تربية وثقافة

رُقـع الـجـهـل لا تـسـتـر عـورة!*

عمر سعيد/ لبنان

“المدارنت”/ كان أبي أمهر المرقّعين الّذين عرفتهم في حياتي.. وعندما أراد أن يبني بيتاً لنا، بنى غرفة، وبعد أن سكنّاها، أضاف إلى جانبها غرفة ثانية، فثالثة. وهكذا. حتّى بدا بيتنا كبيراً.. لكنّه صار أشبه بكرتون البيض، وبات عبارة عن مجموعة وحدات، لا سبيل للدّخول إلى أيّ منها، دون العبور ببقية الغرف..
وأنت لست بحاجة لتدخل بيوت قريتنا كلّها، لتتعرف على تصاميمها الدّاخلية، بل يكفي أن تدخل بيتاً واحداً منها، والباقي مجرّد نسخ تتكرّر تراقيعها وفي كلّ شيء داخلها.
فباب ترقيع، وشبّاك ترقيع، وطلاء ترقيع، وتمديدات الكهرباء والماء كلّها ترقيع.
كذلك كانت أمّي ترقيعيّة، لكنّها لم تكن ماهرة، لأنّي ما زلت أذكر ملابس الطّفولة الّتي كانت الرقّع فيها أكبر من مساحة الثّوب نفسه.
انعكست ثقافة التّرقيع هذه على كافّة حياة النّاس في مجتمعات حكي تنور، فذا يرقّع دُيونه، وذاك يرقّع علاقاته، وآخر يرقّع دِينه بالصّلاة من حين لآخر، وغيره يرقّع زواجه، وأسرته، وظروفه النّفسية وو..
ولا زلت أذكر بهلول القرية، كان يدخل التّنور، ثمّ ينزوي محاذياً للباب، يجلس القرفصاء، بسرواله المفتوق بين فخذيه، فيتدلّى عضوه الذّكري، وتوابعه.
لينفجر ضحك النّساء، وتعليقاتهن، وتنتشر في المكان همسات، وغمزات لا قبل لي بذكرها..
دون أن أدري وإلى اليوم: لمَ لمْ يفكّر ذلك المجتمع بترقيع ما ينبغي ترقيعه في سروال ذاك البهلول..
فقد كان مشهده محط تنادر الذّكور، والإناث، كباراً، وصغاراً..
ولم يكن مردّ تقبله مكشوف العورة إلى وعي النّاس بقيمة الجسد كفطرة بتاتاً، بل لأنّ مجتمع حكي تنور اعتاد أكل لحم الضّعيف نيئاً.
عندما مات المسكين في موقعه الّذي ألفناه فيه فوق ركيزة صخريّة عند إحدى جنبات السّاحة، وهو متكىء على كوعه الأيمن، كان أوّل ما غطى النّاس منه، ذلك الجزء الّذي ظلّ بادياً قرابة خمسة عقود.
كبرت وأدركت أن عورة العقل لا رقعة تسترها.. ولأنّه كان بهلولاً، اعتقدَ مجتمعُ حكي تنور أن
“لا عورة لمجنون”. واكتشفتُ ألّا عورة لمجتمع حكي تنور، لأنّه لا عقل جماعي له، ينظّم أموره.. والأمر متروك على هواه..
فالفرد في مجتمع حكي تنور يخشى عورته الشّخصيّة، لكنّه لا يبالي بعوراته المجتمعيّة.
لأنّه مجتمع يتجنّب الحقائق، ويوارب الأبواب عنها.
فيواري الفرد دملة متقيّحة في جسمه، لئلا يتجشم عناء الإجابة على أسئلة النّاس عنها، وهو وإن عالجها، ستصبح واحدة من الكِنيات الّتي سيكنّى بها: (بو دملة).
فمجتمع حكي تنور لا يتقن علاج الدّمامل، بل ويفضل ألّا يفقيها.. من (فقى دملته)، وهو مجتمع يصرّ وبشكل جماعي على ترقيع كلّ شيء، مهما كان تنافر الرّقع فيما بينها فوق الثّوب المرقوع، وهو مجتمع لا يعتقد بأنّ “الثوب برقعته”.
ملاحظة طارئة لا أحتمل تجاوزها، من دون أن اذكرها هنا:
كانت لنا جارة طحنت رأس الجميع بالمثل القائل:
“ثوب العيرة ما بدوم، ولو دام ما بدفي”.
لكنّها لم تترك بيتا في القرية، لم تستعِر منه ولو رشّة ملح. كما يقال!
فقد كانت كلّ حياتها “ترقيعاً بترقيع”.
ولأنّنا مجتمعات لا تحكمها قوانين، ولا نظم، انسحب الأمر على السّياسة، حيث أفرزنا أمهر السّاسة المرقّعين محليّاً، وعلى مستوى الدّولة.
ولكثرة التّرقيع أجزم أنّ ترقيع الوضع الوطني سيكون أشهر من حذاء الطّنبوري في تاريخ البشريّة..
ذلك لأننا تركنا القرية تجتاح المدينة، وليس العكس.. فانحسرت المدنية الّتي كنا بحاجة لها لبناء المؤسسات والنّظم والقوانين، وانسحبت لصالح العائلات والعشائر الّتي قدِمَت إليها من الرّيف عبر الوظيفة عسكريّاً ومدنيّاً بقيادات، لا تتقن إلّا فن التّفشيخ والتّرقيع.
فالبيت الّذي بناه أبي لنا، كان النّموذج الأبرز للبيت الوطني العام، الّذي يعوّق دخولك إلى أيّ بيت مؤسّسي، من دون أن تعبر كافّة الغرف الطّائفية والحزبيّة والعائليّة والتبعيّة المرقعة.
وانسحب التّرقيع على كثير من الثّقافة والفنون. لتجد كاتباً رقع كتابه بألف رقعة من كتب أخرى، لدرجة حجب عنك قماشه الأساس.. وتجد موسيقيّاً رقّع لحناً بعشرات الرّقع من مشارق الأرض إلى مغاربها.. وتجد شاعراً رقّع قصيدة، بعدة عبارات منحولة، وشخصاً رقّع فتقه النّفسي ب “د.” قبل اسمه عبر شهادة “فوتوشوب أو أونلاين”.
حتّى صارت لنا مدناً كاملة من التّرقيع الّذي يجعلك منذهلاً أمام تنامي مجتمع حكي تنور الرّقعوي، والّذي يكاد يبتلع كلّ شيء من حوله بالتّرقيع الّذي ابتدعه.
وأذكر أنّ أبي قد تعطّل عن العمل شهوراً، فاضطر الجلوس في البيت.. ولأنّ من طبع الذّكر أن يتدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة، إذا لم يشغله عمل؛ صار أبي يتدخّل في فرم بصلة الطّبيخ إذا راحت أمي تعدّ الطّعام..
كانت أمّي ترقّع لي سروالاً، فراح أبي يتدخّل في عملها من حيث لون الرّقعة وخيطها، وموقعها من “برَا أم من جوّا”. حتّى تطور الأمر إلى جدل، فشجار، فتنازعا السّروال فيما بينهما، حتّى تمزق..
وهكذا، بين رقعة أمّي ورقعة أبي، بقيت مكشوف العورة لأسابيع قليلة.
* نص من كتاب “حكي تنّور”

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى