رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الجزء “12”..
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “12” من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.
(لطالما بقي العطر يقربني من النساء أو يبعدني عنهن. كنت من خلاله أخمن أي امرأة في ضيافتي: حنون، صارخة، مجنونة، براغماتية ..وعلى المنوال سلكت علاقاتي بمعظمها الدرب نفسه من الأفول إذ لم ألتق امرأة بالعطر الذي أبحث عنه. عطر مغمس بعنبر الأرض)
زجاجة
الجسد المرمري في زجاجة، مضطجع في عطره، على الجانب الأيسر، في وضعية الانتظار، وتحت الظل المتقلّب، دعوة لعدم اللمس، لكنّ الرغبة موجودة، بيضاء نقية كالانسجام تنزل فوق سرير من زهر اللوتس، تضع قدميها العاريتين في زهر الرمان، تداعب الورد والرؤية وإكليلاً من ورق الغار، وفي تحولاتها تعبق بقبلة، وما من شاهد عليها إلا عطرها، هي التي تكاد تموت من الشهوة، فوق اللوح الزجاجي المختوم بأقفال، في متحف الرائحة، حيث الدعوة مغرية ومفتوحة على خمسة آلاف نوع من العطر.
في ذلك المكان الثمل بالكيمياء، تختلط الجرار بالحكايا، بالأزهار، بالتوابل، بالتماثيل العارية، بالأواني، بالمنمنمات، بعرق أيدينا المنزلق من بين أصابعنا، تسبقنا خطواتنا اللاهثة خلف حواسّنا، نزكيها مرة بالعطر ومرة بحبوب القهوة كفاصلة بين تغريدتين.
وعلى السطر الزجاجي الأول كانت كليوبترا تتربع بعطورها، وتمد اليد بخلطة أعشاب تختال بها من عصارة سفح جبل قبرصي، تقطرها في قنينة ومنها يولد عطر “بينو سيلفستر، وفي الجرار توزع زنابق اللوتس على صفحة الماء، وتظل ترنّم لسيدة العطور في انبلاج فجر أوراقها، وفي تقوقع ليلها، وفي عريها، وفي زفة اليوم الخامس، ومنه تهبط من الأزرق إلى الأرجواني إلى أن تصير خضراء بحجم كأس، لينة وجاهزة للحب، في وضعية زجاجة عطر، قد تكون “الرغبة” من “دانهيل”، مثيرة بروائح الليتشي واليوسفي واللوتس والبرغموت، والبرتقال في منتصف العطر، وفي آخرها رائحة النهر، وخشب الورد البرازيلي والعنبر، والمسك، وقد تكون “اتيرنتي” من كالفين كلاين، وفيها اللوتس أيضاً، والخزامى والبرقوق والأخشاب ورائحة المسك الدافئ.
وبين كفّيك وبيني، كانت عشتار تطل من بين القوارير وتخمة الخلطات المعلقة على حبال التاريخ، ترتدي تحفها التي لم تتزين بها منذ زمن طويل، تلبس الثوب الأصفر الموشّى بالذهب، وتزاحمني فيك على الرائحة، وعلى اشتهاء حركة الأصابع تدوّر زجاجة برائحة حقول القمح، تنزع الغطاء وتغمض عين وتنسى الأخرى مقرفصة على شذى الحقول، وتترك لأنفك مسار الخطوة مجدولة في الخطوة مثل حبكة سنبلة بجوار سنبلة، وفوق السنبلة المرأة الواهبة للحياة، واقفة تحمل سلة البخور وزيت السرو وزيت الأرز، تنثر الأريج نفسه يوم التقينا في زمان ومكان غير زمانها ومكانها، لكن بظروف متشابهة من الاشتياق والرغبة.
وكنت مثلها أطل من كيمياء اللحظة لأرسم ظلالاً من الرائحة، وأطلب أن تقدم خطوة بيمناك وتراجع خطوة بيسراك، هكذا أريدك رجلاً عالقاً ما بين الشرق والغرب، تقطف عطراً عشبياً، تتزحلق على ألواح بخلطات فيها من زيت الريحان، وزيت الورد، وزيت المريمية، وزيت زهرة البابونج، وزيت خشب الارز، وزيت المسك، وزيت اللوز، وأعطرك بدهن العود وأقطف عرق الصندل، وعرق الزعفران، وعرق العنبر، وعرق الحنة. وهب النسيم والياسمين وعطر النديم، ومن كل واحدة من الزيوت، ومن كل واحدة من الخلطات، أطرق بأنفاسك أبواب “دولتشي أند غابانا” و”فيرزاتشي” و”جيفنشي” و”رالف لورين” و”ايف سان لوران” و”كالفين كلاين” و”دانهيل” و”هرمز” و”رالف لورين” و”بوس” وكنزو” و”موشينو” و”فكتوريا سيكرت” و”كشريل” و”بوس” و”نينا ريشي”..
ومن كل محطة أقطف مرادفاً: زيت المرمرية للفرح، زيت الورد لرفع المعنويات، زيت خشب الصندل لمزيد من الألفة، زيت الليمون للانتعاش، زيت الريحان للسكينة، زيت الغريب فروت لمزاج أفضل.
ومن كل مرادف أقترب خطوة، وأغمض عينيّ ونضيع سوياً في رحلة على متن متحف ما زال يستقبل خلطات ويودع أزمنة ويأخذنا إلى أخرى.
تيبازة
لم تعد الأوراق وحدها تحركني في بحثي عنها، إذ ثمة ما يدلني إلى زمانها بإحساسي ورائحة خاصة ممزوجة بالتراب تقود أنفي بين بلدان المتوسط منقلة القدم من مغامرة إلى زمان إلى مكان.
وقد اخترت الجزائر لأعاين وجه الشبه بينها وبين تمثال عين الفوارة الواقع في قلب مدينة “سطيف” عاصمة الهضاب العليا التي تبعد عن العاصمة الجزائر حوالى 300 كلم إلى الشرق.
ولأول مرة ألمس وجه شبه قوياً بينك وبين أنثى هي الأخرى حملت لقب “فاتنة المرمر”، بيضاء. عارية، ينسدل شعرها على كتفيها مثلما ينساب الماء العذب من النبع الذي تحرسه، وكلاكما لا أحد يجزم بإعطائكما هوية أو نسباً أو زماناً أو مكاناً، وإن ينقل بعض أبناء مدينة سطيف أن فاتنة تمثال عين الفوار كانت محبوبة حاكم فرنسي تزوجت من غيره، فاختار أن يخلّد حبه بنحتها ووضع تمثالها فوق نبع الماء الدائم التدفق تماماً مثل حبه لها، هناك ارتويت مرة من النبع ولم أصدّق أنّ كل من يشرب منه سيقع في غرام فاتنة من حجر، ويبقى متعقباً لأخبارها إلى أن تنتفخ عروق الحجر ويتورّد الجسد.
وعلى الرغم من وجه الشبه بينكما، إلا أن زمانك يا “إلينا” لا شك أعتق من نبع الفوار، وإليه أتقدم قبل أن تداهمني رائحة زنابق اللوتس من جهة مدينة “تيبازة ” الجزائرية، ومعناها “الممر” الذي بناه وطوره الفينيقيون.
وأعرف جيداً إلى أين تقودني الرائحة حيث أقف أمام ضريح ابنة كليوبترا من القائد الروماني مارك أنطونيو، وهذه المرة أيضاً أدين لفتاة الرسوم التي غدت أوراقها دليلي إلى المكان، وفي الأوراق أكثر من معطى وحكاية شرحها يطول:
حكاية أولى:
“تزوجت ابنة كليوباترا، ومعروفة بكليوباترا القمر، من الملك يوبا الثاني الذي حكم امبراطورية جمعت المغرب والجزائر أواخر القرن الأول قبل الميلاد، كان يوم زفافها في الأول من حزيران من القرن الأول قبل الميلاد، أشبه بالحدث الأسطورة في بلاد تامازغا، حيث كانت الإلهة الرومانية جونو توزع على العرائس صكوك السعادة وبشائر الرفاه. وفي موكب ملكي مهيب، أشارت كليوبترا القمر إلى رئيس خدمها طالبة منه التوقف برهة أمام معبد إيزيس. نزلت بكل خيلاء من عربتها الملكية الفاخرة التي تليق بمقام جلالتها، خطت متبخترة بين الجموع بكامل زينتها، موشحة بهالة صفراء ذهبية؛ مشعة فوق تاج رأسها، تأمن بها شر الأرواح الخفية وفقاً للطقس المتداول، وهي العروس المشهود لها بجمالها القمري الفائق، الزهية في كامل حليها وحلتها، ولجت معبد الإلهة المصرية إيزيس؛ إلهة الأمومة والخصوبة، دنت منها بخشوع وولاء، طالبة أن تبارك لها هذه الزيجة وتجعل منها مثالاً للسعادة والحب.
وخرج حشد من أتباعها بهتافات التمجيد والتهليل، مهرجو الألعاب السحرية يثيرون الفضول، موسيقى صاخبة تثير حماسة الرقص الروحي، قرع الطبول ونفير المزامير يملآن المكان، غاصت العاصمة الملكية فوليبيليس (أليلي، وليلي حاليًا) بأكاليل الورد، أوار المشاعل المتلألئة تزين جدران القصر الباذخ؛ التي لا يخبو لهيبها الوهّاج المنعكس على التماثيل الرخامية والبرونزية الفخمة، وعلى أرضية القصر الفسيفسائية الرائعة. كما ينعكس الضياء على أباريق فضية مليئة بالنبيذ الأفريقي المقدس الذي أعد من كروم ضيعات اللوكوس (العرائش في المغرب) وروي بينابيع مياهه العذبة، رائحته تنعش الزوار الثملين، ضيوف حجوا من كل حدب وصوب، يشربون بلا تريث، لإرضاء إله الخمر باخوس. يُسمع دوي نفير الأبواق، إعلاناً عن موعد عرض مهم، يختفي الصخب فجأة، ويعلو صوت أمذياز كريناجوراس المنتصب فوق المنصة الشرفية منشداً: من أجل مناطق عظمى متجاورة في العالم يقطعها النهر القادم من القارة السمراء، صنعتِ ملوكًا يشتركون في حكمها برباط الزواج، فجعلتِ العرقَين المصري والليبي يختلطان في عرق واحد. فلتدعي ذرية الملوك تتولى زمام الأمور التي ورثتها من أبويها، بقوة، لحكم هاتين الرقعتين”.
حكاية أخيرة:
يوم ماتت التي كانت مثل ذهب الشمس، دخل القمر في كسوف حزناً عليها وحفر النعي على الحجارة، وفيه:
القمر نفسه أصبح مظلماً،
في ارتفاعه عند الغروب،
مغطياً معاناته في الليل،
لأنه شاهد سميته الجميلة، سيلينه،
متقطع الأنفاس، هابطاً إلى الظلمات،
فمعه الآن جمال ضيائها وضيائه،
واختلطت ظلمته وظلمة موتها”.
وعلى الرغم من افتتاني بك كليوبترا الأم، من عطرك إلى حنكتك إلى غوايتك إلى محاولاتك الحثيثة بالتوصل إلى مكونات إكسير الحياة من خلال المزج بين فتات أصناف من الحجارة ، فإني كنت أجهل أن “يوبا الثاني” يكون زوج ابنتك، هو الملك الذي كان على شيء عظيم من العلم وسعة المدارك، وله مؤلفات كثيرة جداً في العلوم والفنون، أهمها تاريخ الرومان.. وكان يميل إلى فلسفة اليونان وأدخل ثقافتهم وفنونهم إلى بلاده.
حكاية يوبا:
كان الملك “يوبا” الثاني مولعاً بدراسة شؤون الهندسة.. وجلب لعاصمته “شرشال” مختلف الفنانين من مصر واليونان.. كما جلب إليها عدداً من الكتّاب والشعراء والفلاسفة. وكانت له اتصالات ثقافية مع رجال المسرح، وكان يقول الشعر، وما زالت بين أيدي الأدباء أشعار بعث بها إلى ليونتوس ليتبوأ لقب “أحسن مؤرخ ظهر وسط الملوك”. وعلى الرغم من أنه خدم الفكر الروماني بولاء ظاهر، إلاّ أنه لم يكن منحازاً له بشكل كبير. وكان تولى أفريقيا الجديدة بإخلاص تام، وأحب إخوانه البربر.
والد يوبا الثاني هو الملك يوبا الأول، وعنه أخذ الحلم في أن يوحد شمال أفريقيا، إلا أنه لم ينجح وقضى يوبا الأول في مبارزة قائد روماني في العام 46 قبل الميلاد تاركا ولداً صغيراً في الخامسة أو السابعة من عمره هو يوبا الثاني الذي أسره يوليوس قيصر وحمله معه إلى روما، ثم نشأ الفتى الأمازيغي بعد ذلك في كنف الإمبراطور أغسطس الذي ساعده على طلب العلم في عدة مدارس ومعاهد رومانية وأجنبية إلى أن صار مثقفاً كبيراً يشهد له بالعلم الواسع أعداؤه قبل أصدقائه. ونظراً لثقافة يوبا الثاني الموسوعية وكفاءته في التسيير الإداري ووفائه وإخلاصه للقيصر الروماني، نصّبه أغسطس ملكاً على موريتانيا الطنجية وزوّجه من ابنة كليوباترا التي كان والدها خصمه وحملها معه ليربيها بعد موت والدتها.
ومثلما أحب أنطونيو الروماني كليوبترا، أحب يوبا الثاني الابنة إلى حدود أنها كانت شريكته في الحكم والثقافة حتى إنه نقش صورتها على العملات، وحين توفيت قبله بـ18 عاماً، بنى لها نُصُباً هندسياً دائري الشكل ليكون ضريحها التركة الأثرية الأجمل في تيبازة، ويقع هذا الشاهد على الطريق المؤدّي من الجزائر إلى شرشال على قمة ربوة الساحل الغربي للجزائر العاصمة، وعلى يسار الطريق المؤدي إلى مدينة سيدي راشد. ويعلو سطح البحر بمقدار 261 متراً.
أمام ضريح كليوباترا القمر ما زلت واقفاً، مدهوشاً بالبناء الأسطواني المشيّد من صفائح حجرية متساوية الحجم وينتهي بمخروط مدرج. يظهر من خارجه 60 عموداً من النمط الأيوني وكل واحد منها يحمل إفريزاً. ويتميّز الضريح بوجود 4 أبواب وهمية ضخمة علو الواحد منها نحو سبعة أمتار يحيط بها إطار يحمل نقوشاً بارزة تشبه إلى حد بعيد شكل الصّليب، ما يرجّح بأنه مبنى مسيحي ومنه جاء مُسمّى “قبر الرومية” من مفردة “الرّومي” بمعنى الرّوماني أو البيزنطي. وهناك باب سفلي ضيق يوجد تحته الباب الخلفي للناحية الشرقية وهو الممر السرّي للضريح، وقد اكتشفه عالم حفريات فرنسي تنفيذاً لطلب نابليون الثالث عام 1865م.
لدى اجتيازي باب القبر دخلت في رواق اضطرني للانحناء. في حائطه الأيمن توجد نقوش تمثل صورة أسد ولبؤة، ولهذا قد يكون سُمي بـ”بهو الأسود”. ومن الرواق دخلت في رواق ثانٍ شكله ملتوٍ ويقود مباشرة إلى قلب المبنى الذي تبلغ مساحته نحو ثمانين متراً مربعًا.
وبحسب التواريخ المحفورة في المكان، فإن الملك يوبا الثاني دفن بجوار زوجته في الضريح الملكي بعد 18 سنة على رحيلها، ـليُعرف المعلم من بعدهما بـ”قبر الرومية” الذي احتفظ برمزية قصة يوبا الثاني وكليوبترا القمر، ومنها درجت العادة في المدينة أن يلتصق قبر الزوج بقبر زوجته ليتشاركا رحلة الحياة والموت معاً. ومن أغرب ما عرفته طقوس الدفن في المدينة، أن يأخذ الميت معه زجاجة صغيرة، وآنية فخارية، تحتوي إحداهما على دموع، والأخرى على عطر. فتكون الأولى شاهدة على أيامه والثانية من أجل استعمالها في رحلة البعث.
وليس “قبر الرومية “وحده الذي شدني في المكان المبني فوق ثلاث تلال صغيرة متقابلة مطلة على البحر، إذ توجد آثار فينيقية موزعة في المدينة التي سبق أن شيدوها في القرن الخامس قبل الميلاد، وصارت تعرف ب”قرطاجية”، لاستخدامها كسوق تجارية. وكانت المدينة موجودة من العصر الحجري، لكنهم أكسبوها رونقاً خاصاً، ما سلط الأنظار عليها.
وقبل أن أختم جولتي في المدينة الأثرية، لفتني نصب اسمنتي يشوه المكان عرفت أنه موجود من أجل أن يشير إلى أن الكاتب الفرنسي ألبير كامو المولود في الجزائر والحاصل على جائزة نوبل، وصاحب رواية “الغريب” كان يأتي إلى هذا المكان الموجود في أقصى غرب المدينة التاريخية من أجل أن يتأمل ليكتب.
ومثل “كامو” أتعقّب بترحالي هذا حكاية ذلك الغريب والفتيات الهاربات وأنت التي لا بد كنت أحلى مما يصوّره تمثالك، ولا أخفيك شعور الغيرة الذي يدب في يدي وشفتي كلما داهمني الشعور بأن أحدهم افتتن بك إلى حد أنه صنع من الحجر أيقونة جمال بمقاييس فاتنة. صنعك ونسي الاسم والعنوان وإشارة تأخذني إليك.