي وأجرب صوتك على مرمى حجر من عصفور، على مرمى حجر منّا، على مرمى رشقة قلب، وأتهجى المواعيد حرفاً بعد نداء، بعد حفيف، بعد رغبة، بعد قبلة، بعد صوت، بعد صدى، بعد ريشة، بعد جدران ألبسها صوتك وأعرّي القمر.
وأدعوك إلى سمر:
أنا وظلي من شقوق الضوء نعتلي صفحة حروف ثملة، نقتسم القهوة، نحتسي سيرتك، ونعابث السطور كمن ينفخ في الردهات الحية، نبقيها جمراً متقداً تحت رماد شوق السطوح، ومن مربعات النوافذ، ومن ذوبان النوم، ومن كل غفوة نقطف جملة ونمحو كلمة، ندوزن الخطوات ونتربع على ظلك، وفوق الظل أخبّئ وجهي وأحدق في ظلك وتحتشد بنا العيون كالأنفاس.
وأجاريك إلى غوى الوجوه بتدرج الظلال، إلى التجرد من انتماء الضوء، إلى اعتزال ما حولنا والتسكّع على حوافي الأرض، إلى ارتشاف ملامحنا في السكون، إلى اعترافي: الحب أجمل بالأبيض والأسود، بحنوّ الناي، بهوامش الريح، بالصفير الآتي من البعيد، بالإذعان إلى الجانب المنفيّ من الصخب، باستسلامنا إلى محبرة العتمة، تخطّ على جسدينا دمغة وتسكب عبورها وتمضي حبراً على ليل. وفي البقعة المنسية نحيّي العتمة، نلوّح لها، نتفتّل من حولها ونعد أصابعها ونتعلم عشق الظل لظله، كيف يتقابلان، يتعانقان، يتهامسان، يوشوشان ويخبّئان الأسرار في خوابي الأرض، وفي أعشاش العتمة، وبين الشفاه، وفي همس يغزل شباكه حولنا ويتركنا على انفراد.
ولا يهمّ كم من الوقت سرق الضوء منّا، وكم من الظلال راحت وأتت، وكم من عروق تجمدت في الانتظار، وكم من أسراب عصافير لفظتنا، وكم من ضفة تقاذفتنا، وكم من جمرة نقرت فينا، وكم من شفق غطس في الماء وعوّمنا، وكم من خيال ريشة طوّح بنا إلى الريح وحطّ على الأنف ودغدغه.. وكم من فرح صنعناه من بقايا حدائق الروح، ومن قسمات الوجه حين يهب الشوق، ومن مدى عينيك الفسيح، ومن صوت يخدش السكون ويسأل: أيّكما الظل لظله لأحتويه أولاً؟
والمرة بعد المرة، أقول للشوق خذ عني نفساً، ودارني من كبرياء نظراته، من أنجم مرمية شامات صغيرة على خديه، من مراكب سارية في محيط شفتيه، من منحدر ذقنه إلى واحة في الخباء تنبض حتى العظم، من شرايينه ترابض لدمي فريسة عشق بنكهة الحرقصة، من نفسه التي تشبهني لتعود بي في الليل أغنية سمر، من حكايات متدلية من القمر المعقود في السماء إلى ذيل الليل المشبوك بلؤلؤة البحر وفراشة بلون الموج، من كل هذا وذاك، خذ يا شوق ولا تعطِ الحب إلا لمن يشعل الروح من الحطب اليابس، يصنع منه آية عشق تغني، تحفر في الروح، تطلع إلى السماء، تنفجر بألوان المفرقعات أحمرَ وأخضرَ وبنفسجياً وأزرقَ وكل متفرعات الحياة، وتتساقط شهباً من غزل ونور في البحر الصاخب، ويشرب الناس ويثمل حبيبي.
وخذ يا شوق علّم الريح السهر، والليل كيف يطل من عليائه، يلوّح برمحه من البعيد، وتحت جنح الظلام نادِ: القلوب عارية من يُلبسُها ثوبها البلّوريّ؟ القلوب نائمة من يأتي اليها في الأحلام؟ القلوب سئمة من يرسم لها خارطة ملونة؟ القلوب طائرة من ورق من يدحرجها إلى الأعلى؟ القلوب تدخّن الحشيشة وتعتاش من المزاج من يجاريها؟ القلوب حطب الشتاء من يشعل نارها ويأخذ بالفروع الخضراء إلى ظلال الياسمين؟
وابقَ في مكانك تنادي، ترجع تلك القشعريرة إلى الأيادي المشتاقة للعناق، إلى الأجساد في بحثها عن توأم الجسد، إلى العيون المغمضة تشرب نخب اللحظات الهاربة، إلى طرقة القلب في رقصها على حلاوة اللحظة وتسلل شفتين في ضوء مصباح واهن تغنيان لطلوع الفجر: في صحة الحب، في صحة الشوق، في صحة اثنين يجيدان بعثرة الخطوات، ثم يمضيان كل على حدة يجمعان ما مضى وقد مضى …
وأقول:
في عينيّ تلمع مثل دمعة فرح، وفي حينٍ مثل الوجع، أو مثل نجمة في السماء، وخاطرة حلوة في البال، ووهج يلفح أكثر أو أقل في كل مرة تلمع فيها.