رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. “الجزء “6”..
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “5”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.
شريفة يرموتا
“تبدد الصوت حين تفرقت الفتيات كل في طريق” .
تخبر الأوراق مصوبة إشارتها إلى حروف قد تكون الأقرب إلى اللغة الهيروغليفية ، وفي ربط الأشكال الستة المتجاورة وهي على الشكل الآتي: ما يشبه الرقم اثنين باللاتينية، وما يشبه الخيط وبجواره رأس الإبرة، ويليهما شبيه بحرف الواو، ومن ثم خط أفقي، ومن بعده ريشة في الاتجاه العمودي، يظهر أن الكلمة هي “يرموتا”، المدينة الفرعونية التي حكمها الفراعنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الشاطئ اللبناني على مسافة 70 كلم من العاصمة بيروت، قبل أن تغيب في النسيان من دون معرفة الأسباب الحقيقية التي أزاحتها عن الخارطة.
وتملّيت في الرسم الكبير لـ”يرموتا”. كانت الساحات العامة تبدو مبلّطة وفيها تماثيل حيوانات قد تكون مقدسة وفق العقائد الفرعونية. ومن هذه التماثيل تمثال للقطة (باسته) التي تعبدت لها الأسرة الفرعونية الثانية والعشرون، وآخر واضح المعالم هو لرأس حيوان طويل العنق كالجمل، وطول عنقه يقربه من حيوان الإله “ست” رمز الهكسوس في مصر، والذين حملوه الى الشاطئ اللبناني .
ولم أبحث أكثر في الرسم الذي يحدد بدقة ما تبقى من المدينة الفرعونية الجاثمة تحت مياه شاطئ بلدة الزهراني في الجنوب اللبناني. حملت عدة الغطس وانطلقت مستفيداً من اقتراب تعامد الشمس على الأرض. وفي بالي أنه موعد الهاجرة الذي يسمح فيه للأرواح بالعودة إلى الحياة لوقت محدد قبل الرقود في الموت، أو هكذا تقول الأساطير التي بدأت أستعير منها ما يخدم حكايتي.
وتعمّدت الانحراف إلى مدينة صور بحثاً عن المدفن الحجري، والمجهولين الستة. خطرت في بالي الفتيات اللواتي تفرقن … وتقدمت أكثر في السيارة إلى حين جذبتني محمية طبيعية للسلاحف. توقفت هناك وأخذت اتجاه المحمية على الشاطئ متتبعاً أثراً لقدمين بحذاء الغطس. وهبّت موجة ترامت معها السلاحف في الماء بحيث اختفت جميعها ولم يبق غير هدير البحر وطيف على الشاطئ لصبية بملابس الغطس سرعان ما دنوت منها مخمناً أنّها هي، ورحت أفكر في اللغة التي أخاطبها بها، وما زلت أجهل حتى سلالتها.
والتفتت الفتاة إليّ مبادرة في السؤال: هل تجيد الغطس؟
وبدلاً من الايماءة بـ: “نعم” ، قابلتها بالسؤال: “وهل تجيدين التحدث بالعربية؟”.
سؤال أربكها لترمقني بنظرة مستهجنة ومن ثم لتضع قناع الغطس على وجهها وتغيب في الماء.
لم تكن هي التي انتظرت، ولا هو صوتها الذي نسجته في خيالي، ومع ذلك لحقت بها في المياه لأعرف وجهتها، وطال بحثي إلى أن وصلت إلى أرضية ليست بعميقة، مبلطة بقطع صغيرة من الموزاييك، وإلى جوارها أبنية مهدمة ومنتشرة على مساحات واسعة. وتوجد في الموقع المغمور في الماء كسرات تماثيل متجاورة عديدة، ما يعني أنها لم تسقط من سفن أو أنها ألقيت عمداً في الموقع، بل كانت منصوبة هناك وغمرتها المياه من دون عنف زلزالي كبير.
وتعرّفت إلى “باستا” التي شاهدتها في الرسومات، تمثال لامرأة فرعونية برأس قطة، وبالقرب منه تمثال آخر بعنق طويل، مصنوع من مجموعة حــجــارة جــرى رصفها فــوق بعضها بعضاً، له ما يشبه رأس الطير، ومنقار طويل. وثمة تمثال ثالث في الجوار له رأس أفعى “الكوبرا”، ونصب عليه رسم يمثل ذراعين مرفوعتين دعاء وابتهالاً، وفوقهما رمز للشمس يحف به هلال، وزخارف على أشياء صغيرة، فنجان ذهبي عليه صور بارزة لثيران وأسود وحيوانات غريبة، ورسم عاجي يصور آلهة الحيوانات المتوحشة وتوابيت حجرية على سطحها الأعلى قالب لرأس إنسان.
وكان في الأسفل أيضاً تمثال يبرز وجه امرأة يغطي شعرها منديل طويل، بملابس مزارعة، وامرأة ببطن منتفخ ، ومعالم مكان يوحي بأن السكان كانوا يتواصلون في زيارته، ربما للالتقاء بتلك المقيمة فيه، وهناك بقايا لقى توحي بالذبائح التي كانت تقدم، ولوحة معلقة على عمود مرمري، تحفظ حروفاً فينيقية تفيد: “إن الشريفة أماليا قد قدمت جسدها قربانا للآلهة، وأنها في تدينها أصيلة، فقد قدمت أمها وجدتها القربان ذاته، وأنه قد تم التأكد من ذلك”.
ونسيت اليابسة في حضرة مدينة أعرف أنها في زمانها كانت مركزاً قيادياً للفراعنة الذين أسسوا فيها مركزاً مصرفياً، وضعوا فيه جزءاً كبيراً من إيداعاتهم الثمينة وأموالهم. وأخذني فضولي للبحث عن معبد عشتار حيث حفلات الجنس الجماعي تبقى صاخبة، محتدمة…
وطال بحثي إلى أن بدأت أشعر بضيق في التنفس بفعل نفاد أنبوبة الهواء المضغوط فيها. قاومت الدوار ضارباً قدمي بحركات عاجلة في الاتجاه الأسفل، وكنت بدأت أرتفع بصعوبة إلى أن اقتربت من وجه الماء واستسلمت للشاطئ في نصف وعي، وفي النصف الآخر كنت تقتربين بالفستان الأبيض نفسه. حزينة أمسكت بيدي إلى ذلك الخيط الشفاف الفاصل بين الشاطئ ومياه البحر. يخيل إليّ بأنك قلتِ: انظر للأسفل، وسكن الموج .
وفيما أنتظر إشارة من الأعماق، تمثالاً يستيقظ أو يمد يده للسلام، وجهاً يحاكيني أو يردك حورية، خطر في بالي أن أعود إلى أوراق فتاة الرسوم لأعرف ماذا تخبئ لي عن المدينة التي كاد بحرها يبتلعني، والتي لم تسمح لي ربما بسبر أغوارها أكثر، وعنها قرأت:
“في يرموتا كان الصخب يملأ المكان حد الجنون. وكان هذا الطقس أفضل قربان يمكن تقديمه، حيث كل النساء مباحات للرجال، وكل الرجال مباحون للنساء، وعلى كل عذراء أن تضاجع غريباً في ما يسمى البغاء المقدس، وكان صحن المعبد يزدحم بنساء يختلن بما برعت أيديهن من ملابس زاهية عملن على تطريزها وصباغها.
وفي المكان ناي ودق طبول يمتزجان بعويل النساء. وكان الكهنة الخصيان يرقصون رقصاً عاصفاً ويضربون أجسامهم بالسكاكين، ورجال يخلعون ثيابهم ويخصون أنفسهم ليهبوها طوال حياتهم لخدمة الغريب. وكانت القرابين تشمل الأطفال وقد أخذوا زينتهم كأنهم في يوم عيد، وتغطي دقات الطبول وأصوات المزامير على صراخهم وهم يحترقون في حجر الإله. وكان القساوسة يضربون أنفسهم حتى تلطخ المذبح دماؤهم .. وفي بحر الدماء هاج الغريب، زأر فاهتزّ معبد عشتار في يرموتا ليزحل من اليابسة إلى المياه وتميل معه المدينة وتغرق ومعها سر حجارتها المثقوبة جميعها في الوسط ، والتي تمتد من الشرق إلى الغرب، ومعها أيضا واحدة من الفتيات التائهات، كانت أصغرهن في السن …”.